q
انصرفت عبارة (أئمة الجور) في الحديث الامامي الذي تسالمت عليه وروته مصادر الحديث الامامية لدى هؤلاء المحدثين من شيوخ المدرسة الحديثية الى كل خليفة وسلطان وملك تقلد منصب الخلافة والإمرة وتبوأ منصب السلطة في تاريخ الاسلام باعتباره غاصبا للمقام الاعظم للإمامة وعدم جواز شرعية منصبه...

نشأة مدرسة الحديث الامامية

الائمة الثلاثة المعروفون بأبناء الرضا وهم أبي جعفر محمد بن علي الجواد تـ 220 هـ وابي الحسن علي بن محمد الهادي تـ 254 هـ وأبي محمد الحسن بن علي العسكري تـ 260 هـ يشكلون حقبة تاريخية واحدة أطلق عليها الشيخ عباس القمي عصر التقية الشديدة، ولذلك يفسر قلة الأخبار المروية عنهم في الفقه والحديث، وكذلك ينتظمون في دور واحد وهو ما يفسر اطلاق لقب أبناء الرضا عليهم عامة، لكن هذه التقية كان لها معنى آخر لدى الشيخ المفيد ولذلك نعول عليها في البحث لقرب عصر المفيد من عصر الغيبة الصغرى وقرب اتصاله بعصر الأئمة فهو يقول عنهم (أن ملوك الزمان إذ ذاك كانوا يعرفون من رأي الأئمة عليهم السلام التقية، وتحريم الخروج بالسيف على الولاة، وعيب من فعل ذلك من بني عمهم ولومهم عليه، وأنه لا يجوز عندهم تجريد السيف حتى: تركد الشمس عند زوال، ويسمع نداء من السماء باسم رجل بعينه، ويخسف بالبيداء، ويقوم آخر أئمة الحق بالسيف ليزيل دولة الباطل)، الفصول العشرة في الغيبة، المفيد محمد بن النعمان بن عبد الله العكبري البغدادي، تحقيق فارس الحسون، ص 74، الطبعة بلا، السنة بلا -

ويقول في اعتزالهم شؤون السياسة والسلطان (فلما ظهر ذلك عن السلف الصالح من آبائه – الامام المهدي - عليهم السلام، وتحقق ذلك عند سلطان كل زمان وملك كل أوان، وعلموا أنهم لا يتدينون بالقيام بالسيف، ولا يرون الدعاء الى مثله على أحد من أهل الخلاف، وأن دينهم الذي يتقربون به الى الله عز وجل التقية، وكف اليد، وحفظ اللسان، والتوفر على العبادات، والانقطاع الى الله عز وجل بالأعمال الصالحات، أمنوهم على أنفسهم مطمئنين على أنفسهم، مطمئنين بذلك الى ما يدبرونه من شأنهم ويحققونه من دياناتهم، وكفوا بذلك عن الظهور والانتشار، واستغنوا به عن التغيّب والاستتار) – الرسالة الرابعة في الغيبة، محمد بن محمد بن النعمان المفيد، تحقيق علاء آل جعفر، الناشر المؤتمر الالفي للشيخ المفيد، مطبعة مهر، ص 12.

وتتماثل تلك الواقعة التاريخية التي ينص عليها المفيد مع عصر الأئمة الثلاث المتأخرين من أبناء الرضا مما سمح لهم بترسيخ معتقدات الامامية بين أتباعهم ومريديهم من الشيعة، وقد تبلور في عصرهم في النصف الاول من القرن الثالث الهجري تميز مذهب الأمامية عن غيرهم من مذاهب الشيعة من زيدية واسماعيلية وتميز عن غيرها من فرق الشيعة من فطحية وواقفية وغلاة مؤلهة، وكان يطلق على فرقة الامامية اسم القطعية وهي التي قطعت بموت الامام موسى بن جعفر – راجع فرق الشيعة، ابي محمد الحسن بن موسى النوبختي ص 90، المطبعة الحيدرية / النجف الطبعة الرابعة السنة 1388هـ - 1969م - مقالات الاسلاميين، أبي الحسن علي بن اسماعيل الأشعري، ص 88- 89، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، الطبعة الثانية السنة 1405هـ - 1985 م - - في قبالة الواقفية التي وقفت عليه بادعائها انه لم يمت وانما غاب وسيعود، واطلق عليها ايضا الموسوية في قبالة الفطحية التي نقلت الامامة من أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق الى عبد الله الأفطح بينما نقلت تلك الفرقة الامامة الى الامام موسى بن جعفر فاكتسبت اسم الموسوية أو الموسائية من اسمه في بعض المصادر- مقالات الاسلاميين، المصدر تفسه،ج1 ص 100.

وهذا التمييز لفرقة الامامية عن غيرها وتحديد اعتقاداتها في الأصول لاسيما في أصل الامامة لتمييزها عن غيرها انما صار في عصر هؤلاء الائمة الثلاث من أبناء الرضا، وقد صار اسم الامامية علما على هذه الفرقة في القرن الثالث الهجري واستعملته كتب الفرق المؤلفة في هذا العصر – راجع فرق الشيعة، مصدر سابق، ص 119 – مقالات الاسلاميين، مصدر سابق، ص 88- وهو عصر ظهور مدرسة الحديث وظهور طبقة من المحدثين في قم والري من أصحاب هؤلاء الائمة الثلاث أبناء الرضا – راجع تاريخ الفقه الامامي من النشوء الى القرن الثامن الهجري، مرتضى جواد الممدوح ص 97- 101، العتبة الحسينية، الطبعة الاولى السنة 1438 هـ، 2017 م - ممن اعتنى بدراسة الحديث وحفظه وروايته ووضعوا شروط الرواية ووثاقة الراوي وخلوه من الغلو حتى يأتمنوا على الحديث من الوضع والكذب ورواية الضعفاء وأحاديث الغلاة – راجع الفكر السلفي عند الشيعة الاثنا عشرية، د. علي حسين الجابري، ص 198 – 200، منشورات عويدات / بيروت باريس، الطبعة الاولى السنة 1977 - كليات في علم الرجال، جعفر سبحاني، ص 349، مؤسسة النشر الاسلامي / قم، الطبعة الثانية، السنة 1415هـ،-

لكن ما يذهب اليه الكثير من الباحثين في تحديد بداية المرحلة الحديثية أو الروائية وحتى التدوينية في بداية القرن الرابع الهجري – تاريخ الفقه الامامي، مصدر سابق، ص 115 – لا تؤيده وقائع تاريخ مدرسة الحديث الامامية والنقلية الروائية، فقد بدأت هذه المدرسة بالشكل المنهجي في الرواية والحديث مع الرواة والمحدثين من الامامية لاسيما في عصر الامام أبي جعفر محمد بن علي الجواد في نهاية القرن الثالث الهجري، وقد بلغ ما كتبه هؤلاء من كتب حديثية وروائية عن أئمة هذا العصر ما مجموعه 610 كتابا – تاريخ الفقه الامامي، مصدر سابق، ص 100، 101 – اضافة الى ست آلاف وستمائة كتاب كانت موجودة في هذا العصر على رواية الحر العاملي في وسائله – المصدر نفسه، ص 108 - وقد كانت أبرز سمات هذه المدرسة لاسيما في قم والري وأجزاء من خراسان والاهواز هو التشدد في الرواية عن الاصحاب الموثقين والعدول ورواية الحديث الصحيح عنهم ورفض ورد رواية الغلاة والضعفاء، وقد ساعد ذلك الضبط في العلم والحديث المروي عن أئمة أهل البيت في هذا العصر على حفظ هذا العلم وتراث أهل البيت ومن ثم شيوعه وانتشاره في أمصار الامامية في بغداد وحلب وجزئيا في البصرة وفي قم والري والاهواز، وقد ساعد على ذلك الانتشار أيضا الهدوء السياسي الذي طبع العلاقة بالخلافة العباسية بعد كف الامامية عن الخروج على السلطان اقتداء بأئمتهم، وهذا هو معنى التقية لدى المفيد اضافة الى ما تسالمت عليه هذه المدرسة الامامية وشيوخها من القميين والرازيين بالابتعاد عن دائرة السلطان والعمل في مؤسساته وحرمة التقاضي الى حكامه وقضاته التزاما منهم بالاحاديث المروية عن الأئمة بذم الدخول الى دائرة السلطان والتقاضي الى أئمة الجور - – راجع – فروع الكافي، باب عمل السلطان وجوائزهم، ثقة الاسلام محمد بن يعقوب الكليني، ضبط وتصحيح محمد جعفر شمس الدين، مج 5، ج 3 ص 99، وباب كراهية الارتفاع الى قضاة الجور، مج 7، ج 5 ص 450، دار التعارف، بيروت / لبنان، الطبعة الثانية، السنة 1417 هـ - 1997 م –.

ورغم سياسة الجور التي ظلت مستمرة تجاه أئمة أهل البيت كما ينقل ذلك أحد شهود هذا العصر من القرن الثالث الهجري وهو الكاتب والمتكلم الامامي أبي محمد الحسن بن موسى النوبختي – راجع فرق الشيعة، مصدر سابق، ص 118- الا أن انشغال الدولة العباسية بأزماتها ومشاكلها السياسية والمالية وصراعات البيت العباسي حول الخلافة فيها ومؤامرات القادة الترك وعساكرهم ثم حروبها مع الحركات الشيعية من غير الامامية من قرامطة في مناطق شرق الجزيرة العربية واسماعيلية في مصر وبلاد الشام وزيدية في طبرستان واليمن – راجع البداية والنهاية، عماد الدين أبي الفداء اسماعيل ين عمر بن كثير، مراجعة وضبط د. سهيل زكار، ج 10 ص 2925 وما بعدها - ونتج عن انشغالات الدولة العباسية هذه تلك الفسحة التاريخية من الامن السياسي للامامية فتمكنت ان تنشط في حواضرها الآنفة حركة العلم الديني والفقهي والحديثي فانتشرت الرواية والحديث والتداول المتواصل للأصول الأربعمائة وهي الكتب الحديثية والروائية والتي كتبت في زمن متقدم على هذا العصر، ويطلق اسم الاصل على الكتب الروائية التي تضم الأحاديث التي سمعها ورواها صاحب الاصل من الإمام مباشرة وبلا واسطة أو بواسطة ممن سمع وروى عن الإمام مباشرة ولا يدخل فيها ما ينقل من حديث ورواية عن كتاب آخر، وتعد هذه الاصول المصادر الأولى للعقيدة والفقه الاماميين وكتبها أصحاب الائمة ابتداء من عصر الامام علي بن أبي طالب حتى عصر الامام أبي محمد الحسن بن علي العسكري، وقد كتب أغلب هذه الاصول اصحاب أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق تـ 148هـ وأصحاب ولده ابي الحسن موسى بن جعفر الكاظم تـ 183 هـ اضافة الى ما دونوه من حديث ورواية عن أبيه أبي جعفر محمد بن علي الباقر تـ 114هـ - معالم المدرستين، مرتضى العسكري، ج 3 ص 258، دار كميل / البحرين، الطبعة الرابعة.

واضافة الى هذه الاصول كانت هناك مدونات حديثية أخرى في عصر الحضور تكفلت كتب الفهارس الامامية بذكرها وذكر أسماء من كتبها اضافة الى ذكرها الاصول وذكر أسماء أصحابها، وكانت ظاهرة الفهارس اختصت بمذهب الشيعة -الامامية في قبالة كتب الرجال أو علم الرجال الذي وضعه اهل السنة، وتعنى كتب الفهارس بالكتب الحديثية والروائية والفقهية والكلامية التي كتبها ووضعها المحدثين والفقهاء والمتكلمين الاماميين وغالبا ما كان ذكر الكتاب والاصل الامامي في الفهرست يتضمن توثيق صاحبه أو راويه أو كاتبه وهو جزء من نشاط أو حركة مدرسة الحديث الامامية، وقد عرفت الامامية هذا النوع من التأليف والكتاب في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري أي في عصر الغيبة الصغرى وأقدم كتاب فهرست وضعه شيخ القميين المحدث سعد بن عبدالله الأشعري تـ 301هـ وتبعه في ذلك المسلك من التأليف عدد من محدثي الامامية من القميين – راجع فهارس الشيعة ج1 ص38 -43، جمع وتحقيق مهدي خداميان، قم، مؤسسة تراث الشيعة، الطبعة الاولى السنة 1431هـ -.

وقد صنفت تلك الفهارس أنواعا عديدة من الكتاب الامامي فهناك الكتاب والنوادر والمصنف اضافة الى الاصل، فالكتاب هو أعم من هذه الأصناف والاصل ما كانت أحاديثه سماعا من الأمام، والمصنف ما كانت أحاديثه نقلا عن كتاب آخر، والنوادر ما كانت أحاديثها غير مشهورة وأحكامها غير متداولة، ويرى بعض اهل الاختصاص أن تلك المعاني والألفاظ مترادفة وغير متميزة بقوة لكنها لدى البعض الآخر متقابلة ومحددة – راجع كليات في علم الرجال، مصدر سابق، 474-480 – وقد أشار شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي تـ 460هـ الى ذلك التقسيم في كتب الامامية في مقدمة كتابه الاستبصار بقوله "مما ورد في أحاديث أصحابنا وكتبهم وأصولهم ومصنفاتهم" – الاستبصار فيما اختلف فيه من الاخبار، محمد بن الحسن الطوسي، ج 1 ص5، الأمير للطباعة والنشر، الطبعة الأولى السنة 1429هـ - 2008 م - وهي تعكس حجم ونوع التأليف وحركة التدوين التي انشغل بها هذا العصر منذ بدايات القرن الثالث الهجري أي منذ عصر امامة أبي جعفر محمد بن علي الجواد واستمر حتى ظهور المدونات الحديثية الكبرى في عصر الغيبة الصغرى التي استوعبت وحفظت ما تبقى من الأصول الأربعمائة بعد تعرضها الى الضياع نتيجة لتطاول العصور عليها وتفرق نسخها بين الامامية وحواضرهم حتى لم يبق منها الى عصرنا هذا الا ستة عشر أصلا جمعتها وحققتها بعض مراكز البحث الامامية– راجع الأصول الستة عشر من الأصول الأولية، تحقيق ضياء الدين المحمودي، مركز بحوث دار الحديث، الطبعة الاولى السنة 1423هـ -.

ولكن الوسيلة التي وصلت الينا من خلالها هذه الأصول أو بعضها هي كتب الحديث الأربعة فصارت هذه الكتب بمصادرها تلك اضافة الى روايات محدثيها وأصحابها مصادر الحديث الرئيسية عند الامامية وأول هذه الكتب وأهمها كتاب "الكافي" لمؤلفه محمد بن يعقوب الكليني تـ 329هـ وهو يعد عند الامامية من أهم كتب الحديث والفقه ولا يتقدم عليه كتاب في موضوعه وقد أثنى عليه فقهاء وعلماء الامامية منذ أعصرهم القديمة الى يومنا هذا بما يستفاد منه أنه لا يدانيه أي كتاب لدى الامامية في حديثه وفقهه، وقال عنه العلامة المجلسي "ابتدأت بكتاب الكافي للشيخ الصدوق ثقة الاسلام مقبول طوائف الانام ممدوح الخاص والعام محمد بن يعقوب الكليني..... لأنه كان أضبط الأصول وأجمعها وأحسن مؤلفات الفرقة الناجية وأعظمها" – راجع كليات في علم الرجال، مصدر سابق، ص 356 – وقد حاول الشيخ الكليني صاحب الكافي أن يجمع فيه تلك الأصول الأربعمائة ومدونات حديثية صغيرة أخرى بعد أن جاب البلاد وبحث على مدى عشرين عاما، وقد تتبع السيد مرتضى العسكري طرق روايته واسانيده الى تلك الأصول لمعرفة كيفية أخذه والمحدثين الآخرين من هذه الاصول ومدونات أصحاب الأئمة – راجع معالم المدرستين، مصدر سابق، ج 3 ص 258- 259 –، ويعد كتاب الكافي ومؤلفه خلاصة وخاتمة هذه المدرسة الحديثية الامامية التي رسخت عقائد الامامية في الامامة والحجة والعصمة والعلم اللدني وجائرية السلطة غير المعصومة وبالتالي مغصوبية الحكم فيها، ورسخت عقيدة الانتظار للفرج على أثر عقيدة جائرية السلطة غير المعصومة وعقيدة الحجة التي تنص على عدم جواز خلو الأرض من الحجة وهو العنصر المؤسس في عقيدة الامامة في الدليل العقلي الامامي اضافة الى دليل الامامية في النفل والرواية.

وقد انصرفت عبارة (أئمة الجور) في الحديث الامامي الذي تسالمت عليه وروته مصادر الحديث الامامية لدى هؤلاء المحدثين من شيوخ المدرسة الحديثية الى كل خليفة وسلطان وملك تقلد منصب الخلافة والإمرة وتبوأ منصب السلطة في تاريخ الاسلام باعتباره غاصبا للمقام الاعظم للإمامة وعدم جواز شرعية منصبه ويبدو ذلك من المسلمات بالنسبة لهذه المدرسة الروائية، ولذلك نشهد هذا الابتعاد الذي سلكه محدثي ورؤساء هذه المدرسة من القميين والرازيين – نسبة الى الري – والاهوازيين مع السلطة السياسية بينما كان البغداديون من فقهاء الامامية ومن رؤساء المذهب الامامي في عصرهم في القرن الرابع الهجري وقبله بقليل يدخلون في دائرة العمل مع السلطان وفي ادارة المال والخراج لاسيما من النوبختيين وغيرهم من امامية الكرخ والبصرة – راجع آل نوبخت، عباس اقبال الاشتياني، ترجمة علي هاشم الاسدي، مجمع البحوث الاسلامية / مشهد، الطبعة الاولى، السنة 1425هـ - وراجع معجم البلدان، ياقوت الحموي، ج 16، ص 447، دار صادر، دار بيروت، السنة 1374هـ 1955 م.

