q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

المنهج الأخلاقي للبعثة النبوية

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

إننا يجب أن نتعلم من السيرة النبوية العظيمة، أن الأخلاق شرط لا يمكن تحقيق الرفعة والتقدم من دونه، سواء بالنسبة للفرد أو المجتمع، فبالأخلاق تُبنى الأمم، وبها تتقدم وتتطور وتضاهي الأمم الأخرى المتقدمة، وهذا هو الدرس العظيم الذي يجب أن نستلهمه من السيرة النبوية المعمَّدة بالأخلاق الرفيعة...

(رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذَّب النفوس ونوَّر العقول) الإمام الشيرازي

يوم بعد آخر تكتشف البشرية دور الأخلاق في تهذيب الحياة، وتخليصها من الشوائب الفكرية والسلوكية التي تحرف مساراتها بعيدا عن الصواب، فالأخلاق هي منظومة قيم يعتبرها الناس بشكل عام جالبة للخير وطاردةً للشر، وهي ما يتميز به الإنسان عن غيره.

وقد قيل عنها إنها شكل من أشكال الوعي الإنساني كما تعتبر مجموعة من القيم والمبادئ تحرك الأشخاص والشعوب كالعدل والحرية والمساواة، بحيث ترتقي إلى درجة أن تصبح مرجعية ثقافية لتلك الشعوب لتكون سنداً قانونياً تستقي منه الدول الأنظمة والقوانين.

والأخلاق بحسب أهل الشأن هي السجايا والطباع والأحوال الباطنة التي تُدرك بالبصيرة والغريزة، وبالعكس يمكن اعتبار الخلق الحسن من أعمال القلوب وصفاته. فأعمال القلوب تختص بعمل القلب بينما الخُلُق يكون قلبياً ويكون ظاهرا أيضا.

وحين بدأت الخطوة الأولى للرسالة النبوية المحمدية، رُفِعت الأخلاق شعارا، وباتت هدفا رساليا اعتمده الرسول (صلى الله عليه وآله) في إيقاظ السجايا الإنسانية الجيدة بنفوس وعقول الناس، فقد كانت التقاليد والعادات البالية المهيمنة على المجتمع تعمي بصائرهم وتدفع بهم نحو الخشونة والقسوة والتطرف، فكانت الأخلاق هي البديل عن التطرف.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (المعصوم الأول النبي الأعظم):

(كانت حالة الناس قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وآله) على شر حالة، فأنقذهم الله تعالى برسوله الذي أخرجهم من ظلمات الجاهلية إلى نور الهداية، وإلى ذلك يشير أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلاً: فالأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة، في بلاء أزل، وإطباق جهل! من بنات موءودة، وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة، فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولاً).

لقد كان مجتمع الجزيرة قبل البعثة النبوية غاطسا في الظلام من أخمص قدميه حتى قمة رأسه، بل البشرية كلها كانت تعاني من أغلال الانحراف المختلفة، وكان الجميع بحاجة إلى من يخلّصهم من واقعهم المأساوي المزري، فالناس جميعا محاطين بالظلم والظلام والقسوة والخشونة وتدمير معايير العدالة والتجاوز على الحقوق.

فجاء بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله) لتحل الأخلاق والقيم الصالحة بديلا عن العادات السقيمة منها على سبيل المثال (وأد البنات)، والصراعات والنزاعات وتفضيل الذات، فكانت الحياة لا تُطاق، وكان الجميع ينتظرون البعثة التي تقلب واقعهم من الشر إلى الخير، وتجعلهم أكثر قربا من التعامل الإنساني القائم على الاحترامن والعدالة والمساواة والرحمة.

يقول الإمام الشيرازي:

(إنّ الناس في شبه الجزيرة ـ بل في كل العالم ـ كانوا بأمس الحاجة إلى من يخلّصهم ممّا هم فيه من الظلمات، فمنّ الله عليهم بمن ينقذهم من ذلك الوضع وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي هذّب النفوس ونوّر العقول وحوّل أوضاعهم من شرّ حال إلى خير أمة أخرجت للناس، ثم انتشر الإسلام ليشمل سائر الأمم والملل).

إيجابيات التغيير الأخلاقي

إن التعامل الأخلاقي يمكن أن يجد صداه بسهولة عند الإنسان العادي، لكن الإنسان المتعصب والمتطرف من الصعوبة أن تؤثر فيه حتى السلوكيات الأخلاقية الحميدة، فمن يكون متصرفا في أفكاره وحادا ومتزمتّا في آرائه، فإنه ينظر إلى نفسه على أنه في صواب دائم، وأن الخطأ لا يدنو من تفكيره ومواقفه، فيبقى على تطرفه وتزمته.

هكذا كان أهل الجاهلية قبل الرسالة النبوية، إنهم أناس متزمتون، متطرفون، تحكمهم تقاليد ما أنزل بها الله من سلطان، فإذا كان من السهل التأثير بالناس العاديين من خلال الأخلاق الحميدة والسلوك الرحيم، فإنه من المحال أو من الصعب إحداث التغيير الأخلاقي في المتطرف والمتعصب، ومع ذلك تمكن الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يؤثر في هؤلاء المتزمتين ويُدخِل المبادئ الإسلامية في قلوبهم، ويحرك النوازع الإنسانية في نفوسهم.

يقول الإمام الشيرازي:

(ربما يكون من السهل أن يجذب الإنسان الناس العاديين بأخلاقه الحميدة، ولكن من الصعب جداً أن يؤثر على ذوي الأخلاق الفضّة ويحوّل سجاياهم وطبائعهم التي تربوا عليها وتوارثوها من أجيالهم الماضية).

لم تكن قضية نشر الأخلاق الحميدة بين المتطرفين القساة بالأمر الهيّن، فالإنسان الذي يدفن ابنته الوليد ويئدها بنفسه ويدفنها وهي على قيد الحياة، لابد أنه فقد إنسانيته بشكل تام حتى بلغ إلى هذه الدرجة من القسوة، وهذا الفعل الشنيع يثبت بما لا يقبل الشك مطلقا، بأن من يقوم به تخلى عن الأخلاق وترك المشاعر الإنسانية جانبية، وتخلى عن الرحمة تماما.

الإمام الشيرازي يقول: (من المعروف أن المجتمع الجاهلي في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) كانت تطغى عليه حالة من القسوة والفضاضة والخشونة والوحشية، حتى مع أقرب الناس إليهم وهم بناتهم حيث كانوا يدفنونهن أحياءً).

مع كل هذه التقاليد القاسية، والسلوكيات الخالية من الرأفة والرحمة، استطاع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يشذب النفوس، وأن يبعث نور الهداية في القلوب، وشيئا فشيئا بدأت الأمة بالتغيير، وانتعشت النزعة الإنسان، وتصاعدت منظومة الأخلاق، وبدأت منظومة التقاليد البالية بالاندحار والتراجع يوما بعد آخر.

فتصاعد البناء القويم للأمة، وانتعشت الأخلاق، وانتشرت سجايا الإنسان الصالحة، وبدأ الناس ينبذون العلاقات القديمة المتزمتة، وتراجعت نسب التطرف، وصارت قيم الرحمة والتعاون والتناصر لحفظ الحقوق، سلوكيات حياتية معتادة دأب عليها الناس، فانتفت قوانين الغاب التي كانت سائدة في العلاقات القائمة بين الناس، وحلّت محلها منظومة من القيم الصالحة التي متّنت البنية الاجتماعية وزادت من التماسك المجتمعي.

إنما بُعِثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق

وهذا ما أكده الإمام الشيرازي في قوله: (وسط مجتمع كهذا تحكمه القسوة والخشونة صدع النبي (صلى الله عليه وآله) بدعوته الغراء رافعاً شعاره: (إنما بعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق)، فاستطاع (صلى الله عليه وآله) بأخلاقه الحميدة التي عبّر عنها الباري تعالى: (وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ)، أن يحوّل المجتمع من مجتمع تحكمه أحكام الغاب إلى خير أمة أخرجت للناس).

لقد اعتمد الرسول في تغيير الناس منظومة أخلاقية تختلف عمّا كان سائدا بينهم، وحلّ محلها قيم الخير بمختلف أنواعها، وكان من بينها التواضع والكرم والاحترام والتعاون والقيم الصالحة الأخرى، وقد قدم الرسول (صلى الله عليه وآله) درسا للقادة والرؤساء في التواضع، وهذه القيمة الكبيرة خفَّفت من غلواء التمجيد الذاتي لديهم، وقللت من غرور الإنسان لاسيما القادة، ولجمت طموحهم الزائف بالتفرّد والاستبداد.

الأخلاق والتواضع والكرم والقيم الصالحة الأخرة، هي ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله) للمجتمع، فغرسها كمنظومة في البنية الاجتماعية، وجعلها تنمو وتتصاعد لتأخذ محل تلك القيم الوضيعة البائسة التي دمّرت حياة الفرد والأمة على حد سواء.

يقول الإمام الشيرازي:

(لقد بلغ من تواضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّ القادم إذا قصده لا يميزه من بين المسلمين إلاّ أن يسأل عنه، يقول الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أن يجعل مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكاناً من طين، وكان يجلس عليه، ونجلس بجانبيه).

إننا يجب أن نتعلم من السيرة النبوية العظيمة، أن الأخلاق شرط لا يمكن تحقيق الرفعة والتقدم من دونه، سواء بالنسبة للفرد أو المجتمع، فبالأخلاق تُبنى الأمم، وبها تتقدم وتتطور وتضاهي الأمم الأخرى المتقدمة، وهذا هو الدرس العظيم الذي يجب أن نستلهمه من السيرة النبوية المعمَّدة بالأخلاق الرفيعة، وبالقيم الصالحة التي ترتفع من شأن الجميع بلا استثناء.

اضف تعليق