q

في الدولِ المحترَمة، تَنشأُ مُشكلةٌ سياسيّةٌ فيلجئون إلى الدستورِ لحلِّها، ويَنشأُ إشكالٌ دُستوريٌّ فيذهَبون إلى القضاءِ الدستوريِّ لحسمِه، ويَحصُلُ انقسامٌ وطنيّ فـيَحتكِمون إلى الشعبِ لإنهائه. أما عندَنا، فنربُطُ بالسياسةِ الدستورَ والقضاءَ والشعبَ وكلَّ وسائلِ المراجَعةِ لتعقيدِ الخِلافاتِ ومنعِ حلِّها، أو لقبضِ ثمنِ تسويتِها.

لكنَّ السياسةَ التي تَفقِد القُدرةَ التقليديّةَ على معالجةِ شؤونِ المجتمعاتِ في الدولِ المتقدِّمةِ والناجِزةِ، كيف حالُـها في دولةٍ متراجِعةٍ مثلَ لبنان؟ هنا السياسةُ هي الحلَقةُ الأضعفُ في نظامِنا طالما نحنُ مختلِفون وطنيًّا حولَ ماهيّةِ لبنانَ ودورِه وهويّتِه لا بسببِ انتماءاتِنا إلى طوائفَ فقط، بل بسببِ انتماءاتِ طوائفِنا أيضًا.

وَقَفاتُنا الوطنيّةُ مِن الاستقلالِ والميثاقِ الوطنيّ، إلى "اتفاقِ الطائفِ" والاعترافِ بلبنانَ وطنًا نهائيًا، افتقدَت الترجمةَ في الممارسةِ السياسيّةِ. لا بل أعْطى اللبنانيّون العالمَ أدِلّةً دامِغةً على انقسامِهم حيالَ الاستحقاقاتِ الكبرى والصُغرى. وِحدةُ المصالحِ فاقَت الوِحدةَ الوطنيّة ما جعلَ الأولويّةَ للاستقرارِ على الاستقلال.

قد تكونُ هذه الأولويّةُ فكرةً واقعيّةً مع انقسامِ اللبنانيّين، ومع صعوبةِ تحقيقِ الاستقلالِ المطلَقِ في زمنِ تبادلِ المصالحِ الدوليّةِ والعوْلـمَة، لكنها تتناقضُ مع الشخصيّةِ التاريخيّةِ لفئاتٍ واسعةٍ من الشعبِ اللبناني. مشكلةُ هذه الفئاتِ مع محيطِها الواسعِ أنّها رَفضَت الاحتلالَ مقابلَ الاستقرار، فظلَّ استقلالُ لبنانَ نسبيًّا حتّى في الزمنِ الجميل. منذُ البَدءِ والصراعُ في لبنانَ بين الاستقلالِ والاستقرارِ، فيما يُفترضُ أنْ يَتعايَشا حالَهَما في دولٍ أخرى. وغالبًا ما اختارَ اللبنانيّون فكرةَ الاستقلالِ، فكان الشهداء، وتَصرَّفوا ضِدَّ الاستقرار، فكانت الأزَماتُ وضَياعُ الاستقلال.

الاستقرارُ القائمُ حاليّا هو استقرارُ الحدِّ الأدنى، وكان موجودًا في مرحلةِ الشغورِ الرئاسي. أما الاستقرارُ المنشودُ اليومَ، هو لقاءُ السيادةِ بمعنى الشرعيّةِ والأمنِ بمعنى السلام، لتنطلقَ الحياةُ في كلِّ قطاعاتِ المجتمَع. فعدمُ حدوثِ عملٍ سلبيٍّ ليس استقرارًا، إنما حصولُ أعمالٍ إيجابيّـةٍ هو الاستقرار.

عدمُ وقوعِ اعتداءٍ إسرائيليٍّ لا يَكفي لكي يكونَ لدينا استقرار. الأزماتُ المتتاليةُ والناتجةُ عن غيابِ الوِحدةِ الوطنيّةِ وعن توزيعِ الحِصَص وعن فُقدانِ الحِسِّ بالمسؤوليةِ لا تَقِلُّ خطورةً من الحروبِ على استقرارِ البلادِ. فمَأسَسَةُ السلاحِ غيرِ الشرعيِّ، أزمةُ بواخرِ الكهرباء، فضيحةُ النفاياتِ، ملابساتُ استقالةِ سعد الحريري ورجوعِه عنها، عدمُ احترامِ بيانِ النأيِ بالنفسِ، خطاباتُ التهديدِ والوعيد، وسجالاتُ مرسومِ ترقيةِ الضبّاط، كان لها جميعًا وقعٌ سلبيٌّ أيضًا على البلادِ وأسواقِها الماليّةِ والاقتصاديّةِ والسياحيّة.

في لبنان، يَـخلِطُ الحكمُ بين استقرارِه هو واستقرارِ البلَد، ويَـمزُج بين الاستقرارِ والركودِ، ويَدمُجُ بين الاستقرارِ النابعِ من إرادةٍ وطنيّةٍ والاستقرارِ الناتجِ عن الخضوعِ لقوى الأمرِ الواقِع. والـخَشيةُ أن يُشكِّلَ الاستقرارُ الحاليّ ساتِرًا يَـحجُب عمليّةَ تغييرِ هويّةِ لبنانَ ونظامِه وحضارتِه ("افرَحوا بالأمنِ ولنا الباقي"). ليس الاستقرارُ بديلاً عن الاستقلال، بل متمِّمٌ له.

لكنَّ اللافتَ أنَّ الاستقرارَ اللبنانيَّ لا يَعكِسُ وِحدةَ الشعبِ، بل يُشبه الهُدنةَ بين شعوبٍ تَنتمي إلى دولٍ متنازِعةٍ، حيثُ لا يَـعُمُّ بينَها الاستقرارُ إلا في حالتين: توازنُ القِوى، أو سيطرةُ دولةٍ على الدولِ الأخرى. هكذا الحالُ في لبنان، إذ يسيطرُ مكوّنٌ مسلَّحٌ على باقي المكوِّناتِ بمنأى عن الدستورِ والميثاقيّةِ والشراكة. نحن نعيشُ في ظِلِّ مجموعاتٍ فدراليّةٍ من دون دولةٍ فدراليّةٍ جامِعة.

انخفَضت طموحاتُ اللبنانـيّين وأصبحوا يَستَكْفون بالاستقرارِ، لضِيقَـتِـهم الاقتصاديّةِ والاجتماعيّةِ وخيباتِـهم من معاركِ السيادةِ والتحريرِ. قَهروا اللبنانيَّ حتّى أصبحَ الاستقرارُ بمعناه الضيِّقِ أقصَى مُناه.

القُنوعُ بالاستقرارِ، رغمَ تبريراتِه الموضوعيّة، خِيارٌ محفوفٌ بالأخطارِ المستقبليّة. فالتركيزُ عليه من دونِ مشروعٍ وطنيٍّ سياديٍّ، هو تضحيةٌ بالمستقبلِ من أجلِ مرحلةٍ حاضِرة. وحدَه العملُ على بناءِ دولةٍ قويّةٍ وحالمةٍ وطموحةٍ يجعلُها قادرةً على احتضانِ شعبِها واستقبالِ الأجيالِ المتتالية. أما الدولةُ المستقرّةُ أمنيًّا نسبيًّا من دونِ استقرارٍ وطنيٍّ حقيقيٍّ، كلبنان، فتموتُ تدريجًا. وأساسًا، إنَّ عناصرَ الاستقرارِ في علمِ السياسيةِ هي: السيادةُ، الاستقلالُ، الولاءُ الوطنيُّ، المسؤوليةُ المواطنيّة، الأمنُ القوميّ، دولةُ القانون، الحريّاتُ العامّة، الحركةُ الاقتصاديّةُ، والسلامُ الإقليميّ. وبالتالي، إنَّ أيَّ استقرارٍ من دونِ سيادةٍ هو سكونُ القبور، وأيَّ استقرارٍ من دون حرّيةٍ هو أمنُ السجون، وأيَّ استقرارٍ من دونِ ازدهارٍ هو ركود.

منذ البدءِ تَمَحورَ نضالُ اللبنانيّين حولَ رفضِ الاستقرارِ من دونِ الاستقلالِ والحريةِ والكرامةِ وتقريرِ المصير. ويَسهو عن بالِ كثيرين أنَّ لبنانَ هو مشروع ُكرامةٍ وليس مشروعَ استقرار فقط. كانَ كذلك قبلَ أن يكون. اسألوا صيدا وصور في العصرِ القديم، ووادي التيم والشوف وكسروان وجُبّةَ بشرّي في العصرِ الوسيط، وعين الرمانة والأشرفية وزغرتا وزحلة والجَنوبَ في العصرِ الحديث. لو كان الاستقرارُ الأمنيُّ وحدَه هدفَنا التاريخيَّ، لاختَرنا أحدَ الاحتلالاتِ المتعاقِبةِ ووفَّرنا ألوفَ الشهداء. ولقد مَرّت علينا احتلالاتٌ خارجيّةٌ أكثرَ حضارةٍ ورُقيٍّ ومسؤوليّةٍ من بعضِ العهودِ والحكوماتِ "الوطنيّة".

التخلّي عن السيادةِ والاستقلالِ من أجلِ الاستقرارِ والأمانِ حَصريًا منطقٌ خاطئٌ يَقودنا بخُطى ثابتةٍ نحو الإذعانِ كمواطنين والاندثارِ كوطن. ليس هذا الكلامُ تعلُّقًا مُسرِفًا بالسيادةِ، إنما حصيلةُ قراءةٍ موضوعـيّةٍ وعلميّةٍ لتاريخِ لبنانَ، لتحوّلاتِ الشرق، لتطوّرِ حركةِ الديمغرافيا اللبنانيّة. وبالتالي لا يَحقُّ للمسؤولين الحاليّين أنْ يَدفنوا الشهداءَ - وجميعُهم لهم شهداءُ - وأنْ يقايِضوا على تضحياتِهم وعلى روحِ المقاومَة.

فهل نقولُ للشهداء: عفوًا مُـتُّم بالغَلط؟ أخطأنا بالحسابِ فرُحتُم فرقَ الخيارِ بين الاستقرارِ والاستقلال؟

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق