q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

الكليم وفرعون

(2)

فلمّا قضى موسى الأجل وتمّت خدمة عشر سنين، قال لشعيب: لا بدّ لي أن ارجع إلى وطني وأمّي وأهل بيتي، وطلب من شعيب مؤونة.. فأجازه شعيب بالرجوع، وزوّده بعددٍ من الأغنام، كي يعيش هو وزوجته بصوفها ولبنها ولحمها ونتاجها. ثم سلّم إليه عصىً كانت لإبراهيم الخليل...

فرّ موسى (عليه السلام)، من الطاغية فرعون من مصر، وجاء إلى مدين، ونزل ضيفاً عند النبي شعيب (عليه السلام).

فقالت إحدى بنتي شعيب: (يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القوي الأمين).

قال شعيب: يا بنيّة، من أين عرفت قوّته وأمانته؟

قالت: أمّا قوّته، فقد عرفته يسقي الدلو وحده، وقد كان الدلو لا يتمكن من استقائها إلا عشرة أشخاص.. وأمّا أمانته فقد عرفتها من قوله لي: تأخّري عنّي ودلّيني على الطريق، وأنتِ من خلفي.. حيث لم يرض أن يمشي وقدّامه امرأة.

قال شعيب لموسى: (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك) يعني: إن صداق بنتي أن تعمل لي ثماني سنوات، أو عشر سنوات، لكنّ إضافة سنتين على ثماني سنوات تفضل منك (وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين).

قال موسى في جواب شعيب: (ذلك بيني وبينك أيّما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ) سواء خدمتك ثماني سنوات، أم عشر سنوات. فلا لوم بعد ذلك علي. ثم قال موسى: (والله على ما نقول وكيل).

وقبل شعيب الكلام، وزوّج موسى بإحدى ابنتيه، وهي التي ذهبت إلى موسى لتدعوه إلى دار أبيها، وقالت لأبيها: (يا أبت استأجره).

أما موسى فقد قرّت عيناه بالزواج من بنت شعيب.. وخدم شعيباً عشر سنوات تبرّعاً وفضلاً.

* * *

(فلمّا قضى موسى الأجل) وتمّت خدمة عشر سنين، قال لشعيب: لا بدّ لي أن ارجع إلى وطني وأمّي وأهل بيتي، وطلب من شعيب مؤونة.. فأجازه شعيب بالرجوع، وزوّده بعددٍ من الأغنام، كي يعيش هو وزوجته بصوفها ولبنها ولحمها ونتاجها. ثم سلّم إليه عصىً كانت لإبراهيم الخليل (عليه السلام).

فتوادعا وخرج موسى بأهله من دار شعيب يسوق غنمه أمامه، ميَمّماً شطر مصر وطنه ووطن بني إسرائيل قرابته. وكانا يسيران بأغنامهما ليلاً ونهاراً.. حتّى إذا أظلم ليلٌ من الليالي، وصارا في مفازةٍ وسيعة أصابهم بردٌ شديدٌ وريحٌ وظلمةٌ، وأخطأ الطريق، فلم يعرف الجادة.

فإذا به يرى ناراً من بعيد (آنس من جانب الطور ناراً قال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر) عن الطريق، فلعلّ عند النار أناس استرشدهم الطريق (أو جذوةٌ من النار لعلّكم تصطلون).

فأقبل نحو النار.. فإذا به يرى شجرةً تلتهب ناراً.. فلما ذهب إليها ليقتبس من النار أهوت النار نحوه، ففزع منها وعدا متقهقراً. ورجعت النار إلى الشجرة! فرجع إليها مرّة ثانية.. فأهوت نحوه! فعدا متقهقرا، وتركها. فالتفت، فرآها قد رجعت إلى الشجرة.. فرجع إليها ثالثةً، فأهوتْ إليه، ففرّ فزعاً ولم يرجع.

وهنا (نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين).

* * *

تحيّر موسى في الأمر، ما هذه الشجرة؟ وما هذه النار؟ وما معنى هذا النداء؟! لكنّه جمع قواه، قائلاً: ما الدليل على ذلك، أي على أن الصوت من قبل الله تعالى وأنّه هو الذي خلق الصوت في الشجرة، وكلّم موسى؟!

لكنّ صوتاً ثانياً من الشجرة شقّ الفضاء ووصل إلى مسامع موسى: ما في يمينك يا موسى؟

أجاب موسى قائلاً: (هي عصاي أتوكأ عليها وأهشّ بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى).

