q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

كيف نجعل من الاختلاف قوّة؟

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

لا يصح تحويل اختلاف الرأي، إلى سبب لتأجيج النزاعات ونشر الفتن، بل ينبغي توظيفها بصورة صحيحة، لتنمية منهج التعددية، ونشر روح الحوار، والإيمان بقواعده التي ترسخ وتقوى عبر حماية حق الرأي، والتعامل معه وفق سياسة بعيدة عن القمع والعدوان، والإيمان بأن تعدد الآراء يوفر أرضية خصبة...

(اجتهدوا لتحرّي الحقيقة من بين الآراء المختلفة والمتناقضة) الإمام الشيرازي

اختلاف الرأي لا يُفسدُ للودِّ قضية، مقولة شهيرة غالبا من يرددّها الناس في مجالسهم، وحواراتهم، وغالبا ما تلهج بها ألسنة المفكرين والعلماء والساسة والخطباء، بل حتى في الحوارات والنقاشات اليومية العادية بين الناس، يردّد بعضهم المقولة المذكورة في أعلاه، دلالةً على أن الرأي مسموح به حتى وإن اختلف مع الرأي الآخر، فالناس ليسوا متشابهين مع بعضهم في الأفكار.

هذا الاختلاف بين الناس موجود حتى في البيت الواحد، بمعنى أن الحاضنة الأسرية الصغيرة، وهي أو وأصغر مؤسسة اجتماعية تربوية، يمكن أن تتعد الآراء بين أفرادها، فالأخ ربما لا يتشابه مع أخيه في رأيه، أو قد يختلف في رأيه مع أفراد الأسرة، وهذا أمر طبيعي لأنه يندر أن نجد إنسانين يتشابهان كلَّ التشابه في نظرتيهما إلى الحياة، لذلك من المرجّح أن تكون الآراء مختلفة.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (لكي لا تتنازعوا):

(مثلما لا تستطيع أن تجد إنسانين متشابهين في كل التفاصيل، كذلك لا تجد إنسانين متشابهين في الآراء ووجهات النظر، وقلَّما تجد إنسانين على رأي واحدٍ).

ولكن هذا الاختلاف في الرأي، ينبغي أن لا يكون مرتكزا أو سببا في خلافات أو عداوات، ومن الأهمية بمكان أن يسعى الجميع إلى تحويل الاختلاف في الرأي والرؤية إلى مصدر قوة للجميع، وأسلوبا للتقارب، والتعاون، وحلول الأزمات، ولا يصحّ جعل الخلاف مبرّرا لصنع الأزمات، وزرع بذور الفتن بين الناس، على العكس من ذلك تماما، اختلاف الرأي فيه نوع من تعدد وجهات النظر، يثري الحلول ويجعلها متاحة ومناسبة للجميع.

ولهذا من غير المقبول أن يقود اختلاف الرأي إلى الخصام أو النزاع، لسبب واضح ومعروف، فالآراء المتعددة مصدر إثراء وتنوع، وليس سببا لحدوث النزاعات، ولا ينبغي السماح بذلك، كما أن الإكراه على قبول الرأي المختلف، ليس صحيحا ولا مجديا، فأنا متمسك برأيي المختلِف عن رأيك، وهذا حقل مُصان لي، ولا يحق لك إجباري على انتهاج رأيك، لكنني في نفس الوقت أحترم رأيك المختلف.

لا لإلغاء الرأي الآخر

كل ما جاء في أعلاه ينطبق على جميع الآراء المتباينة وأصحابها، فليس هناك رأي يلغي الآراء الأخرى، وليس مقبول أن يكون الرأي هو الأوحد من بين الجميع، وإذا تحققت هذه القواعد، وتم العمل بها، فإننا سوف نحصل على آراء غنية باختلافها وليس بتشابهها، إذن أي الإنسان ليس مطلوبا منه ترك رأيهِ واعتماد الرأي المناقض له، بل جميع الآراء محترمة رغم اختلافها.

يقول الإمام الشيرازي: (الاختلاف يجب أن لا يؤدّى إلى حدِّ الخصومة والنـزاع، فليس المقصود بتعدد الآراء تعدد النـزاعات. وليس المقصود أيضاً دعوة أصحاب الآراء المختلفة أن يتركوا آراءهم ويأخذوا بآراء الغير بصورة مطلقة).

ما هو الفرق بين رأيٍ وآخر؟، لابد أن توجد فوارق بين الآراء، فما هو المطلوب منا، وكيف نتعامل مع الآراء المختلفة؟، بالطبع ليس كل الآراء صحيحة، ولكن حتما هنالك آراء مفيدة غنية وجيدة، وتستند إلى معايير سليمة، تتطابق مع القيم الاجتماعية التي تزيد من لُحمة المجتمع، هذا النوع من الآراء هو الذي يستحق العناء في بحثنا وسعينا عن الحقائق.

الآراء تمتلك سمة التمايز، وعلينا أن نمتلك قدرة التحري عن جودتها، ومدى الأفكار السليمة التي يحملها هذا الرأي أو ذاك، وإمكانية تطابقها مع ثقافتنا وقيمنا وواقعنا، لذلك تقع علينا مهمة التفريق بين ما يصلح من آراء وبين النقيض، ولكن في كل الأحوال ليس من حقك منع الرأي، لكن من حقك عدم الأخذ به أو الركون إليه، فأنت لست مجبرا على ذلك، ولكن يجب العمل الجاد لتفادي التناحر بسبب تعدد الآراء أو اختلافها، ويتم هذا من خلال المفاضلة بين الجيد والرديء منها.

كما يؤكد الإمام الشيرازي ذلك في قوله: (اجتهدوا لتحرّي الحقيقة من بين الآراء المختلفة والمتناقضة وإذا تمَّ التمسك برأي ما، بعد طول اجتهاد وعناء، فلا يعني اختلاف الرأي انتشار البغضاء والعداء. وإذا أظهرتم العداء ـ لا سمح الله ـ فيجب أن يكون لهذا العداء حدّ معقولٌ، فالشيء إذا جاوز حدَّه، انقلب إلى ضدِّه).

إطفاء ردود الأفعال العدوانية

ربما تُظهر جماعة ما عدوانها ضد أخرى بسبب اختلاف الرأي، هذا أمر متوقَّع فما المطلوب، وكيف نواجه أزمات من هذا النوع، في هذه الحالة ليس صحيحا اللجوء إلى التعامل بنفس الأسلوب العدائي، تحت ضغط رد الفعل، وإنما يجب مواجهة السلوك العدواني بعدم الردّ عليه وامتصاصه، من خلال الاستناد إلى قاعدة (الدفع بالتي هي أحسن)، وهكذا يمكن احتواء الموقف وتحوّل العدوّ إلى صديق.

(إذا أظهر أحد الطرفين العداء فلا موجب للطرف الآخر أن يردّ على العدوان؛ لأنّه الأفضل في قانون الإسلام: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(، هذا ما يراه الإمام الشيرازي لإطفاء حرائق النزاعات.

وهناك نتائج إيجابية كبيرة تأتي من اعتماد أسلوب عدم الحدّية، والابتعاد عن المواجهة العدوانية، هذا الأسلوب الإيجابي يقلل المشكلات إلى حدودها الدنيا، ويمتص ردود الأفعال المتبادَلة، وهو ما ينبغي أن يتخّذه الجميع حين تختلف آراؤهم وتتناقض مواقفهم، فـ (الموقف الإيجابي سيقلل من المشكلات الناجمة عن الصراعات الاجتماعية، وسيقلل من نتائج المواجهة بين الأطراف المتناقضة) كما يقول الإمام الشيرازي.

أما الإصرار على المواجهة، واعتماد الأسلوب العدائي، أو الإكراه في فرض الرأي، فهو أسلوب لا يجدي نفعا، حتى لمن يظن بأن أسلوب القوة والعدوان، سوف يرجّح كفته على المختلفين بالرأي معه، على العكس من ذلك تماما، فمن يصرّ على تخطئة الآخرين، وترجيح رأيه وتنزيهه من الخطأ، واعتماد القوة في فرض الرأي، سوف يتعرض إلى هزائم متلاحقة، تعود على شخصهِ بالدرجة الأولى.

مثل هذا الموقف الفردي المتعصّب، يعود على الشخص بخسائر كبرى، حتى الجهة التي ينتمي لها تكون أقل ضررا منه، وسوف يتحطم الفرد ويتعرض للخسارة أكثر حتى من المجموعة التي ينتمي إليها، ويندفع بسببها لإبداء العدوان على غيره، والطامة الكبرى حين يحدث هذا النزاع بين أطرف متقاربة، كأن تنتمي إلى مجتمع واحد، أو طبقة سياسية واحدة فكرية واحدة.

إذ يقول الإمام الشيرازي:

(ليعلم الذي يُظهر العداء ويغالي فيه بالاتهام والكيد أنّه أولاً: سيؤدي بعمله هذا إلى تحطيم نفسه، وبعد أن يتحطّم هو، تتحطّم المجموعة التي ينتمي إليها، ويكون تحطيمه لنفسه أكثر من تحطيمه لمجموعته).

هذا النوع من النزاعات (الداخلية) أي داخل مجتمع واحد، أو مجموعة واحدة، يخلل بناءَها، ويجعلها عرضة للضعف، فضلا عن الضعف الذي يتعرض له الطرف النقيض الذي يُحسب على الجماعة نفسها، أما الفوائد من هذا النزاع، فسوف تعود إلى جهة ثالثة تضخ الفتن وتغذي الأزمات والنزاعات كما فعل المستعمِرون في الحقبة الاستعمارية، وبهذا يضعف الرفقاء ويقوى عدوّهم.

يقول الإمام الشيرازي: (هناك جهة أخرى يستفيد من صراعات الطرفين، وهذه الجهة هي الغالبة والرابحة؛ لأنّ قواها تبقى مكتملة بعد أن تهشَّمت قوة الطرفين).

إذاً بالنتيجة، لا يصح تحويل اختلاف الرأي، إلى سبب لتأجيج النزاعات ونشر الفتن، بل ينبغي توظيفها بصورة صحيحة، لتنمية منهج التعددية، ونشر روح الحوار، والإيمان بقواعده التي ترسخ وتقوى عبر حماية حق الرأي، والتعامل معه وفق سياسة بعيدة عن القمع والعدوان، والإيمان بأن تعدد الآراء يوفر أرضية خصبة لنمو الأفكار وإنعاش قيم التعاون والتكافل واللين.

اضف تعليق