q
ثقافة وإعلام - أدب

الوحش اللامرئي

أخذت موجة الذعر تتسع بعد أن ازدادت حوادث الضرب العنيف في البلد، لفّ الحوادث غموضٌ غير معهود، فلم يُعرَف مَن هو الفاعل. كان سيناريو الهجوم واحداً مع كل ضحية، سواء أكانت أمرأة أم رجلاً، ضربات موجعة من مجهول على رأس الضحية وجسدها، ولكن من غير أن يقتلها...

أخذت موجة الذعر تتسع بعد أن ازدادت حوادث الضرب العنيف في البلد، لفّ الحوادث غموضٌ غير معهود، فلم يُعرَف مَن هو الفاعل. كان سيناريو الهجوم واحداً مع كل ضحية، سواء أكانت أمرأة أم رجلاً، ضربات موجعة من مجهول على رأس الضحية وجسدها، ولكن من غير أن يقتلها، مع تكرار التهجم على الضحية نفسها بين حين وآخر.

الغريب إنّ أياً من الضحايا لم يرَ المتهجم عليه، لذا كانت الشرطة تجد الامر غريبا حين تردها شكاوى من غير أن تعرف الضحية كيف تصف الجاني؟ فلم تكن الضحية تذكر من الحادث سوى الضرب والألم من مصدر ما بقوة جبارة.

مع ازدياد الحوادث انتشر الكثير من الإشاعات، وتداول الناس العديد من التفسيرات وتحدث البعض عما رآه مضيفا من مخيلته او أكاذيبه بعض البهارات !!

ومما قيل إن سياسيا يقف وراء تلك الحوادث بقصد البلبلة والسيطرة، كما جهات خارجية وقوى كبرى خططت لذلك.

أمهات الضحايا لجأن الى العرافات. قالت عرافة إن جنياً نشط في البلد، وإن الجن يكثر في الأماكن التي تحصل فيها الحروب، ومنها تلك المدينة. وعملت لهن حروزاً ليحملها أولادهن.

العجائز فسرن الحوادث أيضا على أنها بفعل الجن او السعالي.

وراج عمل العرافين والعرافات حيث توافد الناس المضروبون عليهم، على أمل أن تؤمن جلسات إخراج الجن من أجسادهم الخلاص النهائي من أوجاعهم والضربات المتكررة من اللامرئي.

أئمة الجوامع خطبوا في المصلين قائلين، إنّ مايحصل هو غضب الله على البشر بعد أن كثر الفساد بينهم وضعف الخوف منه تعالى.

وفسر البعض منهم تلك الحوادث على إنها من علامات الساعة داعين الناس الى التوبة.

بعض المؤمنين من عامة الناس وضعوا في أذهانهم أن اللامرئي ربما هو الريح الباردة التي تأخذ أرواح الصالحين، ليظل في الأرض الكفرة فقط حتى تقوم عليهم وحدهم القيامة.

مخيلة الأطفال كانت الأنقى والأكثر براءة، فقد تداولوا بينهم أن مخلوقات فضائية هبطت على مدينتهم وهي التي تتسبب بتلك الحوادث.

بعض الفكهين ربطوا الموضوع بـ (أبو طبر) الذي سببت جرائمه الهلع بين الناس في السبعينيات، حتى إن الأطفال آنذاك كانوا يتخيلون (أبو طبر) مخلوقاً قادراً على اختراق الجدران، لذبحهم، لذا كانوا ينامون مرعوبين.

بعض المتنورين قرؤوا مايحصل بأنها إشاعات تقف وراءها السلطة السياسية بقصد إشغال الناس عن مفاسدها وأيضا تقصيرها عن توفير الخدمات لهم.

لكن الازدياد المضطرد في الحوادث كان يؤكد أنها ليست إشاعات، لاسيما إن القنوات الفضائية سلطت أضواءها عليها، وقد وجدت فيها مادة دسمة للإثارة.

كثرة الحوادث أدت الى سخط الناس على السلطة السياسية، فخرجوا في مظاهرات متفرقة طالبوا فيها بإيجاد حل لمعاناتهم، وقد تعبوا مما أصابهم من ويلات عبر عقود.

السلطة أعلنت حالة الطوارئ وحشدت قواتها الأمنية لتتخذ دورها في الرصد.

الحوادث أدت أيضا الى زحمة المستشفيات بالراقدين على أسرتها وكثرة الطلبات على الأدوية ومستلزمات العلاج.

استمرت الحال سنوات على هذا المنوال، حتى أصبح البلد عبارة عن أفراد بعضهم ملفوف بالضمادات، وآخر يتعكز على العصي، وآخر يتنفس بصعوبة بالغة، او عاجز عن استخدام يده، وهكذا على وفق كم الضربات التي تلقاها من اللامرئي وأماكن الضرب في جسده.

لم يملك الناس بعد أن عجزوا عن معرفة هوية المتهجم عليهم، وبعد أن يئسوا من مطالبتهم للسلطة بحلول، وبعد أن أصبحوا يتعايشون يومياً مع اعتداءات اللامرئي، سوى أن يولوا أمرهم الى الله تعالى، عسى أن يستجيب لأدعيتهم بأن يخلصهم من هذا اللامرئي الذي وجده منتجو الأفلام قصة مربحة، فأمسى بفضلهم بطل أفلامهم، سواء تشابهت قصصها حوله او اختلفت، وسواء أظهرته على أنه رجل او مخلوق شرير اوطيب، وصوّرته مخيّلة كتاب السيناريوهات السينمائية بمختلف الوجوه والأشكال، وعلى وفق ماهدفوا اليه من الكتابة عنه.

الرسامون والنحاتون تخيلوا ملامحه أيضاً في لوحاتهم، والشعراء والقصاصون كتبوا عنه ووفقاً لمخيلاتهم الإبداعية.

بعد كل السنوات التي تعايش فيها أهل البلد مع لامرئيهم وبعد يأسهم من أن يسمعوا يوما نبأ موته، أصبحوا يرونه القوة المطلقة في الأرض التي لاخلاص منها سوى بمعجزة إلهية.

وخلال كل تلك السنوات أيضاً، لم ير أولئك الناس كيف كان يختلي الواحد منهم بنفسه ويضرب جسده بقسوة متناهية من رأسه الى أخمص قدميه، حتى يفقد وعيه، وما أن يستفيق من غيبوبته على سرير في مستشفى حتى يصرخ موجوعاً مفزوعاً: الوحش اللامرئي.. اللامرئي..اللامرئي.

..........................................................................................................

* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن راي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق