q
راشيل نوير-صحفية

 

لا تنهض المجتمعات الكبرى ولا تستقر من دون حكومة، حتى لو كانت هذه الحكومة عاجزة عن تحقيق تطلعات الشعب. وربما يرجع أصل المشكلة إلى أن الكثير من هذه الحكومات لا يزال يتناول هموما كانت تؤرق المجتمع في القرن التاسع عشر، ولهذا فإن إصلاح هذه الحكومات بات أمرا حتميا قد طال انتظاره.

تعد أغلب الحكومات في العالم رجعية، ولا تواكب العصر الحالي. إذ خرجت أكثر الحكومات إلى النور في القرن التاسع عشر، ولا تزال تعكس هموم المجتمع آنذاك، مثل غلاء الاتصالات، وصعوبة انتقال البيانات، ولهذا تتألف الحكومات من وزارات وأجهزة ذات هياكل تنظيمية هرمية التسلسل منغلقة على نفسها، تختص كل منها بوظائف محددة، مثل حفظ الأمن، وتحقيق العدل.

وقد أصبح العالم اليوم أكثر ترابطا، وتسارعت وتيرة التطور، وزاد حجم البيانات بمعدلات غير مسبوقة، لكن حكوماتنا لا تزال تراوح مكانها.

يقول جيوف مولغان، المسؤول التنفيذي بمؤسسة "نيستا" للابتكارات، وأحد رؤساء لجنة مستقبل الابتكار والريادة في العالم، التابعة للمنتدى الاقتصادي العالمي: "من سوء حظنا أن الحكومات الحديثة تشكلت منذ زمن بعيد، ولم تعد تصلح للعصر الحديث من نواح عدة".

ولو نظرنا مثلا إلى المشاركة السياسية، سنجد أنها لا تزال تقتصر على انتخاب حزب من الأحزاب مرة كل بضعة أعوام، رغم أن تطور التكنولوجيا والاتصالات قد ساهم في إتاحة طرق عديدة للمواطنين للتعبير عن آرائهم.

ويرى الكثير من الخبراء أن إصلاحا جذريا لهذا النظام ليس مطلوبا فحسب، بل بات ضرورة لا مفر منها.

يقول نايف الروضان، الزميل بجامعة أكسفورد، ورئيس برنامج العوامل الجيوسياسية وتحديات المستقبل العالمي بمركز جنيف للسياسة الأمنية: "الديمقراطية هي كائن يتطور، وينبغي أن تتحسن مع مرور الوقت".

وإذا لم تساير الحكومات تغيرات العصر، ستقل قدرتها تدريجيا على تلبية احتياجات الشعب، ومن ثم يزداد السخط الشعبي عليها، ويشعر المواطنون أنهم حُرموا من حقوقهم التي يكفلها لهم القانون.

وهذا يحدث بالفعل في بعض الدول الديمقراطية أيضا، التي تبدو في ظاهرها مستقرة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، التي يعيش فيها 43 مليون شخص في فقر مدقع، أي نحو 14 في المئة من السكان، بعد أن كانت نسبتهم لا تتعدى 11 في المئة في عام 1973.

ويقول الروضان: "هذا التباين غير مقبول أخلاقيا ولا اجتماعيا. ومع الوقت، سيثور هؤلاء الناس ويسببون المشاكل، لأنهم قد بلغ بهم الإحباط مداه".

ويدير الأنظمة السياسية القائمة على الانتخابات مسؤولون ضيقو الأفق، يضعون أهدافا لبضع سنوات فقط. وفي ظل زيادة تنوع المجتمعات، وتعقدها، وترابطها، وزيادة احتياجاتها، أصبحت الحكومات تنفذ إصلاحات سطحية مؤقتة كلما طرأ خلل ما.

لكن الاهتمام بالأهداف قصيرة المدى على حساب الأهداف طويلة المدى- مثل إهمال البنية التحتية لسنوات حتى تدهورت، كما في ألمانيا، أو إضافة تريليون دولار إلى الدين العام من أجل تخفيض الضرائب، كما هو الحال في أمريكا، أو قطع أشجار الغابات وحرقها من أجل زراعة أشجار جديدة، كما في أندونيسيا- ستطال آثاره السلبية الجميع.

تقول أنجيلا ويلكنسون، كبيرة مديري مجلس الطاقة العالمي، وأستاذ إدارة الأعمال بجامعة أكسفورد: "قد يستمر الأمر على هذا الحال لسنوات طويلة، ولكن النظام إذا انهار، سيكون لذلك عواقب وخيمة".

لكن هذا لا يعني أننا يجب أن نستغنى عن الحكومات كليا. إذ يشير مولغان إلى أنه لم ينهض على مدار التاريخ أي مجتمع من المجتمعات الكبرى من دون حكومة.

ولا يمكن أن نقوّض أيضا الأنظمة السياسية ونبدأ من الصفر. فقد أقدم بلد مثل جنوب السودان على ذلك مؤخرا، ويطلق عليه منذ هذا الحين لقب أحدث الدول الفاشلة في العالم.

ويقول مولغان: "إن نجاح الحكومة، كشأن أي مهمة معقدة في الحياة، مرهون بالكفاءة والخبرة، والمعرفة والفعالية، وهذه العوامل تُكتسب مع مرور الوقت".

تطوير الحكومة

بيد أننا في المقابل، يجب أن نعيد تشكيل الحكومة الحالية لتساير العصر الحديث، بحيث تكون أكثر دراية بالتكنولوجيا والأنظمة المتطورة، وتعتمد على جمع وتحليل البيانات، وتكون أكثر ارتباطا وتفاعلا مع العالم.

وقد بدأت بالفعل بعض الحكومات في انتهاج هذا المسار، لكن ويلكنسون تقول إن البعض الأخر لم يكن أداؤها مرضيا.

وتقف سياسات بعض الدول على طرفي نقيض. وبينما يتعلم طلاب المدارس الابتدائية في السويد على سبيل المثال أساليب البرمجة، وكيفية رصد الأخبار الزائفة، اعتاد الرئيس الأمريكي مثلا على الترويج لبعض الأكاذيب.

وبينما تستكشف تايوان وأسبانيا وأيسلندا طرقا جديدة لإيصال أصوات العامة للدوائر الرسمية، والاستفادة من أفكارهم في صنع القرار، فإن روسيا وتركيا تتجهان على ما يبدو نحو الاستبداد والحكم الشمولي.

وبينما أتاحت إستونيا لمواطني أي دولة في العالم الحصول على هوية رقمية لدى الدوائر الحكومية هناك بموجب نظام الإقامة الرقمية، اختارت بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي.

لكن الروضان يضيف أن معظم الحكومات اليوم، حتى في أوروبا وأمريكا الشمالية، لا تزال دون المستوى المطلوب.

ويقول: "على الرغم من الجهود التي تبذلها هذه الحكومات لضمان حصول جميع المواطنين على الحرية السياسية، لا يزال الكثير منهم يشعرون أنهم محرومون من حقوقهم التي كفلها لهم القانون بسبب اتساع هوة التفاوت في الدخول".

وحتى إذا أراد زعيم بعينه أو ربما مجتمع بأكمله أن يحدث تغييرا إلى الأفضل، كثيرا ما يكتشف أنها أهداف بعيدة المنال.

وفي مصر، لم تنجح انتفاضات الربيع العربي في تحريك المياه الراكدة، وإعادة هيكلة الحكومة، وفي الولايات المتحدة، أُجهضت مشروعات باراك أوباما لتخفيف حدة التغير المناخي، وتقديم رعاية صحية منخفضة التكلفة، وإصلاح قانون الهجرة، ولم يتحقق حلم نيلسون مانديلا في أن تصبح جنوب أفريقيا بلدا متعدد الأعراق والألوان مثل "قوس قزح".

وتقول ويلكنسون إن البنية الحكومية قد تكون العقبة الكؤود في سبيل الإصلاح. ويطرح القطاع الخاص بين الحين والآخر أفكارا للمساهمة في التغيير، إذ نظم أحد أصحاب المليارات في سويسرا على سبيل المثال، منافسة لتصميم نظاما أفضل للحكم العالمي.

إلا أن الحكومات قد تكون كارهة للتجديد، فهي تنتظر حتى تأخذ السوق زمام المبادرة، ثم تسعى جاهدة لمواكبتها. فإذا راقت فكرة ما للحكومة، لا تختبرها على عينة محدودة من السكان أولا، بل تصدر قرارات فورية لتطبيقها على المجتمع بأكملة.

ويقول ويلكنسون: "لا يمكنك استخدام كلمة "تجربة" في الحكومة، فهي كلمة مُنكرة، لأنها قد تنطوي على الفشل".

ويتابع: "إلا أننا لا يمكن أن ننتظر حتى تنصلح الأمور من تلقاء نفسها، ولا يمكن أن نعيد استخدام حلول عفا عليها الزمن أيضا."

"دولة منفتحة"

قررت بعض الحكومات أن تخوض غمار التجديد والابتكار، مثل كندا، حيث أعلن رئيس الوزراء جاستن ترودو أن التجربة ستكون هي المعيار في صنع القرار.

وخصص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ميزانية لإجراء أبحاث حول الطرق المثلى لإدارة الحكومة. كما خصصت الإمارات العربية المتحدة أيضا واحدا في المئة من حجم الإنفاق الحكومي للابتكار.

ويقول مولغان: "هذا يعني تطبيق المنهج العلمي على الحكومة بأكملها، بدلا من تكليف أشخاص في العاصمة بكتابة قانون ثم تطبيقه على الملايين".

وربما تكون سلوفينيا رائدة في مجال تطبيق المنهج العلمي، بعد أن دشنت في عام 2015 برنامج "رؤية سلوفينيا للمستقبل في عام 2050".

تقول ألينكا سميركولج، وزيرة الدولة لشؤون التطوير والمشروعات الاستراتيجية والتعاون في سلوفينيا: "في ظل العولمة، ارتفعت توقعات الناس، وأصبح الحكم أصعب من أي وقت مضى. وأدركنا أننا لا يمكن أن نواصل مزاولة أعمالنا كالمعتاد، وأن علينا أن نبدأ بالتغيير".

وسرعان ما اكتشفت سميركولج وزملاؤها أن هذا يتطلب وضع خطة طويلة المدى من عدة خطوات وأهداف، على أن تنفذ بحلول 2050، ثم حددوا الخطوط العريضة لرؤيتهم لسلوفينيا في هذا التاريخ.

وأنفقت الحكومة عاما في استطلاع آراء ما يزيد على ألف مواطن سلوفيني، على اختلاف مشاربهم، وعقدت عدة ورش عمل. وتقول سميركولج: "لم يكن الأمر سهلا، ولكننا اكتشفنا أننا لن نحدث تغييرا حقيقيا في الحكومة إلا إذا تحدثنا إلى الناس واستعدنا ثقتهم".

وفي ضوء الآراء وتحليلات الاتجاهات والتنبؤات، وضعوا 12 هدفا مبدئيا من أهداف التطوير المتوقع تنفيذها مع حلول عام 2030، وكلها تهدف إلى تحسين جودة الحياة للجميع.

وكانت هذه الأهداف تتراوح ما بين تعديل بعض نصوص القوانين، إلى إيجاد حلول لمشكلات معقدة.

تقول سميركولج: "أجبر المشروع الناس على التحدث إلى بعضهم، وحمل صناع السياسة على التفكير في سياسات أكثر استجابة وفعالية. وهذا المشروع بالطبع لا يناسب سلوفينيا وحدها، بل تستطيع أي دولة في العالم أن تطبقه".

النظام العالمي

في مؤسسة "غوفرن منتاليتي"، التي تسعى لتحسين أساليب الحكم، تحاول ويلكنسون وزملاؤها أن يحثوا الناس على عرض مقترحاتهم وأفكارهم عن حكوماتهم بطرق خلاقة. وتقول ويلكنسون: "هدفنا الرئيسي يتمثل في إحداث تغيير من داخل الحكومات".

وتقول ويلكنسون إن إصلاح الحكم قد يبدأ بإقامة نظام سياسي يقوم على تعدد مراكز السلطة وصنع القرار، والتخلي عن المركزية في اتخاذ القرارات. وهذا يتطلب وجود مبادئ توجيهية لضمان التعاون ومنع طغيان سلطة على الأخرى، وتضافر الجهود لتحقيق أهداف مشتركة. وهذا النظام سيساهم في توحيد الجميع تحت مظلة رؤية موحدة، كما هو الحال في سلوفينيا.

ويقول الروضان في كتابه "التاريخ المستدام وكرامة الإنسان"، إن الدفاع عن كرامة الإنسان يعد أحد الركائز الأساسية لعملية الإصلاح الرامية إلى بناء حكومة مثالية، وهذا يعني عدم تغليب المشاعر الإنسانية والفساد الأخلاقي والأنانية بأي حال على المعايير الأساسية التسعة، وهي المنطق، والأمن، وحقوق الإنسان، والمساءلة، والشفافية، والعدل، وتكافؤ الفرص، والتجديد، والمساواة بين الجمع.

وقد يفضي غياب بعض هذه المعايير أو كلها إلى ضعف أداء النظام أو تداعيه كليا.

وهذه النظرية أيدتها دراسات لحالات من الواقع. إذ اشتهرت فنلندا على سبيل المثال بنظام الرعاية الاجتماعية الاستثنائي، لكن انعدام الفرص والابتكار جرّا البلاد إلى عقود من هجرة العقول.

ويقول الروضان: "ينبغي أن يتيح النظام فرصة لكل من لديه فكرة جديدة لعرضها وتنفيذها، وإلا لن تتحقق نهضة ولن يرضى الشعب".

كما جمعت مؤسسة "نيستا" للابتكارات 30 حكومة، منها حكومات سنغافورة، وكندا، وتشيلي، واستراليا، ضمن المشروع الجماعي العالمي "دول التغيير"، لدعم التجديد والتغيير. وفي إطار هذا البرنامج، سيطرح سياسيون ورواد أعمال وزعماء من جميع أنحاء العالم أفكارا ومقترحات جديدة ويختبرون أساليب جديدة لاستخدام البيانات والأنظمة التقنية لتحسين أساليب الحكم والمساهمة في تغيير العالم.

ويقول مولغان: "ليس من المستحيل إقامة حكومات قادرة على التعلم والتطور والتفكير. وربما ستتمكن أفضل الحكومات بعد 20 أو 30 عاما من إنجاز أمور قد نعجز الآن عن تصورها."

http://www.bbc.com/arabic

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق