q
يقول كانط (إن العقل النظري لا قابلية له للبحث عن (وإدراك) الموجودات غير الحسية، على العكس من ادعاء علماء ما بعد الطبيعة الذين كانوا يفترضون قدرة العقل على الوصول إلى أسرار الحقيقة المطلقة، وقد استدل على ذلك بأن تركيب الذهن البشري بحيث لا يتمكن إطلاقاً...

يقول "كانط"[1]: (إن العقل النظري لا قابلية له للبحث عن (وإدراك) الموجودات غير الحسية، على العكس من ادعاء علماء ما بعد الطبيعة الذين كانوا يفترضون قدرة العقل على الوصول إلى أسرار الحقيقة المطلقة، وقد استدل على ذلك بأن تركيب الذهن البشري بحيث لا يتمكن إطلاقاً من العمل خارج المجال الحسي، أو ظاهر الأشياء (فِنومن)، والتفكر فيها والاستدلال عليها، وإنما يستطيع الذهن العمل في مجال التجربة لا غير، وكان "كانط"، يعتقد أيضاً، أنه بالإضافة إلى عالم التجربة، أي العالم الظاهر، فإن هناك عالماً آخر، هو عالم الشيء في ذاته (نُومِن)[2]،

وهو مستتر خلف العالم الظاهر، الجانب النومني لكل شيء: أن كل شيء موجود في الحقيقة، فنحن نتعامل مع ظاهر التفاحة مثلاً، لا كيف هي هذه التفاحة في الواقع، نحن نستطيع أن ندرك أن وراء حمرة التفاح شيئاً آخر، وأن هذا اللون الأحمر مرتبط به، وذلك الشيء في نفسه علة للظواهر، وأننا نستطيع القول: أنه بالإضافة إلى ظاهر التفاحة يوجد شيء في ذاته وهذا اللون الأحمر متعلق به، لكن هذا لا يعني معرفتنا بذلك الشيء أبداً؛ لأن المقولات الذهنية إنما يصح استعمالها في مجال الظواهر فحسب، أي الأمور التجريبية، أي الأمور المكانية والزمانية، ولما كانت الحواس عاجزة عن إدراك الشيء في ذاته فلا يمكننا أن نتوصل إلى معرفة ذلك الشيء، وهذا يعني أننا لسنا قادرين على درك الواقع)، وكذلك كان كانت يعتقد: (إن الشيء في نفسه هو العلة للظواهر والأحاسيس الخاصة، وعلى هذا الأساس لابد أن يكون موجوداً).(3)

وخلاصة نظرية كانت حول (المعرفة) (4) هي:

1: (أن أبحاث الفلسفة الأولى لا تقع أساساً موضوعاً للعلم، وكل ما طرح حتى الآن فإنه ليس من العلم، بل ألفاظ وتخيلات)؛ وذلك لأنه (ذهب إلى أن المعرفة بالواقع الموضوعي هو وليد تعاون العقل والحس، وادعى أن الحس بمفرده أو العقل بمفرده لا يمكنهما خلق المعرفة).

2: (إن الرياضيات، يقينية، لان موضوعاتها هي من صناعة الذهن البشري، عكس موضوعات الطبيعة والفلسفة الأولى، مثلاً يفترض الذهن أموراً كالمثلث والمربع والدائرة، وغيرها، ثم يحدد لها خواصاً، وحيث إن هذه الموضوعات هي صناعة عقلية بحتة، فمن المحتم أن يصدق كل حكم بشأنها صدقاً يقينياً).

و(والمعرفة الرياضية ـ حسب كانت ـ ترتبط بالفروض الذهنية، ومن هنا فهي صادقة بالضرورة، لأن الذهن قادر على الحكم بشأن فروضه)، و(الكميات التي هي موضوع الرياضيات ليس لها وجود خارجي).

3: وأما (الطبيعيات) فـ(إن "العلوم الطبيعية" معرفة معتبرة؛ لأنها نتاج العقل والحس معاً) و(الذهن الإنساني قادر على إدراك الظواهر Phenomene التي تحصل بالحس، وعاجز عن إدراك ذوات الأشياء Noumene التي تقف خلف هذه الظواهر العرضية والذهن الإنساني يمنح (الظواهر) بحكم خواصه، صوراً وأشكالاً، بحيث لا يمكن الاطمئنان إطلاقاً بأنها على هذه الأشكال والصور بحسب الواقع ونفس الأمر، يقول كانط: إن الحواس تقدم للذهن مادة المعلومات ويسبغ الذهن على هذه المادة صورة، لكي تصبح ممكنة الإدراك) ويقول: (كل شيء يتصوره الإنسان، يتصوره في ظرف الزمان والمكان، لكن الزمان والمكان ليس لهما وجود خارجي، بل هما كيفيتان للذهن، وصور يمنحها الذهن للمحسوسات)، (وأما حينما تقع هذه التصورات موضوعاً للأحكام، فسوف تتدخل معقولات أخرى من صنع العقل وليست من الحس، فنحول تلك التصورات عندئذٍ إلى كليات ونصوغ القوانين العلمية والكلية، فهذه القوانين التي ستنطوي تحتها المعلومات هي إنتاج صرف للذهن البشري، ومن الممكن أن تحكم الواقع قوانين غير هذه القوانين)، ويقول: (علاقة العلية من صنع عقولنا، وليس واضحاً أن علاقة العلة بالمعلول في عالم الحقيقة علاقة الضرورة والوجوب) انتهى.(5)

ويقول (كانط)، حسب (سير حكمت در اروبا): (إنني غيرت منهج البحث القائم بين الفلاسفة في هذا الموضوع وقمت بما قام به "كوبرنيك"(6) في علم الفلك، وقد لاحظت أننا حتى الآن نعتبر الأشياء مركزاً، وذهننا يدور حول هذه الأشياء، فيطابقها، ومن هنا نشأت المشكلة حول أشياء العالم الخارجي: إذ كيف يمكن الوصول إلى الأحكام التركيبية "الأحكام التي يكون فيها المحمول غير داخل في حد الموضوع، بل يكون مفهوماً مختلفاً" على أساس المعلومات القبلية الفطرية، ومن هنا افترضت أن ذهننا يجعل الأشياء متطابقة مع إدراكه، أي لا يهمنا أن يتطابق الإدراك الذهني مع حقيقة الأشياء؛ إذ لا يمكننا أن نعرف ذلك، إنما الذي نعرفه أننا نتلقى الأشياء وفق ما يقتضيه إدراكنا الذهني، وعلى أساس هذا النهج نعالج المشكلة).(7)

وجاء في (الموسوعة الميسرة)(8): (و"كانط" يرى مثل "ليبنتز" أن المعرفة تتمثل في قضايا أو أحكام فقط، وليست هنالك معرفة خارج الأحكام) فليست الأفكار ـ كما يدعي العقليون ـ ولا الإحساسات المتداعية ـ كما يدعي التجربيون ـ من المعرفة في شيء)، و(الأحكام التركيبية القبلية ـ كالرياضيات ـ تصبح في ضوء هذا المنهج مفهومة تماماً؛ لأنها تعبر عما أنشأه العقل قبلياً من موضوعات، صورة ومادة، وهو لا يعرف علمياً إلا ما أنشأه على هذا النحو) و(بدلاً من أن يدور العقل حول الموضوعات أو الأشياء ليتعلم منها كما قالت الفلاسفة، يجب القول الآن: بأن الأشياء أو الموضوعات هي التي تدور حول العقل لتتكيف بقوانينه وتخضع لأسلوبه في فهمها، عن طريق قوانينه، وتلك التمثلات والفروض التي ينشؤها العقل من عنده، في حدسي الزمان والمكان) و(فهذه التركيبات والإنشاءات الذهنية التي يفرضها العقل على العالم كمعرفةٍ، من الواضح الآن أنها هي ما يسمى عالم الظواهر (Phenomenons) أي ما يظهر لفكرنا في إطار المكان والزمان، وهو عالم المعرفة العلمية التي لدينا عنها أحكام تركيبية قبلية، أما الشيء في ذاته (Thing in it's self) أو الجوهر ويسميه "كانط" (Noumene) وهو عالم الميتافيزيقيا، فلا يستطيع أن يتمثله قبلياً في حدس الزمان والمكان، كما يتمثل "علة أولى" في زمان أو مكان، ومن ثم لا يستطيع أن يقيم من العلة الأولى موضوعاً يعرف، وبالتالي لا يمكن أن تكون لديه عنها أحكام تركيبية قبلية حقيقية) و(ثم إن المعرفة المشروعة أو العلمية تبدو من حيث قيمتها أنها معرفة نسبية على نحو ما، وليست مطلقة كما زعم المذهب الدوغمائي، وإن كانت في الوقت عينه معرفة ضرورية وموضوعية على خلاف مذهب هيوم؛ أما أنها نسبية على نحو ما، فلكونها تتوقف على تركيبنا العقلي نفسه الذي يشتمل على قوانين له، وعلى حدس مكاني وزماني يتمثل فيه موضوعاته التي ينشؤها، ولو كان هذا التركيب مختلفاً عما هو عليه، لكانت معرفتنا شيئاً آخر، وعلى كل حال: معرفتنا إنما هي تشييد وتركيب بفضل هذا العقل بالذات، ومن جهة أخرى هي معرفة ضرورية وموضوعية؛ لأن قوانين العقل أو صوره التي بمقتضاها تُنظَّم المادة الحدسية في موضوعات تعرف، إنما هو قوانين أو صور قبلية (A Priori) عامة بين العقول).

وقال الدكتور فروغي في (سير حكمت در اروبا): (فكّر كانط: إذا لم يكن العقل قادراً على كشف المجهولات، فكيف نجد أن علماء الرياضيات الذين اقتصروا على التعقل وصلوا إلى تحويل المعلومات للمجهولات؟

وعندما فكر عرف أن الفرق كبير بين الرياضيات والفلسفة الأولى وهو أن الأمور التي يستخدم علماء الرياضيات فيها العقل هي: مجعولات وفرضيات الذهن... فلأن (الدائرة) مخلوقة للعقل، فلا ريب أن كل ما يحكم العقل حولها فهو صحيح، لكن موضوعات الفلسفة الأولى مثل الجسم والروح وأشباههما، ليست مخلوقة للعقل، ولذا فلا يمكن الوصول لحقائقها بمحض الفرض العقلي.

نعم كانت بعد تأمل طويل، رأى أن طريق كشف حقيقة الموجودات، هو الحس والتجربة فقط، واعتقد بأن الإنسان لا يمكنه الوصول إلى (معرفة الذوات)، بل عليه أن يكتفي بالبحث في العوارض والحوادث)(9) و(أقنع نفسه، في باب العلم، أن يرفع اليد عن إدراك حقيقة الذوات وأن يكتفي بظواهر الأمور، لكنه فكر أيضاً: أنه مادام لم نستعمل قوة التعقل، فإن الحس والتجربة لا يوصلان للعلم، والعلم بحاجة إلى مبانٍ عقلية، لكن من جهة أخرى: في التعقل، لا يمكننا الاطمئنان، بدون الاستناد إلى مبان علمية).(10)

وقال: (في الطبيعيات، لأن المحققين اعتمدوا على التجربة والمشاهدة، حسب إرشادات فرنسيس بكن، وصلوا لنتائج مطمئنة، وإن كانت أحكامها بالأساس (أحكاماً بعدية) لكن (الأحكام القبلية) التي كانت المرشد للمحققين في تحقيقاتهم، كانت كثيرة، كقاعدة إرتباط العلة بالمعلول وغيرها، لكننا نجد في الفلسفة الأولى حتى الآن خلافاً كبيراً بين أصحاب الفكر والنظر، ولم تلبس لباس العلم، وعلينا كشف السر).(11)

وقال: (في الطبيعيات، التي موضوعها متعلق بالأمور المادية، وهي خارجة عن الذهن، فإن كثيراً من الأحكام هي تركيبية بعديّة؛ لأنها تحصل بالتجربة، لكن في هذه العلوم توجد أصول وقواعد أيضاً هي تركيبية وهي قبلية، كقاعدة رابطة العلة بالمعلول، أما في الفلسفة الأولى فموضوعات الحقائق هي خارج الذهن، لكنها مجردات، ولا يمكن تجربتها.

والاطمئنان في الرياضيات سببه أن أحكام العقل فيها في أمور هي مخلوقة له، وليست خارج الذهن.

والاطمئنان في الطبيعيات؛ سببه أن موضوعاتها يمكن أن تقع عليها التجربة، إضافة إلى أن العقل يضيف إليها أشياء وينميها، لكن الفلسفة الأولى: لا موضوعاتها هي داخل الذهن، بحيث يكون العقل خالقاً لها، ولا هي صالحة للتجربة، وإذ لا يمكن تجربتها، لا يمكن إصدار (الأحكام البعدية) فيها؛ لأنها ليست ذهنية فالأحكام القبلية فيها لا يمكن الاعتماد عليها، والأحكام التحليلية لا تفيدنا علماً جديداً، إذن الفلسفة الأولى كيف تكون علماً ويطمئن إليها؟).(12)

و(... عملت كـ"كوبرنيك" في علم الهيئة حيث رأى... وأنا أيضاً رأيت أننا كنا حتى الآن نعتقد أن الأشياء هي الأصل، وذهننا يجعل إدراكه تابعاً لحقيقتها، يعني يجعله منطبقاً عليها، لذا وُجِدت المعضلة حول الأشياء الخارجة من ذهننا، أنه كيف يمكن أن نصنع من المعلومات القبلية، أحكاماً تركيبية، لذا افترضت أن الذهن يطبق الأشياء على إدراكاته (أو افتراضاته)، أي لا يهمنا أن إدراك ذهننا مطابق لحقيقة الأشياء أم لا؛ لأننا لا نستطيع أن نعرف ذلك، أن ما نعرفه هو أننا نرى الأشياء كما يقتضيها إدراك ذهننا، وبهذا الطريق انحلت المعضلة، ولاحظت أنه لا مانع بالنسبة للأشياء الخارجية، أن نصنع من المعلومات القبلية، أحكاماً تركيبية).(13)

* من الفصل الخامس لـ كتاب (نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة)
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/arabic/author/10

........................................
[1] سيلاحظ القارئ الكريم، إننا اعتمدنا في الوصول الى معالم نظريته، على مجموعة متنوعة من المصادر، كما نقلنا معالم نظريته من تشكيلة منوعة، ممن يؤمن بنظريته ومن يعارضها، ومن وقف على الحياد، وصولاً للاطمئنان في المشتركات على الأقل، على إنها هي التي تجسد بالفعل آراءه.
[2] لتوضيح "النومن" و"الفنومن"، لغويا وبجذر المفهوم، فلغة انّ "الفنومن" Phenomenon، تعني الظاهر أو الظاهرة، ومنها استنبط مذهب "الفينومينولوجيا" phenomenology، التي تعني التمظهر أو الظواهرية أو الظاهراتية، حسب الأدبيات الفلسفية المتباينة، بينما "النومن" أوnominal لغة، تعني الحالة الإسمية لمعنى المفردة، وتعبّر النظرية بذلك، عن قبول الإختلاف بين "الحقيقة كما هي"، و"الحقيقة كما تبدو لي"، وإنكار مطابقة الذهن للواقع الخارجي، بعدم تطابق "الفنومن" مع "النومن"، وهو أبرز ما في النسبية العلمية.
(3) نصوص معاصرة: العدد 19، ص128-129.
(4) هذه الخلاصة هي حسب (أصول الفلسفة والمنهج الواقعي: ج1، ص238-247، وص320-321)، بتصرف بسيط في التقديم والتأخير ودمج بعض الفقرات.
(5) إلى هنا انتهى الاقتباس من أصول الفلسفة والمنهج الواقعي.
(6) نيكولاس كوبرنيكوس (بالبولندية Mikołaj Kopernik) (تورون بروسيا، 19 فبراير 1473 ـ فرومبورك، 24 مايو 1543) كان فلكياً بولندياً، يُعتبر أول من صاغ نظرية مركزية الشمس وكون الأرض جرماً يدور في فلكها، في كتابه "في ثورات الأجواء السماوية".
(7) سير حكمت در اروبا، ج2، ص 196.
(8) الموسوعة الميسرة في الفكر الفلسفي والاجتماعي: ص464 و466.
(9) سير حكمت در اورپا، ج2، ص196.
(10) المصدر السابق، ج2، ص197.
(11) المصدر السابق، ص203.
(12) سير حكمت در اروبا: ج2، ص204-205.
(13) المصدر: ص206.

اضف تعليق