لكن رغم عدم شرعية السلطة وعدم شرعية العمل في دوائرها في نظر المحدثين الاماميين الاوائل الا انهم لم يرو جواز الخروج على السلطان وأجمعوا على عدم إباحة هذا الخروج قبل قيام القائم – المهدي المنتظر، واعتقدوا بضلال كل راية خرجت قبل عصر الظهور. ولعل مناسبة روايتهم تلك الاحاديث والتشديد على الالتزام بها هو كثرة الخارجين من فرق الشيعة الأخرى من اسماعيلية وزيدية في هذه العصور على الدولة العباسية وتأسيس دول لهم في مصر وبلاد المغرب الفاطمية وطبرستان واليمن الزيدية، ومن اجل ان يتحدد موقف الامامية بإزاء هذه المتغيرات والاحداث السياسية الخطيرة كانت رواية الشيخ الكليني تـ 329هـ الذي عاصر تاريخ هذه الدول وظهور فرقهم لروايات عدم جواز الخروج على السلطان في كتابه الكافي، بينما نجد عدم تشديد او رواية هذه الاحاديث في مصادر الحديث الامامية المعتمدة بعد كتاب الكافي وهي كتاب (من لا يحضره الفقيه) للشيخ الصدوق وكتاب (تهذيب الاحكام) وكتاب (الاستبصار) للشيخ الطوسي أو نجد بعض الروايات القليلة والمختصرة في النهي عن الخروج على السلطان في كتاب (علل الشرائع) للقمي الصدوق تـ 381هـ وكتاب الغيبة للطوسي تـ 448هـ وقد شهدت هذه الدول وفرقها الشيعية في عصر هؤلاء الفقهاء والمحدثين استقرارا ونفوذا كبيرا بل وتعاطفا أحيانا من الشيعة الامامية بوجه الدولة العباسية – راجع عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، جمال الدين أحمد بن علي الحسني، ص 235، دار الاندلس / النجف السنة بلا، الطبعة بلا - ورغم عدم اشارة هذه المصادر الحديثية المتأخرة الى حرمة الخروج على السلطان أو ضلالة كل راية تخرج قبل قيام القائم لكن الموقف الامامي من الخروج على السلطان استمر على ما هو عليه من الالتزام بموقف ورؤية ورواية المحدثين الاماميين الاوائل وشيوخ مدرسة الحديث الامامية.

نظرية الخروج على السلطان

لقد دأبت مصادر الاسلام السياسي وهنا نركز على الفكر السياسي الشيعي المعاصر، دأبت على تأكيد الصفة الثورية والحركية للمذهب الشيعي، ونسبت أدبيات هذا الفكر المعاصر حركات الثائرين من الشيعة وزعماء هذه الحركات من العلويين الى خط الائمة – راجع شيعة العراق ودولهم، ناصر حسين الأسدي، ص 107 – 136، مكتبة ابن فهد الحلي / كربلاء الطبعة بلا، السنة بلا - فانغرست فكرة الثورة والخروج على السلطان في الذهنية الامامية المعاصرة بل نسبت هذه الادبيات السياسية بل وحتى الأدبيات الامامية الأخرى عدم شرعية الخروج على السلطان الى مذاهب السنة حصرا، وتناولتها بالنقد والرفض وأكدت ضمنا أو صريحا وجوب الخروج على السلطان الجائر لدى الامامية - راجع معالم المدرستين، مصدر سابق ج 2 ص 260 -، لكن الى أي مدى تمثل تلك الآراء موقف الامامية من الخروج على السلطان؟

لو عدنا الى موقف المحدثين الاماميين أو الى آراء مدرسة الحديث الامامية لوجدنا أن الأمر على خلاف ما ذهب اليه هذا الفكر الديني السياسي المعاصر، وأن مصادر هذا الفكر في الخروج على السلطان الجائر لم تكن امامية خالصة وبإتقان، بل نحلت من فرق أخرى شيعية وغيرها. فقد أورد الاشعري في كتابه مقالات الاسلاميين أن الفرق التي ترى جواز الخروج بالسيف أو وجوبه على أهل البغي على حد عبارته هم المعتزلة والزيدية والخوارج وكثير من المرجئة، وقالوا بالوجوب مع الامكان بإزالة أهل البغي بالسيف واقامة الحق واعتلوا بقول الله عز وجل "وتعاونوا على البر والتقوى" وبقوله " فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر الله " واعتلوا بقوله عز وجل "لا ينال عهدي الظالمين" بينما قالت " الروافض " والقول له بإبطال الخروج بالسيف ولو قتلت حتى يظهر الامام فيأمر بذلك، وينقل قول أصحاب الحديث من أهل السنة في انكارهم الخروج على السلطان وأن ازالته ليس لأحد وان كان فاسقا – مقالات الاسلاميين، مصدر سابق، ج 2 ص 125.

واختلف القائلون بجواز الخروج أو وجوبه في العدد الذي يحل به الخروج، فقالت المعتزلة اذا كنا جماعة وكان الغالب عندنا أنا نكفي مخالفينا عقدنا للإمام ونهضنا فقتلنا السلطان وأزلناه، وقالت الزيدية أقل المقدار الذي يكون فيه الخروج هو مثل عدّة اهل بدر فيعقدون ثم يخرجون على السلطان، بينما قالت فرق أخرى بغير هذا العدد لكن الامامية " الروافض " قالت " لا يجوز شيء من ذلك إلا للإمام أو من يأمره " – المصدر نفسه ج2 ص 140- 141 - وهذه الآراء في عدم شرعية جواز الخروج على السلطان بالسيف تبنتها مدرسة أهل الحديث الامامية التي سادت في الوسط الامامي على مدى القرن الثالث والرابع الهجريين واستمرت في ريادتها حتى ظهور بوادر المدرسة الأصولية والاجتهادية مع مدرسة بغداد في عصر الشيخ المفيد في القرن الخامس الهجري، لكنها ظلت على ذلك المسلك في العمل بالتقية واجتناب السلطان وانتظار الفرج على يد الامام، بل تعمق الانتظار فيها الى حد بلوغه مستوى العقيدة لدى الشيعة الامامية، وكانت آراء الامامية ظاهرة في هذا العصر ولم تكن تخضع الى مبدأ التقية التي فهمت في هذا العصر وفق الشيخ المفيد بانها كف اليد عن السيف بالخروج على السلطان وحفظ اللسان والتوفر على العبادات كما مر معنا، وقد كان الامامية في سعة وأمان من السلطان وكانت مدارسهم ومعاهدهم ظاهرة معلنة في بغداد وبقية حواضرهم في عصر بني بويه ودولتهم الشيعية، وحين ترجع الى أهم كتبهم التي ألفت وكتبت في هذا العصر وهو كتاب " الكافي " للشيخ الكليني نجد ما يؤيد قول الاشعري ونقله عن الامامية لاسيما وأن الأشعري قد عاصر حياة الشيخ الكليني وكانت سنة وفاتهما متقاربة أو واحدة وهي سنة 329هـ أو 330هـ على قول آخر، ويؤيدهما فيما ذهبا إليه محدث امامي آخر هو محمد بن علي بن حسين بن موسى بن بابويه المعروف بالشيخ الصدوق تـ 381هـ فيما رواه في كتابه "علل الشرايع" وهو من أبرز ممثلي مدرسة أهل الحديث الامامية.

فقد روى الكليني في كتاب الكافي "عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن صفوان بن يحيى، عن عيص بن القاسم قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم، فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فاذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها، والله لو كانت لاحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرب بها ثم كانت الاخرى باقية تعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة فأنتم أحق أن تختاروا لأنفسكم، إن أتاكم آت منا فانظروا على اي شيء تخرجون، ولا تقولوا: خرج زيد، فإنّ زيداً كان عالما وكان صدوقا ولم يدعكم إلى نفسه، وإنما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه إنما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه، فالخارج منا اليوم إلى اي شيء يدعوكم إلى الرضا من آل محمد (عليه السلام) فنحن نشهدكم انا لسنا نرضى به وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد، وهو إذا كانت الرايات والالوية أجدر أن لا يسمع منا إلا من اجتمعت بنو فاطمة معه، فوالله ما صاحبكم إلا من اجتمعوا عليه إذا كان رجب فاقبلوا على اسم الله، وإن أحببتم أن تتأخروا إلى شعبان فلا ضير، وإن أحببتم أن تصوموا في أهاليكم فلعل ذلك يكون أقوى لكم، وكفاكم بالسفياني علامة. – روضة الكافي، ثقة الاسلام محمد بن يعقوب الكليني، ضبط وتصحيح محمد جعفر شمس الدين، ج8 ص 210 رقم الحديث 381، دار التعارف، بيروت / لبنان، الطبعة الثانية، السنة 1417 هـ - 1997 م -

وفي هذا الحديث الذي بلغ الحجية عند المحدثين الاوائل فان النهي عن الخروج على السلطان هو ما يتضمنه وأنه لا شرعية في الخروج لأحد من الشيعة بعد زيد ابن علي ابن الحسين، ويبدو في الحديث أن بعض الشيعة كانوا يرون في خروج زيد مبررا شرعيا كافيا لهم في الخروج على السلطان، ويتضمن الحديث النهي الدائم عن هذا الخروج قبل عصر الظهور ولا يختص بعصر دون عصر فالمعني بكلمة "فوالله ما صاحبكم إلا من اجتمعوا عليه" هو الامام المهدي – المنتظر ولغرض توقيت عصره جعل الامام الصادق للشيعة علامات على ذلك أولها اجتماع بني فاطمة عليه وظهور السفياني الذي تكون علامته هي الاهم في تحديد عصر جواز الخروج على السلطان بظهور الامام المهدي – المنتظر، هكذا فهم المحدثون من الشيعة في عصر الغيبة الصغرى شروط وحدود علاقتهم بالسلطة والسياسة، وطبيعة الفهم الحديثي في مدرسة المحدثين في قم والري هو الأخذ بظاهر الحديث والمعنى المبسوط والمباشر من الحديث، لكن الحديث لا يشير الى جواز أو عدم جواز العمل مع السلطان رغم أنه لا يجيز الخروج ضمنا على السلطان، ويؤيده الحديث الذي يرويه الكليني عن الامام علي ابن الحسين ونصه " وعنه، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن ربعي رفعه، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: والله لا يخرج أحد منا قبل خروج القائم إلا كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل أن يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به "- المصدر نفسه، ج8 ص 211 رقم الحديث 382-

وهكذا تأسس عند المحدثين الاوائل فكرة الفشل في الخروج على السلطان في كل عصر قبل عصر الظهور، ولم يكتفي المحدثون بتوكيد الفشل والنهي عن الخروج بل رووا نهي الائمة أصحابهم عن الخروج، فقد روى الكليني " عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن بكر بن محمد، عن سدير قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): يا سدير ألزم بيتك، وكن حلسا من أحلاسه، واسكن ما سكن الليل والنهار، فاذا بلغك أن السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك "المصدر نفسه، ج8 ص 211 رقم الحديث 283 -. أما أولئك الذين يرومون الخروج على السلطان فانهم منعوتون في الرواية لدى الكليني عن الامام ابي جعفر محمد الباقر بالمحاضير في الحديث (وفي نسخة المحاصير والمحاضير جمع محضار وهو الفرس المسرع في العدو والمحاصير جمع محصور هو الضيق الصدر القليل الصبر شرح المحقق على الهامش) فقد جاء في الكافي " وعنهم، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن حفص بن عاصم، عن سيف التمار، عن أبي المرهف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الغبرة على من أثارها، هلك المحاضير، قلت: جعلت فداك وما المحاضير؟ قال: المستعجلون، أما إنهم لن يردوا إلا من يعرض لهم ـ ثم قال: ـ يا أبا المرهف: أما إنهم لم يريدوكم بمجحفة إلا عرض الله لهم عز وجل لهم بشاغل ثم نكت أبو جعفر (ع) في الارض ثم قال: أترى قوما حبسوا أنفسهم على الله عز وجل لا يجعل لهم فرجا؟ بلى والله ليجعلن الله لهم فرجا" – المصدر نفسه، ج8 ص 218 رقم الحديث 411 -

بل أن الكليني يروي موقف الامام الصادق من خروج بعض الشيعة مع حركة المسودة العباسية وينبني موقف الامام الصادق هذا على فكرة الانتظار وفق ما فهمه المحدثون فيروي الكليني "عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن عبد الرحمن بن أبي هاشم، عن الفضل الكاتب قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) فأتاه كتاب أبي مسلم، فقال: ليس لكتابك جواب اخرج عنا، فجعلنا يسار بعضنا بعضا فقال: أي شيء تسارون يافضل، ان الله عز ذكره لا يعجل لعجلة العباد، ولإزالة جبل عن موضعه أيسر من زوال لم ينقض أجله ـ إلى أن قال: ـ قلت: فما العلامة فيما بيننا وبينك جعلت فداك؟ قال: لا تبرح الارض يا فضل حتّى يخرج السفياني فاذا خرج السفياني فأجيبوا إلينا ـ يقولها ثلاثا ـ وهو من المحتوم" – المصدر نفسه، ج8 ص 219 رقم الحديث 412 –

وكذلك روى الكليني " وعن حميد بن زياد، عن عبيد الله بن أحمد الدهقان، عن علي بن الحسن الطاطري، عن محمد بن زياد، عن أبان، عن صباح بن سيابة، عن المعلى بن خنيس قال: ذهبت بكتاب عبد السلام بن نعيم وسدير وكُتُب غير واحد إلى أبي عبدالله (ع) حين ظهر المسودة قبل أن يظهر ولد العباس بأنا قد قدرنا أن يؤول هذا الأمر إليك، فما ترى؟ قال: فضرب بالكتب الأرض، قال: أف أف ما أنا لهؤلاء بإمام، أما يعلمون انه إنما يقتل السفياني". المصدر نفسه، ج8 ص 258 رقم الحديث 509 -

وفي شرعية عدم الخروج لدى المحدثين قبل عصر الظهور يروي الكليني " عنه، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن الحسين بن المختار، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عزّ وجلّ " المصدر نفسه، ج8 ص 234 رقم الحديث 452-

وقد صادف عصر الغيبة الصغرى عند الشيعة الامامية ظهور الدعوة الفاطمية وانتشارها في أقطار العالم الاسلامي وقيامها على الدعوة الى اعادة الخلافة الى آل علي من بني فاطمة وسلالتهم في النسب الملحق بإسماعيل الامام الاسماعيلي ابن الامام جعفر الصادق المشكوك به من وجهة نظر الامامية، فقد روت مصادر الامامية موت اسماعيل في حياة أبيه لكنهم اكتسبوا تأييدا وقبولا من بعض الشيعة وغيرهم وادعوا بأن الخارج منهم هو من سلالة الامام الصادق، ولغرض تفنيد مقولتهم تلك روى المحدثون الاماميون حديث الامام الصادق في الموقف من خروج الرجل من آل علي على السلطان وفي هذا روى الكليني " عنه، عن أحمد، عن علي بن الحكم، عن أبي أيوب الخزاز، عن عمر بن حنظلة قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: خمس علامات قبل قيام القائم: الصيحة، والسفياني، والخسف، وقتل النفس الزكية، واليماني، فقلت: جعلت فداك إن خرج أحد من أهل بيتك قبل هذه العلامات أنخرج معه؟ قال: لا..." المصدر نفسه، ج8 ص 245 رقم الحديث 483-

ويجد المحدثون من الامامية الأوائل تبريرا مستمدا من الامام المعصوم حول دوافع عدم الخروج على السلطان الجائر ويروي ذلك الذي يجدونه تفسيرا وليس مجرد تبريرا شيخ المحدثين في عصره محمد بن علي بن حسين بن موسى بن بابويه الصدوق تـ 381ه ـفي كتابه (علل الشرائع) عن محمد بن علي ماجيلويه، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن يحيى بن عمران الهمداني، ومحمد بن إسماعيل بن بزيع جميعاً، عن يونس ابن عبد الرحمان، عن العيص بن القاسم قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: اتقوا الله وانظروا لأنفسكم، فإنّ أحقّ من نظر لها انتم، لو كان لأحدكم نفسان فقدم إحداهما وجرب بها استقبل التوبة بالأخرى كان، ولكنها نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة، إن أتاكم منا آت ليدعوكم إلى الرضا منا فنحن نشهدكم إنا لا نرضى إنه لا يطيعنا اليوم وهو وحده وكيف يطيعنا إذا ارتفعت الرايات والأعلام. - علل الشرايع، محمد بن علي بن حسين بن موسى بن بابويه الصدوق، ص 577، باب 385، رقم الحيث 1، منشورات المكتبة الحيدرية / النجف الأشرف، السنة 1966 م - والقصد بارتفاع الرايات والاعلام هو عصر الظهور للامام المهدي المنتظر.

ويروي محمد بن الحسن الحر العاملي صاحب الوسائل عن الحسن بن محمد الطوسي ولد شيخ الطائفة الطوسي " وعن أبيه، عن المفيد، عن أحمد بن محمد العلوي، عن حيدر بن محمد بن نعيم، عن محمد بن عمر الكشي، عن حمدويه، عن محمد بن عيسى، عن الحسين بن خالد قال: قلت لابي الحسن الرضا (عليه السلام): إن عبدالله بن بكير كان يروي حديثا وأنا احب أن اعرضه عليك، فقال: ما ذلك الحديث؟ قلت: قال ابن بكير: حدثني عبيد بن زرارة قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) أيام خرج محمد بن عبدالله بن الحسن إذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له: جعلت فداك إن محمد بن عبدالله قد خرج فما تقول في الخروج معه؟ فقال: اسكنوا ما سكنت السماء والارض، فقال عبدالله بن بكير: فإن كان الامر هكذا أو لم يكن خروج ما سكنت السماء والارض فما من قائم وما من خروج، فقال أبو الحسن (عليه السلام): صدق أبو عبدالله (عليه السلام) وليس الامر على ما تأوله ابن بكير، إنما عنى أبو عبدالله (عليه السلام) اسكنوا ما سكنت السماء من النداء، والارض من الخسف بالجيش. " - وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، ج 15 ص 50 -51، تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث / قم، الطبعة الثانية، السنة 1414 هـ -

وينقل الحر العاملي عن شيخ المحدثين الصدوق روايته هذا الحديث في (عيون الاخبار) وفي (معاني الاخبار) عن أبيه، عن أحمد بن إدريس، عن سهل بن زياد، عن علي بن الريان، عن عبيد الله الدهقان، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) – المصدر نفسه، ج 15، ص 51 -

. ويروي شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي تـ 460 هـ في كتاب الغيبة عن الفضل – الفضل بن شاذان -، عن الحسن بن محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الزم الارض ولا تحرك يدا ولا رجلا حتى ترى علامات اذكرها لك، وما اراك تدركها: اختلاف بني فلان، ومناد ينادي من السماء، ويجيئكم الصوت من ناحية دمشق........ وراية الاصهب وراية السفياني) الحديث، وفيه علامات تشير الى خروج المهدي – كتاب الغيبة، أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ص 269، تقديم آغا بزرك الطهراني، مكتبة بصيرتي، الطبعة الثانية، السنة 1385 هـ - وقد كتب الشيخ الطوسي كتابه هذا على طريقة المحدثين من الامامية الذين سبقوه.

الحركة الدستورية والخروج على السلطان

استمر الشيعة الامامية على ذلك المنوال من التقيد بالوصايا المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام حتى القرن الثالث عشر الهجري عندما رأى بعض فقهاء الامامية أن الكف عن السياسة واقتفاء أثر القدماء من المحدثين في اجتناب السياسة وشؤون الحكم ومع ازدياد خطر الغرب- المسيحي في القرن التاسع عشر الميلادي ومحاولاته فرض سلطته على البلاد الاسلامية ومسالمة الحاكم المسلم له على هذا المنوال من الخضوع الى ارادة الغرب - المسيحي المستعمر يعرض الاسلام وبلاد الاسلام الى خطر الزوال والاضمحلال، وكانت حركة المشروطة أول تطور فقهي امامي في ترويض السلطان الجائر وكبح سلوكه في جوره وهو تطور يستجيب الى تحدي هذا المتغير السياسي الدولي الذي قلب موازين القوى لصالح الغرب – المسيحي وبداية انهيار الدولة العثمانية والدولة القاجارية وهو ما يهدد دول الاسلام التي كانت تعد سلاطينها وملوكها حماة للدين والمسلمين.

وقد تنبه بعض فقهاء الامامية من المتأخرين الى ان الخطر يكمن في جور السلطان وبغي الاستبداد في بلاد الاسلام، وكان هؤلاء الفقهاء هم رؤساء الحركة الدستورية او المشروطة في ايران والعراق – راجع المصلح المجاهد الشيخ محمد كاظم الخراساني، عبد الرحيم محمد علي، ص 15 – 20، مطبعة النعمان / النجف، الطبعة الأولى، السنة 1392 ه – 1972 م - ورغم ذم الظلم وتنكير الجور ومدح العدل في التراث الامامي وتحذير الرواية الامامية من دخول دوائر الجور والعمل مع السلطان الجائر حتى نهى الأئمة عن عقد خيط لحاكم جائر أو إبراء قلم لهم مخافة من المشاركة في أثمهم، إلا أن الفقهاء من الامامية اكتفوا بالنصوص المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وتوقفوا عند حدودها ولم يتحروا فيها التوسع والاستدلال الفقهي، ولم نجد رسالة لهم في نقض الجور وتفنيد الاستبداد، ولعل ذلك يعود الى طبيعة نهجهم وطريقتهم في الدرس والتحصيل العلمي – الفقهي، ولعله اكتفاء بالمعنى الوافر في الاحاديث عن أئمة الهدى لاسيما خطب الامام علي بن أبي طالب وولده أبي عبد الله الحسين بن علي قتيل العبرات وأسير الكربات وضحية الجور والاستبداد. وكذلك فكرة أو عقيدة الانتظار التي ألهمت فقهاء الامامية الصبر على سلوك الطغاة ومصائر الاستبداد فلم يتعرضوا للظلم ولم يخرجوا بحد السيف على الحاكم الجائر ولم يناقشوا في دروس ورسالات الفقه مسألة التصدي ومقاومة الجور والاستبداد، تسليما لأمر الله تعالى وقضائه وعملا ببعض الروايات الصادرة عن أئمة الهدى في تجنب كل راية ترفع قبل قيام القائم من آل محمد عليهم السلام، ولعل مراجعة باب حكم الخروج بالسيف قبل قيام القائم في كتاب وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة (ج 15) للشيخ محمد حسن الحر العاملي تكشف عن ايمان هؤلاء الفقهاء بالصبر على الجور والاستبداد انتظارا لقيام القائم من آل محمد عليهم السلام وظهور الحجة المؤيد بالنصر من الله تعالى.

لكن أول فقيه إمامي مارس التأويل في تلك الأخبار واجتهد في الاستدلال على وجوب مواجهة الجور والاستبداد هو العلامة المجتهد والمرجع في عصره الشيخ محمد حسين النائيني، وقد كتب في ذلك كتابه الشهير (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) وكان الشيخ رحمه الله تعالى من مؤسسي وناشطي الحركة الدستورية ومن مجموعة الفقهاء المجتهدين من الامامية الذين تصدوا للاستبداد وصرحوا بالخطر الكامن فيه على الأمة واسلامها وحضارتها وهي في أوج المواجهة مع الغرب الاستعماري في مطلع القرن العشرين وكانت بداية حركة الاستعمار فيه.(لكن هناك من يرى أن أول كتاب في مصادر المشروطة هو كتاب اللئاليء المربوطة في وجوب المشروطة لمؤلفه الشيخ محمد اسماعيل الغروي المحلاتي – راجع المصلح المجاهد الشيخ محمد كاظم الخراساني، ص 92 -96) -.

وقد وجدوا أن الخطر يكمن في الداخل الإسلامي ثم في درجة ثانية في الخارج الغربي، وموضع الخطر وخلاصة أزمة الشرق الإسلامي هو في الاستبداد وطغيان الملوك والسلاطين واقصاء الشعب والأمة عن الحكم والمشاركة في صناعة القرار وإدارة شؤون البلاد – راجع تنبيه الامة وتنزيه الملة، آية الله المحقق النائيني، تحقيق عبد الكريم آل نجف، تعريب عبد المحسن آل نجف، ص100 – 110، مؤسسة أحسن الحديث / قم، الطبعة الأولى / السنة 1419هـ - ويؤكد النائيني أن الانحطاط في حياة المسلمين يعود الى خلود المسلمين الى ذل الأسر والاستعباد ورزوحهم تحت نير حكم استبدادي موروث عن معاوية والقول له – راجع المصدر نفسه، ص 137 – وهي دعوة الى مواجهة السلطان الجائر والمستبد بشؤون البلاد.

ولم نشهد لها دعوة سابقة في تاريخ فقهاء الامامية، ولهذا الغرض أُنشأت حركة المشروطة وهي التسمية الدارجة للحركة الدستورية في ايران والعراق في العقد الأول من القرن العشرين، وكانت المشروطة قد وضعت في قبالة المستبدة وهي وجهة نظر بعض الفقهاء ممن لا يرون شرط الدستور والانتخابات ومشاركة الأمة في إدارة الحكم ونظام الدولة، وهي عناصر الحركة الدستورية أو المشروطة التي نظر لها ورسخها فقهيا الشيخ النائيني وكانت مجموعة المستبدة تعتمد تأويل آخر لعدد من الروايات والاخبار عن أئمة الهدى، والتي لم تغب عن ذاكرة ومراجعة فقهاء الدستورية او المشروطة ونجد مناقشتها في ثنايا هذا الكتاب المهم لكنها إما تجري مجرى التأويل الناقض لديهم لفكرة المستبدة والتسليم للاستبداد أو تعارض بروايات أكثر رجحانا – راجع المصدر نفسه، ص 166 – ص 172 - وأقرب في المعنى الى كتاب الله تعالى المأمور بعرض الروايات عليه في حديث الامام أبي عبد جعفر بن محمد الصادق والأخذ بما يتوافق واياه وهو ما صنعه الشيخ النائيني في اجتهاده في الدستورية ونقض الاستبداد.

ولعل اهم ما تمسك به فقهاء المشروطة ونابذي الاستبداد ومعارضيه هو موقف الامام الحسين بن علي عليه السلام في يوم الطف وفي كلماته في واقعة كربلاء ولذلك كان في مستند ومصدر الشيخ النائيني في رؤيته الفقهية في معارضة الاستبداد ومكافحة الجور. فيقول (فعلم المسلمون أن الحرية التي منحها الله سبحانه لهم تصطدم مع الرقيّة لفراعنة الأمة واستأنسوا بالحقوق المشروعة كالمساواة والمشاركة في جميع الأمور مع الحكام ومعلنين ان إراقة دمائهم الطيبة في سبيل هذا الهدف هو من أعظم ما يوجب السعادة والحياة للشعب ومؤثرين التضمخ بالدم على الحياة الذليلة الأسيرة للظالمين وقد تعلموا كل هذا من سيد المظلومين عليه السلام حيث قال "...ونفوس أبية من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام") – المصدر نفسه، ص 95 – 96 – وهي تكملة في خطبة الامام في يوم الطف التي ألهمت الحركة الدستورية وغذتها بعناصر الثورة ومقاومة الاستبداد حيث يقول الامام (الا وأن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية..) – بل يذهب الشيخ النائيني الى عدّ سلطة المستبد الجائر درجات تتفاوت تبعا لطغيان السلطة من جهة وتبعا لدرجة التوحيد عند الأمة ومدى استعدادها لإشراك السلطان المستبد الجائر مع الله سبحانه وتعالى في فاعلية ما يشاء والحاكمية بما يريد وعدم المسؤولية عما يفعل والنص له بتصرف قليل – راجع المصدر نفسه، ص 102 – وهو يستدل على تفنيد هذه السلطة التي يصفها بالفرعونية والربوبية والألوهية، يستدل بآيات من القرآن الكريم لاسيما الآيات التي تتحدث عن استعباد الفراعنة لبني اسرائيل، وكذلك ينقل عن المعصومين تحذيرهم من الوقوع في الهلكة في قهر السلطة المستبدة، ويرى أن الأئمة أرشدوا الامة الى طريق الخلاص من ذل الاستبداد وقهر سلطان الجور لكنه لا ينقل في الأثر عنهم في كتابه هذا إلا أقوال أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام بينما يجد في موقف الامام أبي عبد الله الحسين بن علي عليه السلام وخطبه في الطف سندا ومصدرا مهما له في تأصيل نظريته في مواجهة السلطان الجائر باعتبارها نوعا من العبودية التي تناقض العبودية لله تعالى فكان ان "فدى نفسه وما عنده من أجل حريته وتوحيد ربه " – راجع المصدر نفسه، ص 109 – 112 - وضمنيا ينتهي الشيخ النائيني الى جواز او وجوب الخروج على السلطان الجائر بل هي الخلاصة الضمنية في كل هذا الكتاب (تنبيه الأمة وتنزيه الملة).

وقد حدث في آثار هذه الحركة الدستورية وفي التأليب على السلطان الجائر والمستبد أن خرجت جماهير ايران على سلطان زمانها بعد صدور الفتاوى من فقهاء المشروطة في النجف في جواز الخروج على الشاه محمد علي القاجاري ومحاربته، وكانت هذه الفتاوى لأربعة من فقهاء الامامية من رؤساء الحركة الدستورية وهم الشيخ محمد كاظم الخراساني والسيد اسماعيل الصدر والشيخ محمد تقي والشيخ عبدالله المازندراني، فاستجابت الشيعة الامامية في ايران الى تلك الفتاوى وطفقت تبتاع السلاح والاستعداد للثورة حتى بلغ الأمر أن يعمد الرجل المؤيد للدستورية الى بيع فراش بيته ليشتري سلاحا تلبية لفتوى الجهاد ضد الاستبداد وحكم الشاه القاجاري، وتمكنت الجماهير الثائرة من دخول العاصمة طهران في العام 1909 م وانظمت اليهم جموع الشعب وفرق الجيش وكتب الشيخ الخراساني الى تبريز يطلب فيها مساعدة الثائرين ضد حكومة الشاه المستبدة، فلجأ الشاه القاجاري الى السفارة الروسية واعتبر الثائرون ذلك تنازلا عن السلطة والعرش واختاروا ولده الشاه احمد ميرزا خلفا له على عرش الدولة الايرانية – القاجارية.

وبذلك سجل التاريخ الامامي أول خروج بالسيف على السلطان الجائر وبفتوى فقهاء الامامية من المجتهدين العدول في تاريخ الاجتهاد الامامي وهم ممن يشغل باجتهادهم الفقهي منصب نائب الامام المعصوم.

لكن على أثر فشل الحركة الدستورية واخفاق المشروطة في تحقيق أهدافها حتى أضطر الشيخ النائيني الى سحب كتابه (تنبيه الامة وتنزيه الملة) من المكتبات ومن التداول النخبوي له - راجع تنبيه الامة، مصدر سابق ص 16- 17 - وكذلك في أعقاب الازمة التي حدثت بين الدولة العراقية وكبار فقهاء الامامية في مدنهم المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمية في العام 1922م حول قضية انتخابات المجلس التأسيسي للانتخابات والتي انتهت بنفي هؤلاء الفقهاء من البلاد في العام 1923م ومن بينهم الشيخ النائيني – راجع لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، د. علي الوردي، ج 6 ص 201...وما بعدها - حتى اذا عاد هؤلاء الفقهاء الى البلاد العراقية بعد انتهاء أزمة النفي وكان أغلبهم من الدستوريين ومن قادة المشروطة ومن قادة ثورة العشرين، عدلوا عن موقفهم السابق في وجوب مواجهة السلطان الجائر وكفوّ عن السياسة وانحازوا الى مسلك الفقهاء والمحدثين القدامى وانشغلوا بالدرس العلمي – الفقهي والانتظار للفرج وهي عقيدة مدرسة الحديث الامامية.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2018Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق