q
ثقافة وإعلام - أدب

ما بين استبداد السلطة واستبداد الثقافة يظل الرقيب حاضرا

التحدي الأكبر أمام الرواية العراقية هو إنتاج أعمال قابلة للقراءة

أحمد سعداوي

 

-1-

هناك أمران تشير الأسئلة إليهما كما يبدو، الأول يتعلق بالأفق المقترح للرواية في مرحلتنا وزمننا هذا، أفق للرواية كما تشير إليه نماذج روائية عربية وعالمية، وافق لإمكانيات رواية عراقية (جديدة).

الأمر الثاني يتعلق بتجربة الكاتب العراقي مع الحرية، كأفق يتحرك باتجاهه في زمن فقدت فيه الحرية، والحرية (لاحقا) كتجربة جماعية عامة شملت المجتمع بأسره بعد إن أزيلت الكوابح التي كانت تمنعها عن الناس.

-2-

تجربة الرواية العراقية مع الحرية تبدو لي من أوجه كثيرة خصوصية تتضمن سياق الأدب عموما، فالروائي هو الأقرب من غيره إلى المؤرخ، وإذا كان جزءا من معركة الديكتاتورية يقوم حول رواية التاريخ وتفسيره، فإن الروائي هنا يكون داخلاً شاء أم أبى في مواجهة غير متكافئة مع وجهة نظر رسمية حول التاريخ معممة وغير قابلة للنقاش.

هذا الأمر لا يواجه الفنان التشكيلي أو الشاعر أو الموسيقي بالحدة نفسها، وهذا ما يجعل الرواية أكثر الأجناس الإبداعية رهافة تجاه مساحة الحرية المتاحة.

هناك محرمات للديكتاتورية يعرفها الروائي، ولكن، ليس هنالك حدود واضحة لهذه المحرمات، وليس هناك بروتوكول يضمها يعرفه الروائي ويتحاشى خطوطه الحمراء. وبين اندفاعية هذا الروائي وتوقه لاغتراف أكبر مساحة من الحرية لكتابة الرواية، وقلقه من ملامسة تخوم المحرمات تكتسب الرواية جزءا مهما من توترها الإبداعي، ليشاكس الروائي بهذه الحالة المؤرخ الرسمي فيدخل من الأبواب الخلفية للتاريخ ومن خرومه وشقوقه ونوافذه المعتمة، منجزا صورة عن زمنه ضمن رهافة الفن وزئبقيته لا يستطيع المؤرخ الرسمي نفيها أو إثباتها.

كان جزءا من الإنجاز التوهم بأنك قلت في روايتك ما لو علمته السلطة لعاقبتك عليه.

-3-

المخيلة أحيانا تمنح وسيلة لقول ما يعسر قوله، أو ما لا يمكن أن يقال (بسبب ديكتاتورية السلطة أو ديكتاتورية الثقافة).

هكذا يفلسف من ضاقت به آفاق الكلام ليغدو ما حرم عليه (من الكلام) هدفا للقول بداهة، هدفا محترما وقدسيا.

ضمن هذه الصورة يغدو ثلب الديكتاتورية (شرط أن لا تكون قادرة على ضبطك متلبسا) شيئا يستحق الإخلاص للكتابة، وهدفا جميعا، ينوب الكاتب فيه عن الصامتين المضطهدين، حتى وإن لم يفهم هؤلاء (الصامتون المضطهدون) ما يقوله الكاتب، فالمهم أن لا تفهم السلطة حقيقة ما نقول!

هنا غدت المخيلة منجماً للكتابة، شيئا يعوض عن غياب الواقعي المؤطر بتاريخ ومحيط اجتماعي استولت على معناه النهائي سلطة غاشمة.

-4-

لم يكن أمام الروائي سوى طريقين.. المخيلة أو التاريخ البعيد الذي لا تملك السلطة حضورا فيه، ما لم يتجاسر الروائي لتشريح هذا التاريخ خارج المخطط العام الذي ترتضيه السلطة.

هنا استذكر أنموذج إسماعيل قادري، فهذا الكاتب استثمر هذين الخيارين أفضل استثمار للهرب من (معنى) السلطة، الذي كان يفرض باسم أنور خوجه، ديكتاتور ألبانيا.

استنادا إلى أنموذج قادري فإن خيارات الكتابة الجديدة ممكنة في أسوأ الظروف. إن أسوأ الظروف بالنسبة للكاتب، في قراءة ما، ليس البقاء تحت رحمة الديكتاتور، وليس الهرب منه، ليس أي شيء سوى تلك التي لا يستطيع الكاتب تحت ظلها أن يكتب ويستمر في الكتابة.

-5-

هناك من يشكون من عدم قدرتهم في الوقت الراهن على الكتابة، فأشعر أنهم فقدوا بوصلة الكتابة، فقدوا الاتجاه والمناخ العام الذي كانوا يعرفون أبعاده، والذي من خلاله يعرفون أين توجد الكتابة فيذهبون إليها.

الانشغال بالعمل، ملاحقة التفاصيل العديدة والمتكاثرة الذي يقذف بها إلينا المشهد السياسي والأمني، السعي للإحاطة بالمشهد العام، معرفة رقعة الشطرنج الكبيرة (الجديدة) وموقعي أنا فيها، وكم مربعا ابعد عن حافاتها الأربع.. تفاصيل تجعل المناخ العام أكثر التباسا.

كانت الكتابة توفر مخرجا من عالم نعرفه جيدا، الكتابة وفرت البديل عن الحياة في مشهدها النهائي والمكتمل، أما الآن فليس هنالك شيء مكتمل ولا يبدو في الأفق شيء نهائي، وما لا نعرفه يتكاثر ويزيح ما نعرفه تباعا، والمطلوب ملاحقة هذا المجهول الحياتي والقبض عليه.

لقد انتقل الكاتب (والروائي) مضطرا من الامتياح المطمئن من المخيلة، إلى عوز الثقافة، الثقافة التي تعني مفاتيح فهم ما يجري.

انتقل الروائي (وهذا ما يفترض طبعا) من تحطيم عالم ثابت ومستقر، وإعادة تنظيمه عبر المخيلة إلى عالم يتحطم وينبني في كل لحظة، عالم لا يستقر على أرض، هو ليس ذاته في اللحظة القادمة. وهنا غدا دور المخيلة ضعيفا، أمام الحاجة للذهن والأداة التحليلية.

حاجة استجدت أمام الروائي الآن (بعد فقدان البوصلة الفجائي) للم العالم وتنظيمه وحصره، وهذه ليست مهمة المخيلة بالدرجة الأساس.

-6-

الحرية الآن، كمقابل للاستبداد والديكتاتورية وسلطة القمع، أضحت فائضة. الكاتب مرتبك إزائها لأنها مطلقة (بعد زوال القطب المضاد لها).

وحتى يستعيد الكاتب بوصلته، يحتاج لاختبار الحرية خارج ثنائية (استبداد السلطة/ وتسامحها)، عليه أن يزيح السلطة من رأسه تماما، في جدلية الإبداع لديه.

مشكلة الكاتب مع الحرية، ليست سياسية وإنما ثقافية، وهي في الإطار الثاني ليست مطلقة أبدا، ولها تخوم وحدود، والإغراء الدائم للخرق وزعزعة الصورة السائدة يأتي بالجدل مع استبداد الثقافة، أو ثقافة الاستبداد، فهي الأرسخ والأكثر غورا.

المهمة الثقافية للرواية تغدو وفق هذا التصور، هي توسيع الحرية، وتعليم الحرية.

-7-

مما سبق يمكن القول أن سلطة الرقابة على العمل الروائي ما زالت حاضرة ولا يمكن لها أن تختفي، يمكن أن تتحول من شخص إلى آخر، وتتبدى بأشكال وأزياء مختلفة، لكنها حاضرة وبقوة في مجتمعاتنا، لذا فإن اختراقات الروائي يجب أن تكون حذرة أيضا، وعليه أن يمرر ما يريد قوله دون أن يدرك (الرقيب!) ذلك، وهو في النهاية يملك (حرية) الاختيار بين ذلك أو يكون استشهاديا ليقول ما يريد دون خشية من رقيب أو حسيب أو اختيار منزلة بين المنزلتين.

-8-

في روايتي الأولى (البلد الجميل) كان الرقيب حاضرا، وكانت دافعية الكتابة أقوى منه ربما، ولان الحسابات الدقيقة عسيرة، فإن التعويل على أن السلطة لا تكترث لما يقوله الروائي ولا تدقق كثيرا، حل مناسب للاستمرار في الكتابة.

لم أرد الهرب إلى التاريخ، ولم أرد كذلك الاتكاء على المخيلة كمصدر وحيد للكتابة، وكانت ثنائية (الظاهر/ المتغيب) حاضرة في ذهني، فالكتابة تكشف، أو هي ليست بكتابة، كانت صورة الحلقة المفرغة حاضرة في ذهني كاستعارة شاملة للإنسان العراقي في زمن التسعينات، وأصبحت هذه الدائرة أو الحلقة هي محور الرواية، كما تتكشف من مصائر الشخصيات التي تناولتها، دون الإشارة إلى جذور السياسية لهذه الحلقة المفرغة والمغلقة، التي يتحطم فيها الأمل والرجاء ليغدو شيئا رومانتيكيا، إزاء قسوة الواقع، وليغدو السلوك العبثي هو المكافئ لانسداد الأفق بوجه الإنسان.

لم اشتم السلطة بوجهها، ولم أوجه سهامي إليها بخط مستقيم، لقد التفت سهامي بدورة واسعة، اقتضاها الإخلاص للفن أولا، وتحاشي الرقيب ثانيا، لتصل إلى وجه السلطة كما افترض. وما هو أكثر إقلاقا هو اختبار القدرة الذاتية على تقديم عمل (قابل للقراءة!)، عمل ممتع ويدفع للتفكير، ويقدم وثيقة فنية عن مقطع من العالم.

-9-

هذه المشاغل الخاصة غير منفصلة بالضرورة عما يجري في العالم من جدل حول النوع الروائي. الروائي مشغول دائما بتحديد موقعه من خريطة الرواية، الرواية بمعناها العام والفضفاض التي هي مجموع كل الروايات المكتوبة في العالم، دائما هنالك انشغال بنسبة أو بأخرى بهذه الخريطة، مهما كانت المسافة التي تفصل الروائي عن الإدراك السليم لها.

من هذا المدخل يبدو التفكير حول الرواية متساوقا مع التفكير داخل الرواية.

المناخ الجديد في الرواية العربية والذي بشر به الدكتور صبري حافظ من خلال نماذج روائية بدأت تطرح نفسها منذ أواسط تسعينات القرن الماضي ربما هو الآن حالة واقعة، فهناك روايات تشترك جميعا بمميزات عامة، كصغر حجم الرواية واستخدام اللغة المباشرة المتقشفة الخالية من التزويق اللفظي والاستعاري، والحرية في الشكل، وسيادة الطابع اللعبي وغير الجاد، وغياب الموضوعات الضخمة، ومميزات أخرى تتواجد بنسب متفاوتة في كل رواية بالضرورة.

ربما هو ليس مصادفة أن يوجد اهتمام مشابه في العراق بمواصفات قريبة مما انشغل الدكتور صبري حافظ بتأشيره في الروايات العربية الجديدة، ولكن تفسير الاهتمام بهذه المواصفات الشكلية من قبل الكاتب قد يختلف بالضرورة. ثم أنها ليست المدخل (هذه المواصفات) لكتابة رواية جديدة، كما أرى، إذا آمنا أن الرواية الجيدة (أو الطليعية بحسب تعبير أمبرتو إيكو) هي من تقترح المواصفات ولا تطبق مواصفات مسبقة، وهي التي توسع من خيارات الرواية ولا تضيقها.

من هنا يغدو الانتباه الشخصي حول هذا المناخ الجديد ليس أكثر من تفكير حول الرواية، لان التفكير داخل الرواية هو من يقودها إلى النور ويؤسس مناخها الخاص.

-10-

في دردشة لي مع أحد الروائيين العرب الشباب، حول روايته الجديدة، وجدت أن فكرته تجاهها مبسطة جدا وشديدة الوضوح (وهذا ما قد نفتقر لبعضه أحيانا!). كان يريد من روايته أن تقرأ، ولترمى بعد ذلك في سلة المهملات، لان القلق الأكبر بالنسبة له هو جعل شخص ما قادرا على قراءة عمله إلى النهاية، في واقع لا تترك فيه المغريات التقنية ووسائل الاتصال الحديثة والسينما وما إلى ذلك إلا هامشا ضئيلا للقراءة عموما، وأضأل للرواية بالذات.

أسميت رواية هذا الصديق ونمط الروايات التي تكتب على منوالها بالرواية الساندويتش، لأنها جميلة أثناء القراءة، ولكنها لا تمنح الدافعية لإعادة قراءتها أو حتى التفكر بما قالته.

أنها أشبه بأغنية سريعة تظهر لتختفي غدا.

ومع ذلك أنا أضع الرواية الساندويتش ضمن خياراتي الروائية، فما الفائدة من عمل خالد لا يقرأ!!.

-11-

كي أكتب رواية طليعية (وهي الرواية التي لا تدعي التحديث وإنما الجدة حسب إيكو) لا يمكنني استبعاد المثقف، ولكن من الذي يفترض أنه في المركز دائما؟

هو أيضا ليس مدعوا ليؤطر الرواية بوجهة نظره مزاجي يميل لجعل بؤرة التفكير في الرواية مستقلة نوعا ما عن بؤرة تفكير المثقف الذي فيها.

هذا خيار واحد ربما من خيارات عدة، تأتي بديلا عن الصوت الدعوي، أو الهذياني للمثقف ذي النبرة الجادة الواثقة، حامل الحقيقة، والذي بدت الرواية، في مرحلة ما من تاريخها، فضاء مصمما لحركته الحرة.

-12-

هذا الموقع الرجراج وغير المؤكد للمثقف داخل الرواية بالإضافة إلى التصورات السابقة يقودني لموضوعتها جميعا في أفق ثقافي وإبداعي افترض أنه يهيمن على العالم الآن، والذي أسست له جملة من المابعديات، التي قد يقود التبسيط والمجانية في طرحها أحيانا لتحويلها إلى بدعة جديدة و (حقيقة!) أخرى.

ما يخصني هنا هو ارتباط هذا الأفق الثقافي بالرواية.

في كتابه (خيانة الوصايا) يطرح ميلان كونديرا تصورا تقف روايات كونديرا عند محطته النهائية، فهو آخر الكتاب في الشوط الثالث الذي استنتجه من حركة الرواية عبر تاريخها، هذا التاريخ الذي انقسم- حسب كونديرا- إلى شوطين أساسيين، الأول ينطلق من سرفانتس ورابيليه باعتبارهما مؤسسين للرواية (بمعناها المتعارف) لينتهي هذا الشوط مع بلزاك الذي يقود الشوط الثاني حتى زماننا المعاصر، والفرق بين الشوطين أن الأول كانت الرواية في لعبية وهازلة ومعنية بالإمتاع كقضية أساسية، وذات شكل هلامي متحرك، أما الرواية في الشوط الثاني فهي ذات بناء تصميمي صارم ومعنية بالقضايا الجادة، معنية بالحقيقة ونقلها، وليست بالسخرية والهزل والعبث، أما الشوط الثالث الذي يقترحه ميلان كونديرا ويضم نفسه إليه فهو (شيء من هذا وذاك).

لكن القضية الأكبر من سعي كونديرا لوضع منجزه ضمن منطق ما لتاريخ الرواية، إن تاريخ الرواية نفسه انتهى، ولم يعد لدينا سوى روايات، المجرى الكبير للرواية تشظى وتحول إلى أنهر وأفرع وقنوات وسواقي، وغدت الرواية استعادات للرواية، في جانبها التقني والشكلي وحتى المضموني. كانت قوة أعمال ديستوفسكي تكمن بالإضافة إلى خصائصها الفنية المتقدمة (بواكير تعدد الأصوات في أعماله حسب باختين) في الإشارة الفلسفية التي عبرت زمانها.

ولكن هذا الطموح بإنجاز إشارة غير مسبوقة ليس واردا الآن، في وقت تعيد فيه الفلسفة المعاصرة التهام نفسها، ولتغدو في محطتها النهائية نوعا من الفن، في وقت لم تتبق فيه مساحة مهارية وبهلوانية على مستوى الشكل لم تطأها أقدام الروايات مرارا.

أعمال مونديرا نفسها هي استعادات لبروخ وفيدروفيتش وكافكا كما يقر هو بذلك، وبعد محطة الرواية الفرنسية الجديدة و(الجديدة الجديدة) التي تليها، اقفلت الرواية رحلتها الشكلية، وما الظهور المفاجئ والمكتسح لرواية الواقعية السحرية، سوى شوط ثالث هو خليط من تاريخ الشكل والمضمون الروائي.

ربما كانت الدلالة التي حملها الجيل اللاحق للواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية مهمة في هذا الصدد، [قرأت عن جماعة تسمي نفسها ماك اندو] فهم يتوجهون كما يبدو نحو (الرواية الساندويتش)، الرواية الخارجة من (أو على) التاريخ، تاريخ الرواية.

أنها روايات تسخر من الجهد التصميمي والمخيلة المحلقة والموضوعة الإنسانية الكبيرة والمتسعة التي حملتها الواقعية السحرية في نماذجها الروائية الهامة، إنها روايات حول شؤون صغيرة ويومية عابرة، حول الهامبرغر والأحذية المدولبة والكوكاكولا والجينز، إنها عن الحياة الاستهلاكية المعاصرة في أمريكا اللاتينية، وفي أجزاء كثيرة من العالم، وهي روايات تنبثق لتموت سريعا مثل ذباب الفاكهة، حسب رصد نقاد هذه الروايات.

إنها روايات ما بعد شكلية، تنشئ نفسها على حواشي تاريخ الرواية، على البرزخ الفاصل بين كونها رواية أو ليست كذلك. وهي مع غيرها تشكل كما يبدو وضعية كونية للرواية الآن.

وفي مناخ النهايات والاستعدادات هذا، تبدو اللحظة المتقدمة (الطليعة حسب إيكو) تنويعا (ضد استهلاكي)، بإدراج الذاكرة الثقافية الإنسانية في خدمة المخيلة، فتغدو الرواية (عند ايكو والعديد من البورخسيين) كاتالوكا يضم بالإضافة إلى الإمتاع وجاذبية السرد، ورجة التيه في دروب الرواية الحلزونية استعادة لمتون ثقافية متنوعة.

وبالتجاور مع (رواية الساندويتش) والرواية البورخسية التي تشبه بثقلها وكثافتها درسا شعريا في الفلسفة، تأخذ الرواية ذات الهم الإيديولوجي الاسقاطي زياً جديدا، بإبدال القضية الإيديولوجية بالقضية الثقافية، ضمن سياق الصراع الداخلي العميق للثقافات وتداخل المجتمعات وتوسع المناطق البيئية للثقافات الهجينة التي خلقتها الكولينيالية العالمية، ليغدو التساؤل حول الهوية والثقافة وحدود الذات مع الآخر جوهر المحتوى الروائي لأعمال تأتي من آسيا والهند والصومال ومن بلدان لم تكن موجودة سابقا على الخريطة الثقافية، يجمعهم تيار ما يسمى بما بعد الكولينيالية. اختفى (المركز الكولينيالي) الذي كان يضم الرواية في العالم إزاءه، وغدا تاريخ النوع الروائي (بعد تشظيه) مشاعا تساهم في صنعه (بل تقوده الآن) ثقافات ما يسمى ببلدان الجنوب.

هذه التكوينات الثلاثة في أفق الرواية حسب رأي، هي المحددات التي تقود تفكيري الحالي حول الرواية، التي قد يغريني التفكر فيها لاختزالها بمفاهيم أضيق، فاسمي الرواية الساندويتش بأنها حكاية تتجه لكي تكون حكاية صافية، مجرد حكاية، غير مثقلة بأي بعد رمزي، أما الرواية البورخسية، فهي تتجه لكي تكون شعرا، أو شكلا يستوعب كمية فائقة من الشعرية الإشارية، أما رواية ما بعد الكولينيالية، فهي تتجه لكي تكون درسا ثقافيا.

-13-

من الصعب علي أنا في روايتي الثانية أو الثالثة أن أفكر بأنموذج، قدر تفكيري بالخيارات المتعددة التي تتيحها لي الرواية المعاصرة. ومثلما قلت سابقا، إن البوصلة الداخلية للرواية هي من يحدد شكلها وبنيتها، وليس جاذبية شكل معين موجود سلفا قبل مغامرة الكتابة.

كذلك، ترتبط الرواية لدي بجملة إشكاليات (خارجية)، ذكرتها سابقا، تجعل من عملية الكتابة شيئا غير منفصل عن السياق الاجتماعي والسياسي والثقافي وحتى النفسي العام، ويتجاوب مع هذا السياق بدرجة أو بأخرى.

-14-

المغامرة الواعية، هكذا أصف هاجسي الدائم بصدد الرواية، مغامرة لا تدعي الإضافة، أو التغيير أو الإلغاء والتجاوز، بقدر ما تعني وتقصد كل هذه المفردات، ولكن على الصعيد الوجودي الخاص، فإن تكون الرواية رحلة ضرورية وبالغة الإثارة بالنسبة لي، هو ما يجعلني أمسك بمعنى الرواية، أو وهمها المؤكد، بما يؤهلني، كما افترض للمساهمة في زيادة الزخم في الرواية العراقية الجديدة.

* مقال نشر في مجلة النبأ-العدد 80-ذو الحجة 1426/كانون الثاني 2006

اضف تعليق