q
ان ما تعتبره بعض الشعوب مجالا للهروب من ضغوطات الحياة والتسلية، أصبح يشكل اداة لتدعيم السياسة الأمريكية لا يمكن الاستغناء عنها، فهي بذاك وفرت على نفسها المزيد من الوقت وتمكنت من ايجاد وسيلة تساعدها في بسط نفوذها السياسي دون الحاجة الى الحروب التقليدية، التي كلفتها ملايين الدولارات...

عندما يتم اكتشاف تقنية جديدة، تغمر السعادة البشرية لما ستقدمه من خير وتحسين نمط الحياة لديها، ومن هذه التطورات في المجال التقني هو شبكة التواصل الاجتماعي فيس بوك، هذه الفرحة تأخذ بالاضمحلال شيئا فشيئا بعدما طفت سلبيات الاكتشاف الجديد الى السطح، مما يجعل الأفراد الذين احتفوا به حين قدومه، يغيرون قناعتهم ويقفون بالضد منه لتقليل آثره على المجتمع بصورة عامة.

فلا أحد ينكر ما احدثته الثورة الصناعية في المجتمعات الأوربية، وجعلتها مجتمعات متحكمة في مصير الكثير من الشعوب، فضلا عن تحكمها في تدفق السلع والخدمات الى أنحاء العالم المترامية، ومنحها القدرة على استغلال الدول وجني ارباح هائلة منها.

لا مانع ان ينسحب المثال أعلاه على الإنتاج الإلكتروني وتحديدا موقع الفيس بوك، اذ تمكن الموقع من تقديم تجربة ناجحة في مجال التواصل الاجتماعي بالاعتماد على الشبكة العنكبوتية، لكن هذا لا يقلل من حجم الخطر الذي سيحدثه بمستخدميه لاسيما مع تنامي إعدادهم حول العالم.

فرض موقع الفيس بوك جملة من الشروط قبل ان يمنح الأفراد حساب يمكنهم من الدخول الى عالمه، ومن بينها ولعلها الاهم هو طلب معلومات شخصية عن الفرد تتسم بالدقة، في المقابل يعطي لنفسه الحق في استخدام هذه المعلومات ومشاركتها دون قيد او شرط يحمي للمستخدم خصوصيته.

يمكن ان نستنتج من ذلك ان الفيس بوك اصبح اداة من أدوات التجسس على الأفراد الذين بلغوا ما يقرب من الأربعمائة مليون مستخدم حول العالم، بمعنى ان بيانات هؤلاء الاشخاص أصبحت تحت تصرف الشركة ويحق لها ان تفعل بها ما تشاء، وقد يكون اجراء تحليل للبيانات او تصنيف الأفراد حسب نشاطاتهم الى فئات ومعرفة توجهاتهم السياسية والدينية .. الخ.

كما تُمكن هذه المعلومات الفيس بوك من معرفة الآراء وردود الأفعال حول قضية محلية او دولية، وبالفعل هذا ما حدث عندما تم الكشف عن فضيحة تسرب بيانات ملايين من مستخدمي فيس بوك إلى شركة (كامبريدج أناليتيكا)، التي ساعدت الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي دونالد ترمب.

لم يتمكن موقع التواصل الاجتماعي البقاء واقفا على المرتفع وعدم الانخراط في الصراعات السياسية، وهذا ليس مجرد تصور، بل هنالك حقائق تدعم ذلك القول، فآخر هذه الحقائق ما حصل إبان احتفال العالم بالذكرى الـ 75 على انتصار الاتحاد السوفيتي والحلفاء على ألمانيا النازية، اذ رافق مراسم الاحتفال بعض المآخذ.

في هذه المناسبة أصدر البيت الأبيض الأمريكي بيانا قلل فيه او تجاهل دور الاتحاد السوفيتي في النصر على النازية، ونسب ذلك الانتصار الى الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، لكن الحقائق تقول غير ذلك ومن المعروف جيدا، أن الاتحاد السوفيتي هو من لعب الدور الرئيس في هزيمة هتلر، بينما لحقت امريكا بمعسكر الحرب الى جانب الدول الأوربية في الأيام الاخيرة بعد ان تأكدت ان النصر سيحالفها وستهزم ألمانيا قريبا.

في ذات المضمون وقعت حادثة اخرى استطاعت ان تصل بأصدائها الى مختلف المدن الروسية، وتتلخص الواقعة بقيام موقع الفيس بوك حظر بعض حسابات المستخدمين، لنشرهم صورا تاريخية مع علم الاتحاد السوفيتي، وقد وضعه الجنود السوفييت فوق مبنى "الرايستاغ" الألماني النازي بعد انتصارهم في معركة برلين الأخيرة عام 1945.

بعد هذا التصرف الذي قام به الفيس بوك عمد الى نشر رسالة مفادها أن حذف هذه الصورة كان عن طريق الخطأ، وهنا من الواجب ان نضع عدد من الأسئلة، اولها هو لماذا يتم بين الحين والآخر حذف حسابات وإيقاف اخرى عن العمل بمجرد نشرها موضوعات لا تخدم المعسكر الأمريكي او الحلفاء؟، ولماذا ايضا يفرض الفيس بوك نوع معين من المحتوى لا سيما السياسي؟، فنراه هو من يحدد المسموح به من عدمه، وهذا بالتأكيد يجعلنا امام حقيقة هيمنة الولايات المتحدة على العالم عبر تحكمها وسيطرتها التكنولوجية.

نرى ان حكومة البيت الأبيض تستخدم جميع الأدوات التي تمكنها من التحكم في مقدرات الشعوب والأفراد، ومن هذه الأدوات فرضها الرقابة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما يعكس رغبتها في تحقيق الزعامة التكنولوجية، ونشر أيديولوجياتها.

يوما بعد آخر تضيق الدول التي تمتلك الريادة في مجال معين او الخبرة في حقل متخصص على البلدان التي تفتقر لهذه المهارات، وهنا يتوجب على الدول الاخيرة الشروع بخطة جديدة ومنهجية واضحة لفك هذه القيود وتنفس الصعداء، والخروج من يافطة الدول العظمى، كون هذه الدول تجعل من هذه الهيمنة والتمكن ضمن أساليب الحرب الباردة.

خلاصة القول ان ما تعتبره بعض الشعوب مجالا للهروب من ضغوطات الحياة والتسلية، أصبح يشكل اداة لتدعيم السياسة الأمريكية لا يمكن الاستغناء عنها، فهي بذاك وفرت على نفسها المزيد من الوقت وتمكنت من ايجاد وسيلة تساعدها في بسط نفوذها السياسي دون الحاجة الى الحروب التقليدية، التي كلفتها ملايين الدولارات وزهقت كم لا يستهان به من الأرواح.

اضف تعليق