q
قذائف ثلاث استقبلت ظريف في المنطقة الخضراء، مقر القيادة والحكومة والرئاسة والبرلمان والشخصيات والسفارات، لم يكن المقصود بها استهداف الوزير شخصياً، ولا دفعه لقطع زيارته القذائف الثلاث أطلقها محافظو طهران وثوريو بغداد، لتصيب إصلاحيي البلدين ومعتدليهما في قلب عاصمة الرشيد، كحلقة في مسلسل الصراع المحتدم...

لم تمض زيارة الوزير الإيراني محمد جواد ظريف إلى بغداد على خير، أما الأسباب فسياسية بامتياز... ولم يُتِمَّ رئيس الحكومة العراقية زيارته المرتقبة للرياض، لأسباب صحية تتعلق بالوعكة الصحية المفاجئة التي ألمّت بالعاهل السعودي... وبرغم اختلاف الزيارتين والزائرَين، إلا أن المراقب للمشهد العراقي لن يفوته تتبع الروابط المتينة بين الحدثين، ما تَمَّ منهما وما تأجّلَ.

قذائف ثلاث استقبلت ظريف في المنطقة الخضراء، مقر القيادة والحكومة والرئاسة والبرلمان والشخصيات والسفارات، لم يكن المقصود بها "استهداف" الوزير شخصياً، ولا دفعه لقطع زيارته... القذائف الثلاث أطلقها "محافظو طهران" و"ثوريو بغداد"، لتصيب إصلاحيي البلدين ومعتدليهما في قلب العاصمة...، كحلقة في مسلسل الصراع المحتدم بين التيارين وامتداداتهما العراقية، وعلى أرض الرافدين المفضلة دوماً كساحة لتسوية الحسابات.

ظريف استمع إلى ما لا يرضي مرجعياته العليا من قبل الرئاسات العراقية الثلاثة: العراق لا يريد أن يكون في ذيل أحد، ولا أن يتحول إلى "صندوق بريد" لتبادل الرسائل الدامية بين المراكز والمحاور الإقليمية والدولية...العراق يسعى لـ"التوازن" في علاقاته الإقليمية والدولية، و"التوازن" بالعراقي الدارج هذه الأيام، يرادف "الحياد" و"النأي بالنفس"، باللبناني الدارج هذه الأيام أيضاً.

ربما تكون كلمات هادي العامري (تحالف الفتح) وفالح الفياض (الحشد الشعبي) هي الخبر السار الوحيد الذي سيحمله الوزير ظريف إلى مرجعياته، لكنني أشك أنه سمع كلاماً مماثلاً من عمّار الحكيم (تيار الحكمة) الذي التقاه في بغداد أيضاً، فالأخير حرص على نشر مقال في "الشرق الأوسط" السعودية في اليوم التالي لوصول الضيف الإيراني، حمّله عنواناً لافتاً: "فرصة تاريخية لبناء الدولة القوية"، استرجع فيه سيرة والده، "شهيد المحراب"، مستذكراً مواقفه عن الدولة القوية العادلة، وعن احتكارها للسلاح...هذا كلام لا يُفهم منه سوى الاعتراض على "الحشد الشعبي" وفوضى السلاح وفلتان المليشيات، ومعظمها محسوبة على صقور طهران.

قبل وصول الزائر الإيراني، كان العراق يشتعل بجدل حول أولويات البلاد في علاقاتها الخارجية...التيار المحسوب على إيران اعترض على اتخاذ السعودية مقصداً لأول رحلة يقوم رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي للخارج، وكان يفضل لو أن إيران كانت وجهته الأولى... تيار "دولة القانون" بزعامة نوري المالكي، أصدر موقفاً استباقياً رفض فيه "ضرب صفح" أو حتى "طي صفحة "الإرهابيين السعوديين" في العراق، في استعادة لواحدة من أسوأ صفحات التردي في علاقات بغداد بالرياض.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فخصوم الكاظمي في بغداد، امتداداً لتيار "المحافظين الثوريين" في طهران، لم يتوقفوا عن إصدار التلميحات و"التصريحات" التي تتهم رئيس الوزراء بالتبعية لواشنطن، والتفريط باستقلال العراق على موائد "الحوار الاستراتيجي" مع الولايات المتحدة، بل وحتى التلميح بضلوعه في واقعة اغتيال المهندس – سليماني في الثالث (3/1/2020) قرب مطار بغداد، في مسعى لتخويفه وابتزازه عند كل منعطف سياسي كبير، ولا ننسى أن واقعة اغتيال الصحفي هشام الهاشمي (6/7/2020)) كانت الرسالة الدامية الأولى، التي بعث بها هذا التيار لرئيس الحكومة الحالي، رجل المخابرات السابق.

لم يشفع للوزير ظريف أنه اتخذ من مكان اغتيال سليماني – المهندس، أول محطة يتوقف بها بعد أن وطأت قدماه أرض العراق... ولم يشفع للكاظمي أنه ارتدى الزي الرسمي للحشد الشعبي عند زيارته لمقره قبل بضعة أسابيع... ثمة من يصر على إبقاء العراق "صندوق بريد" وساحة مفتوحة لحروب الوكالة وتسوية الحسابات الدامية... ثمة من يضع يده على مسدسه كلما مرت على مسامعه كلمات من نوع: سيادة، استقلال، حياد، توازن، وغيرها من مترادفات تتعارض مع ديدنهم: "من ليس معنا فهو ضدنا".

في التقريب بين الرياض وطهران؟

يستأنف رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي، ما كان بذله سلفه عادل عبد المهدي، من «مساعي حميدة» بين السعودية وإيران...العراق معنيٌّ بهذا الملف أكثر من غيره، فالسعودية كما تكشفت التقارير، وآخرها تقرير «وول ستريت جورنال» قبل أيام، لاعب رئيس مع عشائر غرب العراق، فيما إيران باتت مرجعية لتيارات سياسية ومسلحة نافذة، وأي تقارب بين البلدين، سينعكس إيجاباً على أمن العراق واستقراره.

في ذروة صعود «الترامبية»، ما كان ممكناً للمصالحة أن تشق طريقها بين الرياض وطهران، وهو طريق سار عليه بنشاط وهمّة كذلك، رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان وآخرون من دون جدوى، وكان مفهوماً أن تأتي المصالحة السعودية – الإيرانية بعد إتمام المصالحة الأمريكية – الإيرانية، الأمر الذي لم يحصل، بل وحصل نقيضه، حيث باتت العلاقة بين طهران وواشنطن، أقرب للمواجهة والاشتباك المباشرين، مع اغتيال قاسم سليماني مطلع السنة الحالية، وصولاً إلى «حرب الظلال» و»الناقلات» المحتدمة بين الجانبين، وبتدخل إسرائيلي نشط ومبادر.

بهذا المعنى، تبدو مهمة الكاظمي بين الرياض التي سيصلها اليوم، وطهران التي سينتقل إليها غداً، شديدة الصعوبة والتعقيد، والآمال بشأن تحقيق غاياتها، تبدو ضعيفة للغاية، لكن الرهان ما زال منعقداً على أمرين اثنين: تخفيف حدة التوتر واحتواء التصعيد من جهة، والبناء على النتائج المرتقبة للانتخابات الأمريكية المقبلة، من جهة ثانية.

من الواضح تماماً أن رهانات خليجية على إدارة ترامب، وفرص قيامها بدور يلجم إيران ويحجم نفوذها الإقليمي، ويقلص طموحاتها النووية والصاروخية، لم يكن رهاناً في محله... ترامب أطلق الكثير من الوعيد والتهديد، لكنه فعل القليل، إذ حتى سياسة «أقصى الضغوط» التي اعتمدها ترامب، وجدت طهران وسيلتها للإفلات من قبضتها الصارمة، من خلال الاتفاقات الاستراتيجية الكبرى التي أبرمتها أو هي بصدد إبرامها، مع أزيد من ثلث سكان الكرة الأرضية: الصين والهند.

ثم، أن إيران أظهرت قدرة على امتصاص «الحرب السيبرانية» التي تُشن عليها، وليس من المستبعد أن تشهد الفترة المقبلة، هجمات إيرانية مضادة، بالأدوات والأساليب ذاتها...وإيران نجحت في تحدي قيود الملاحة البحرية.

على أن التكهنات بشأن نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وتعاظم فرص فوز الديمقراطيين بزعامة جو بايدن، ربما تخدم على نحو أفضل، مهمة الكاظمي الأولى بين السعودية وإيران... إن فاز الرجل في الانتخابات، من المرجح أن تشهد العلاقات الأمريكية –الإيرانية، انفراجة كبيرة، وربما عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي و»إرث أوباما»، وهذه ليست أخباراً سارة للسعودية والخليج وبعض دول المنطقة، وفي المقدمة منها إسرائيل...حدثٌ كهذا من شأنه أن يكون“GAME CHANGER” لقواعد اللعبة والاشتباك وديناميكيات القوة في المنطقة.

وإن أرادت السعودية أن تختار طريق «التطبيع» مع إيران، فأحسب أن الوقت الحالي هو الأنسب لها، قبل الانتخابات وليس بعدها...لكن ربما كانت الرياض تفضل التريث حتى انجلاء ليل الانتخابات الأمريكية الطويل، لتبني على الشيء مقتضاه.

المصالحة السعودية –الإيرانية مهمة للغاية للطرفين المتصارعين، لا تقل أهميتها للسعودية عن أهميتها لإيران، فهي المدخل لها لحلٍ سياسيٍ للأزمة مع اليمن، والمخرج الأقصر للتخلص من رماله المتحركة...وهي الوسيلة الأنجع للتخفيف من وطأة تراجع أسعار النفط والركود الاقتصادي العالمي وتداعيات «جائحة كورونا» الثقيلة على الجميع من دون استثناء، جاء بايدن أم عاد ترامب، لا فرق.

* جريدة الدستور الأردنية

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق