q
الثيمة الأهم التي ميزت قصص (لغة الأرض) هي الحرب، والمآسي التي ألحقتها بالإنسان العراقي، وعرضت مضامين هذه القصص أشكالا مروّعة للموت، كما أنها دقّقت بالمواقف الإنسانية، وأسهبت في تفاصيلها، لتقدم دروسا للقادمين تقول بأن الحروب بجميع أشكالها لا ترحم الإنسان ولا تقدّم له أي شيء سوى الخراب...
الكتاب: لغة الأرض
اسم المؤلف: علي حسين عبيد
الناشر: دار الفؤاد للنشر والتوزيع في القاهرة
عدد الصفحات: 150 قطع متوسط

موضوعة الحرب لا تزال تشغل حيّزا واسعا من السرد، فالروايات رغم تعدد المشكلات عند البشر، دأبت على الانشغال بتداعيات الحروب وانعكاسها على الإنسان، ينطبق هذا على المجموعات القصصية التي تصدر هنا وهناك، ومنها قصص (لغة الأرض) للكاتب العراقي علي حسين عبيد، فقد صدرت قبل أيام بطبعة جديدة في القاهرة عن دار الفؤاد للتوزيع والنشر، وقبل هذه الطبعة صدرت في الخرطوم عن أمانة جائزة الطيب صالح، حيث فازت هذه المجموعة بالمركز الأول من بين 266 مجموعة قصصية شاركت في الجائزة.

الثيمة الأهم التي ميزت قصص (لغة الأرض) هي الحرب، والمآسي التي ألحقتها بالإنسان العراقي، وعرضت مضامين هذه القصص أشكالا مروّعة للموت، كما أنها دقّقت بالمواقف الإنسانية، وأسهبت في تفاصيلها، لتقدم دروسا للقادمين تقول بأن الحروب بجميع أشكالها لا ترحم الإنسان ولا تقدّم له أي شيء سوى الخراب والألم والعذاب.

تحتوي مجموعة لغة الأرض على (14) قصة قصيرة، ثلثي هذه القصص تعمّقت في موضوعة الحرب، والثلث الآخر تصدى لموضوعات اجتماعية إنسانية مختلفة لا يوجد فيها حضور مباشر لتداعيات الحرب، لكننا في الوقت نفسه نعثر فيها على انعكاسات الحرب هنا وهناك، وهو ما أراد كاتب هذه القصص أن يوصله للقراء، فالحياة بجميع مجالاتها لم تنجو من أضرار الحرب وإن كانت بعيدة عنها، ولا تعني الحرب جبهات القتال فقط، وإنما هنالك الكثير مما يحدث يُحسَب من ضمن نتائج الحرب الجانبية.

تبدأ المجموعة بقصة (أنين متوارَث) وتحكي هذه القصة أحداث فرار عائلة من مدينتها وبيتها مع جموع الناس الفارين إلى الصحراء، في ظل برد شتاء قارس وظروف معيشة مضنية بغياب أو شحة الطعام والماء، وفي عمق هذه المأساة تتعرض إحدى النساء لحالة ولادة في الصحراء، وبغياب تام لما تحتاجه المرأة كي تضع وليدها بسلام، فلا مستشفيات، ولا قابلات مأذونات، ولا علاج ولا معقمات، فكل ما يحيط بالمرأة المحاصرة بنوبات الطلق صحراء باردة، وظلام دامس، وموت يحوم عليها من جميع الجهات، لتبقى الحرب هي المسيطرة على الجميع.

في قصة (مدن البارود)، يتضح من عنوانها كيف يصبح هواء المدينة عبارة عن موجات من رائحة البارود التي تلغي جميع الروائح الأخرى، لاسيما أن وقت سرد هذه الأحداث كان في فصل الربيع، والأشجار تبث عطورها وأريجها الربيعي كالقدّاح وسواه، لكن مع كل هذه العطور الربيعية الأخاذة يبقى عطر البارود هو المتسيّد على جميع العطور، وهذه إشارة فنية تحيل القارئ إلى أجواء الحروب، والبارود رمز من رموز الحرب.

وفي قصة ( لغة الأرض ) يتناول الكاتب المجاز والخيال الإدراكي للقصص القصيرة, حيث يذكر أن هناك أرضا في حديقة بيت موجود بالمدينة تحولت تربتها إلى اللون الأحمر الدموي, فاستغرب صاحب البيت وبدأ بالبحث عن حلول من اجل إرجاع تربة حديقته إلى طبيعتها الجميلة كما متعارف عليها, فكلّم أهله وقالوا له: أن هناك في قريتنا الأم طبيبا أو مختصا في التربة يستطيع إصلاح أرضك, فلما جاء المعالج، قال: إن الأرض هي كائن حي لها لغتها الخاصة ويجب عليك أن تكلمها بلغتها وان تحميها، فهي إرثك الدائم, نفهم من ذلك أن الكاتب يقصد هنا أن ارض الوطن يجب أن تُحمى وعلى الناس أن يتكلموا معها باللغة التي تفهمها، وهي لغة آبائه وأجداده، هذه القصة تركّز على العلاقة الوطيدة بين الإنسان وأرضه.

أما في قصة (أزيز الذباب)، فهي تحمل في طياتها حوادث حرب مقززة، لكنها في نفس الوقت تفضح ضحالة العلاقات الاجتماعية, حيث فقدان الأمن والثقة، وتفضيل الذات على الآخرين، حيث يحاول الجميع تأمين الغذاء والمحروقات على حساب الآخرين، فيكون الصراع على أشده بين الجميع، وهنا تنتقل الحرب من الجبهات الفعلية (جبهات القتال) إلى الجبهة المجتمعية حيث يدور الاقتتال بين الناس في صراعهم على تأمين لقمة الخبز بما يسد الرمق لا أكثر.

في قصة (منحوتة العشق) ينتقل الكاتب من الحرب إلى الحب العذري الذي لا تشوبه شائبة بين فتى قروي وفتاة قروية، عاشا في بيئة تضمحل فيها فرص التثقيف والثقافة، ولكن هذا الأمر لم يمنع الشاب من ان يكمل دراسته ويلتحق بوظيفة مرموقة في المدينة، وهنا تأخذ الحرب حصتها، إذ يلتحق الفتى إلى جبهات القتال ويلاقي الأمرين ولكن حبه الكبير هو ما ينقذه في كل مرة, إلى أن يعود لحبيبته القروية الرسامة المثقفة، إذ تتكلّل علاقتهما بالزواج.

وفي قصة (مشاهد من سيرة الألم) تكون هناك سينوريوهات متعددة الافكار متوحدة بالموضوع, يتناول الكاتب في هذه المشاهدة إحدى مخلفات الحرب التعيسة ألا وهي عمالة الأطفال, حيث يروي الكاتب أن هناك شاباً كان في طريقه إلى الجامعة لزيارة أصدقائه، لكنه رأى طفلا يبكي على قارعة الطريق, وحوله منحوتة رخام مكسرة ومبعثرة الأوصال, فذهب الشاب نحو الطفل الباكي, وسأله عن سبب بكائه الذي لا ينقطع, فأجابه الطفل: إني اعمل في محل بيع لوحات ومهمتي بيع هذه اللوحة كما وجهني صاحب المحل, وقد سقطت المنحوتة مني وتهشمت بالكامل، فإذا عدتُ لصاحب المحل سوف يضربني أو يطردني من العمل, هنا سارع الشاب ودفع للطفل مبلغ اللوحة, وعند وصوله إلى أصدقائه في نادي الجامعة، سرد لهم الحادثة فضحك احدهم وقال: لقد خدعك هذا الطفل, لأنه يقوم بهذه الخديعة ليوقع بالناس، كما أن اللوحة لا تساوي ربع المبلغ الذي دفعته له.

نستنبط من هذه القصة ومن أفكار الكاتب أن الزمن القاسي والحرب التي يتَّمت الأطفال, جعلت من المجتمع بؤرة من الأنانية وحب الأنا, وتأتي المشاهد الأخرى على شاكلة هذا المشهد, لتفضح العلاقات الاجتماعية المريضة بسبب ضغط الحروب وتداعياتها.

ومن عناوين قصص هذه المجموعة أيضا: (النافذة, رجل يعد نفسه للرحيل, خطايا الآباء, قيامة الجثة, منحوتة العشق، أورام ليست حميدة, حي جامعي، وغيرها).

وقد قال الروائي العربي المعروف أمير تاج السر عن قصص (لغة الأرض):

(كتبت مرة عن الأدب العراقي، فقلت أن الحرب أفرزت دما أدبيا جديدا، يفوق حرارة ذلك الدم العراقي الذي أراقته الحروب، وهكذا تجد في قصص وروايات الكثير من الأدباء العراقيين تلك السمة الحديثة، وفي هذه القصص المذهلة للكاتب العراقي علي عبيد، تجد كيف كتبت الحرب في صيغتها العنيفة والإنسانية أيضا، أي تلك المرتبطة بالإنسان العراقي، لا ثقة في أحد في أجواء الحروب والرصاص، لا قصص حب ستزدهر حتى النهاية، ولا خواط ستهدأ، أو تأمن حتى في زمن السلم. لقد كتب لنا علي تجارب حية لأناس شاركوا في الحرب وعادوا ليشاركوا في التعمير، ليحبوا، ويأمونوا ويصنعوا الوطن الحلم، ولم يكن الأمر سهلا، فدائما ثمة عنف عشوائي سيظل موجودا، وكوابيس ليلية ستتحاوم هنا وهناك. كل ذلك في لغة بسيطة سهلة وشخصيات مرسومة بدقة تحاول دائما أن تستعيد شيئا من صفات الإنسان.

مجموعة ملهمة وخلابة، وتذكر ما قدمه ويقدمه الأدب العراقي دائما وفي أي وقت).

ويُذكر أن القاص والروائي علي حسين عبيد كان قد أصدر عددا من الكتب السردية منها: قصص كائن الفردوس سنة 2001، وقصص الأقبية السردية سنة 2009، ورواية طقوس التسامي سنة 2000، وكتاب نقدي عنوانه (ثقافة الجدران)، وحقق حضورا عراقيا وعربيا جيدا، لاسيما بعد فوز مجموعته هذه (لغة الأرض) التي تعدّ بحسب الأوساط الأدبية منجزا يُضاف للأدب العراقي والمكتبة العربية.

اضف تعليق