q

في داخل كلِّ منّا يقبع ذلك الكائن الصغير الذي يولد مع أول صرخة لنا، وتتغلغل جذوره في أعماقنا ثم لا يلبث أن ينمو وتزاحم أوراقه سماء ذواتنا كلما تقدم بنا خریف العمر وأوشك رصيدنا من السنوات علی النفاذ. إنه يكبر معنا كل يوم لكنه يزداد نضارةً وشباباً بينما تملأ النحول والتجاعيد تقاسيم حياتنا المرهقة.

کلّنا نحمل في نفوسنا جينات هذا الكائن، أو فلنقل هذه الغريزة المتأصلة للخلود وهذا الحب الأزلي للديمومة والصراع من أجل البقاء. إنها الغريزة التي تدفع جميع الكائنات الحية وخصوصاً الإنسان إلى النضال والقتال حتى يحظى بأنفاس إضافية، ويبعد عن نفسه شبح الموت الماثل أمامه كل يوم.

هذه الغريزة ستتشبث وتلتصق بك كدودة العلق، ثم تمتص دمك بكل شراهة وما تلبث أن تتضخم رويداً رويدا، إلا أنها في النهاية سوف تسقط وتموت شبعاً وامتلاءً بعد أن استنفدت ربيع جسدک وروحک.

كلنا في هذه الحياة نتعب ونشقى حتى ننعم بحياة هانئة مطمئنة لنا ولمن نحب، متناسين أن ساعة الزمن لا تتوقف لحظة ولن تتوانى عن الاستمرار، فها هي عقارب الدقائق والساعات تنحسر دونما رجعة.

طبيعة الزمن:

منذ الصغر ونحن لا نفتأ نردد هذه الحكمة (الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك)، لقد زرعوا في عقولنا أهمية الوقت ونحن مازلنا طلاباً في المدرسة، إلا أنهم لم يأخذوا بأيدينا الصغيرة ويرشدونا إلى كيفية التعامل مع الوقت، وكم هو مرعب هذا التشبيه بين الوقت والسيف فلم نأخذ الموضوع بجدية ولم يحرك فينا ساكناً.

عندما تترجل من قطار العمر في محطة من محطاتها المؤقتة، وتلقي نظرة تأملية على حياتك سوف يتملكك الرعب والقلق ويستبد بك الذعر، فترى نفسك قد تجاوزت محطات كثيرة ولم يبق سوى القليل حتى تنتهي رحلتك التي لم ولن تعي متى بدأت وكيف ستنتهي، إذاً من المهم ان ندرك طبيعة الوقت وأن الزمن يبحر بنا نحو المرسى الأخير و(أهل الدنيا كركب يُسار بهم وهم نيام)-1-.

حقيقة ثابتة:

العقل يلزم الإنسان بالمعرفة والمعرفة توجب على الإنسان أن يسلّم ويعترف بحقيقة ثابتة، يقرّ بها كل العقلاء ولا يختلف عليها اثنان، إنها حقيقة الفناء وأن ّالإنسان يقضي فترة زمنية طالت أو قصرت في هذه الدنيا ثم يرحل عنها شاء ذلك أم أبى.

ولابد أن يدرك الإنسان ويعي حقيقة نفسه الفانية وأن يعمل باعتبار أنه مسافر وهذه، الحياة ما هي إلا فندقاً _جيداً كان أو رديئاً_ وهو نزيل فيه ومهما طالت إقامته لابد من الرجوع والعودة إلى وطنه ومنبته الأصلي، فـ (عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجازى به)-2-.

يشعر الإنسان بالفنائية في كل شيء حوله ويلمسها بكل حواسه منذ أن تبصر عيناه نور الحياة، وتنفتح مداركه الغضة فما أن تبتسم له الدنيا ويعيش لحظة السعادة حتى تكشر عن أنيابها، فتتلاشى سريعاً نشوة تلك اللحظة وما إن يبكي حتى تجف الدموع على خده وينتهي ذلك الحزن، وتلوح بارقة الأمل من جديد فكل المحسوسات التي نعيشها في حالة نمو وتغير وتبدل وفناء (فلا حزن يدوم ولا سرور... ولا بؤس عليك ولا شقاء)-3-.

إذن ما العمل؟

قد يمنحك شعور الفنائية لأول وهلة بشيء من الاكتئاب والضيق ثم تنزوي عن العمل والحياة باعتبار أنك راحل لامحالة، والموت واحد مهما تعددت أسبابه إلا أنك عندما تدرك حقيقة عمرك ومدى محدوديته، سوف تستشعر في نفسك مسؤولية كبيرة وحرص شديد على كل ساعة، بل كل دقيقة تجري إلى حتفها ولا تعود. فحري بالإنسان أن يندفع ويمسك بزمام المبادرة إلى الجدية وتنظيم الوقت والعمل بما يعود عليه وعلى مجتمعه بالخير والمنفعة والتطور والارتقاء.

كيفية التعامل مع الوقت

كثيرة هي الكتب التي تملأ رفوف مكتباتنا وتعج بالأفكار التي تتناول مسألة الوقت وتضع لك الجداول الزمنية والخطط والبرامج التي تنظم وقتك، وترشدك إلى كيفية التعامل مع الزمن وتُغدق عليك بالنصائح والحكم، إلا أننا ومع ذلك نعلم أنها غير عملية ولا يمكن تطبيقها في كل ظروفنا المتغيرة، إذ لا يمكن تنظيم أمور حياتنا بالمسطرة وحساب لحظاتها بالسنتيمترات، ولا بد من المرونة لتجاوز كل ظرف وطارئ قد يطرأ علينا.

من أين نبدأ؟

لا تذهب بعيداً ولا تيمم وجهك لكل حدب وصوب، بل توجَّه إلى ذاتك وأصغي إلى صوت ضميرك، فكل شيء يبدأ من نفسك، فهذا الاتصال الداخلي يضمن لك التعرف على ما تريد وتؤمن به أنت بالفعل لا ما يريد زيد وعمر.

من المهم أن يكون لديك خطة عمل وليس من الضروري أن تتعامل هذه الخطة مع الدقائق والثواني وتحسب عليك كل رمشة، وتراقب كل همسة، بل من المهم أن تكون هناك رؤية ورسالة شخصية تنبع منها قيمك وطريقة تعاملك مع وقتك وعمرك. قد تكون الخطة قصيرة أو طويلة الأمد إلا أن المهم بالفعل هو الشمولية والنظرة العامة التي تؤطر أعمالك ضمن مبادئ وقيم تؤمن بها وتسير عجلة حياتك وفقها.

الأولويات تحكم وقتنا

قد يرى البعض أن الإنسان الناجح والمنظم لوقته هو ذاك الذي ينجز كل أعماله ومشاريعه ضمن إطار زمني محدد، ويلهث حتى آخر ساعة من الليل وهو يلاحق عجلة الزمن التي لا تلبث أن تدهسه. قيمة الإنسان لا تكمن في سرعة إنجاز الأمور بل في الأولويات التي يؤمن بها ويعمل من أجلها والأهداف التي وضعها ضمن خطته.

عندما يبدأ الإنسان رحلة الألف ميل بخطوة واحدة مبدؤها ذاته، فلا بد أن تدور في رأسه أسئلة تثير مكنونات روحه فهو يتساءل عن الغاية التي خلق من أجلها، ثم ماهو مصيره بعد تلاشي جسده وفنائيته في هذه الدنيا؟.

عندما يفكر الإنسان ويبحث عن أجوبة تشفي حيرته وقلقه، عندها فقط سوف تبدأ رحلته ويعمل بدراية وحكمة في تنظيم حياته ووقته بما تملي عليه حقيقة وجوده ومسؤوليته تجاه خالق هذا الكون ومخلوقاته. وقد وضع الإمام علي عليه السلام خطة كاملة متكاملة للإنسان المتفكر وعمله في هذه الحياة عندما قال:

(رحم الله امرئ أعد لنفسه واستعد لرمسه وعلم من أين وفي أين وإلى أين).

كيف يقيّم عمر الإنسان؟

من المهم أن يدرك الإنسان أن عمره ليس عبارة عن أرقام تنقَش على شاهدة قبره من أول طلوع له إلى آخر غروب، وإنما الميزان هو القيم والأفكار التي آمن بها ثم تحولت إلى أعمال قدمها خلال السنوات المعدودة التي قضاها، فموضوع العمر تحكمه نوعية الحياة التي عشناها وليس عدد السنين التي عمرناها وأبلت أجسادنا وأرواحنا.

كما أن السرعة ليست هي المعيار في إنجاز المهام وإنما الأهمية تكمن في طبيعة وغاية العمل الذي نحن بصدد تنفيذه، فنحن بالنهاية لسنا روبوتات تنفذ ما يُملى عليها وإنما كائنات عاقلة مفكرة تتلمس طريق الحياة الوعر بحكمة عقلها ونور قلبها.

وعجلة الزمن لا تزال تدور دون توقف غير عابئة بمن يقف أمامها، وهكذا تبدأ أيامنا بالأفول ويبدأ العد التنازلي لأنفاسنا اللاهثة. وسوف تختم قصة حياتنا من أول صرخة عند الولادة إلى آخر شهقة عند الموت، فهنيئاً لمن أعدَّ نفسه وأيقن في ذاته أنه عابر سبیل لا يدوم، فجمع زاده وشد متاعه لسفر طويل بعيد لا رجعة فيه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهامش
1- أحاديث الإمام علي (ع).
2- المصدر السابق
3- الشافعي

اضف تعليق