(قال ألقِها يا موسى)! وكان ذلك ليرى موسى الدليل على أن المتكلّم هو الله تعالى.

فألقى موسى عصاه، وإذا به يراها انقلبت حيّة عظيمةً تتحرّك!! (فلما رآها تهتزّ كأنّها جان ولّى مدبراً) من الخوف والدهشة، (ولم يعقب) لم يرجع ليأخذ الحيّة! وازدادت حيرته ووجب قلبه: أترى ما هذه الحيّة؟!

وهناك نودي من جانب الشجرة: (يا موسى أقبل ولا تخف إنّك من الآمنين) فرجع نحو الحيّة، وإذا به يراها كأنها جذعٌ، يخرج من فمها لهيب النار، ولها صريرٌ! وكان موسى يرتعد من الخوف، وركبتاه تصطكان، قال موسى: إلهي هذا الكلام الذي اسمع كلامك؟ قال: نعم.. فلا تخف.

وهنا اطمأنّ قلب موسى، ووضع رجله على ذنب الحيّة، ثم تناول لحييها، وإذا به يرى يده في شعبة العصا، قد عادت كما كانت.

* * *

ومرّة أخرى، نودي من الشجرة: (اسلك يدك في جيبك) أي أدخلها في جيبك (تخرج بيضاء من غير سوء) أي إذا أخرجتها، رأيتها كالشمس الطالعة تنير، من دون أن يكون ذلك أثراً للبرص ونحوه. فأدخل موسى يده في جيبه، ولما أخرجها أضاءت له الدنيا.

فناداه الله تعالى: (فذانك) العصا واليد (برهانان) دليلان على نبوّتك (من ربك) فـ(اذهب إلى فرعون وملائه) وادعُهم إلى الله تعالى (إنّهم كانوا قوماً فاسقين). وهكذا أعطى الله تعالى لموسى دليلين عظيمين على كونه مرسلاً من قبل الله تعالى:

أحدهما: إنّه كان كلما ألقى عصاه انقلبت حيّة عظيمة، فإذا أخذها رجعت إلى حالتها الأولى، وصارت عصىً كما كانت.

والثاني: إنه كلّما أدخل يده في جيبه، وأخرجها، ظهرت مشرقةً كالشّمس الضاحية، تنير الفضاء، فإذا أدخلها في جيبه ثانية وأخرجها عادت كما كانت.

لكن موسى (عليه السلام)، خاف من الذهاب إلى فرعون لأنّه قتل من قوم فرعون رجلاً، فمن الممكن أن يقتله فرعون، كما كان قد عزم على ذلك قبل أن يفرّ موسى من مصر بالإضافة إلى أنّ موسى لم يكن منطقياً، فلعلّ فرعون يسخر من كلامه.

أما المعجزتان، فقد كانتا دليل النبوّة، وكبرياء فرعون تمنع عن الإذعان، فكيف يذهب موسى إليه والحال هذه؟ ولذا توجّه إلى الله متضرّعاً: (قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون) قصاصاً عن قتلي لأحدهم! (وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً) أي معيناً على تبليغ الرسالة (يصدقني إني أخاف أن يكذبون).

وأجاب الله دعاء موسى (قال سنشدّ عضدك بأخيك) وهذا استجابةً لدعائه الأول.

* * *

جاء موسى وأخذ معه أخاه هارون ليذهبا إلى فرعون، ويدعواه إلى التوحيد، وأوصاهما الله تعالى بأن يقولا لفرعون قولاً ليناً، لعلّه يتذكّر أو يخشى.

ولما أتى موسى باب قصر فرعون، استأذن الحاجب للدخول؟ فلم يأذن له، وكان ذلك بإيعاز من فرعون.. وبعد مدّة طويلةٍ، وحجبٍ مديد، ضرب موسى باب القصر بعصاه.. ففتحت الأبواب بإذن الله تعالى، ولما مثلا أمام فرعون.

قال لهما فرعون: من أنتما؟

قالا: (إنا رسول رب العالمين فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم).

قال فرعون: وما الدليل على أنكما رسولان؟

قالا: (قد جئناك بآية) علامة تدل على صدق دعوانا وهذه العلامة (من ربّك والسلام على من اتبع الهدى). ثم نصحاه قائلين: (إنّا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذّب وتولّى).

قال فرعون: (ألم نُربّك فينا وليداً)؟ فقد كنت أنت في حجري وفي بيتي، فكيف صرت نبيّاً تدعوني إلى اتّباعك؟ ثم كنت قد (لبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت) قتلت أحد أصحابي، قبل مدّة.. ثم تدّعي النبوّة؟!

قال موسى: نعم أنا الذي قتلت.. ثم (فررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربّي حكماً وجعلني من المرسلين). وأمّا أنّك تقول: أنا ربيت في بيتك فهل تلك نعمةً تمنّها علي؟ إني إنما ربيت في بيتك لظلمك واضطهادك لبني إسرائيل.. فإنّك إن لم تكن تقتل أولاد بني إسرائيل وتستعبدهم، لم تكن أمي تقذفني في البحر، حتى يلقيني اليمّ إليك لتربيني (وتلك نعمةٌ تمنّها علي أن عبدت بني إسرائيل؟)

* * *

وهنا انقطع فرعون عن الكلام، لأنّه لم يحر جواباً.

أشار فرعون إلى بعض خدمه أن يقتل موسى فقام إليه بعضهم ليقتله، لكن الله تعالى حال دون ذلك، فلم يتمكّن السّياف أن يضرب عنقه. ولما عجز فرعون عن قتله، أخذ يحاجه في الله تعالى.

(قال فمن ربّكما يا موسى)؟

(قال ربّنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) أي خلق كل شيء على صورته الخاصة ثم هداه بما أودع فيه من الغرائز إلى حوائجه.

قال فرعون ـ وهو يريد أن يغلب موسى في الكلام، حتى يــظهر نفسه في مظهر العالم الفاهم ويظهر موسى في مظهر الجاهل: (فما بال القرون الأولى)؟ فإنك إن صدقت أنك نبي فما حال الناس السابقين الذين ماتوا ولم يؤمنوا بك؟ فهل أنهم معذّبون كما تزعم؟

لكنّ هذا السؤال، لما لم يكن مربوطاً بالمقام، وكان فرعون يريد بذلك تطويل الطريق في المحاجّة، كما هي عادة المعاندين، حيث يفرون من الكلام الذي هو موضع المقصد، إلى كلامٍ تافه لا قيمة له.

لم يُجِب موسى عن كلامه تفصيلاً، وإنما أجاب إجمالاً، بقوله: (عِلمها عند ربي) إن علم تلك القرون، وأحوال الأمم السابقة من الصلاح والفساد لا يرتبط بنا، بل إنه موجود عند الله تعالى وهو المجازي لهم.

وقد أرى موسى (عليه السلام) عصاه لفرعون لعلّه يؤمن، لكن فرعون تمادى في طغيانه، وأظهر عدم الإيمان.. إنه علم صدق موسى، لكنّه خاف أن يذهب سلطانه وعزّه إن آمن، ولذا أظهر الإنكار. (فتنازعوا أمرهم بينهم) جعل من في بلاط فرعون، يتباحثون حول موسى وعصاه، وما ظهر من أمره، هل صادقٌ أم كاذب؟ وما كيفية الخلاص منه؟ (وأسرّوا النجوى) فأخذ يناجي بعضهم بعضاً بكلام سر.

وأخيراً.. قرّر فرعون وأصحابه أن موسى ساحرٌ وليس بنبي، وأن هذه العصا التي تنقلب حيّةً إنما هي سحرٌ وليست بدليل نبوّة.

قال فرعون: إن عملك يا موسى سحرٌ ونحن لسنا من الساحرين حتّى نتمكّن من كسر شوكتك والإتيان بسحر مثل سحرك، وإنما نجعل بيننا وبينك موعداً لندعو السحرة، حتى يأتوك، ويأتوا بمثل سحرك: وحين ذاك يتبين انّك ساحرٌ ولست بنبي، كما تزعم.

هكذا قال فرعون، ليبقى على شوكة نفسه ويظهر للناس أنّه منصفٌ فيما قال. وقبل موسى ذلك.. وجعلوا بينهم موعداً في يومٍ معين.

فأرسل فرعون إلى أطراف مملكته يجمع السحرة، وقد كانت بلاد مصر في تلك الأزمنة مليئةً بالساحرين. فاجتمع جمع كبير من السحرة، حتى أن بعض الروايات تقول أن عدد السحرة كان ثمانين ألفاً.

وقالت السحرة لفرعون: (أئنّ لنا لأجراً إن كنّا نحن الغالبين)؟ يجب أن تجزل لنا في العطاء إن غلبنا على موسى.. قال فرعون: نعم لكم الأجر الجزيل (وإنكم لمن المقربين) أقربكم إلى بلاطي، وأقضي حوائجكم.

ولم تكن هناك حاجة إلى هذا العدد الكبير من السحرة، وإنما أراد فرعون إظهار قوّة نفسه، بالإضافة إلى أن الجبّارين ـ دائماً ـ يخافون من سيطرة الخصم، فيجمعون حول أنفسهم ما يضمن لهم النجاح ـ بزعمهم ـ حتى إذا لم ينفع بعضهم نفع البعض الآخر، إبقاءً على رئاستهم وشوكتهم.

* * *

جاء اليوم المعيّن.. وطلعت الشمس، فاصطف الجماعتان فوقف موسى وهارون، وبنو إسرائيل الذين كانوا اتباع موسى (عليه السلام)، في جانب.. ووقف فرعون ووزراؤه وقوّاده والسحرة وجماهير المصريين، في جانب آخر وارتفعت الشمس، حتى صار وقت الضحى.

وقد جاء السحرة بأقسام من (الحبال) و(العصي) جعلوا فيها الزئبق، ولونوها بألوان الحيات والأفاعي، فإذا ألقيت في الشمس تحركت بحرارة الشمس التي تشع على الزئبق، فيظن الناس أنها حيات حقيقية تتحرك بحركتها الطبيعية.

وقالوا لموسى: (إمّا أن تلقي) عصاك (وإمّا أن نكون نحن الملقين) لعصيّنا وحبالنا.

قال لهم موسى: القوا انتم أوّلاً ـ وهكذا يكون الإنسان الواثق من نفسه، لا يأبه لما عند خصمٍ، لأنّه يعلم أن الغلبة له ـ (فألقوا حبالهم وعصيّهم وقالوا بعزّة فرعون إنّا لنحن الغالبون) فتحرّكت الحبال الكثيرة والعصي الكثيرة، حتى ملأت الصحراء حركةً واضطراباً، وخاف الناس، وأخذوا يفرّون، زاعمين أن ذلك كلّه حيّاتٌ وأفاعي. وخاف موسى (عليه السلام) أن يغترّ الناس بهذه الحبال ولا يميزوا بين (عصاه) الحقيقة وعصيّهم الخيالية.

لكن الله تعالى، أوحى إليه أن (لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك) أي اطرح عصاك على الأرض حتى تنقلب ثعباناً. وألقى موسى عصاه، فإذا بها تنقلب حيّة عظيمةً، أخذت تعدو في الصحراء، (فإذا هي تلقف ما يأفكون) أي تأكل حبال القوم وعصيّهم بكلّ استعجال.

ولما رأى السحرة ذلك، علموا أن الأمر ليس بسحر، ولو كان سحراً لم يتمكن أن يأكل تلك الحبال والعصيّ التي تربو على الآلاف.. ثم أخذ موسى عصاه، فرجعت كما كانت، من دون أن يزداد حجمها على حجمها السابق وإن كانت أكلت جميع تلك الحبال والعصي.

* * *

ولما علم السحرة صدق موسى، ألقوا بأنفسهم على الأرض يسجدون لله سبحانه، ويعترفون بألوهيّته ورسالة موسى، ويخلعون عن أنفسهم إيمانهم السابق، بألوهيّة (فرعون).

قالوا: (آمنا بربِّ العالمين ربّ موسى وهارون).

وهنا سقط في يد فرعون.. إنّ أنصاره الذين هيأهم لنصرته انقلبوا عليه، ونصروا خصمه (موسى) والناس بطبعهم في مثل هذا الموقف يؤيدون (موسى) فقد شاهدوا بأنفسهم المعجزة، واعترف بصدقها أهل الخبرة!

فماذا يصنع فرعون، أمام هذه الهزيمة المحقّقة؟ رأى فرعون أن أحسن الوسائل التهديد والتعذيب ـ الذي هو عمل الجبّارين المبطلين في مقابل الحق ـ (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم)؟ كيف تؤمنون بموسى قبل إذني؟ ألست أنا الملك؟ ثم أراد خداع الناس، بأن موسى والسحرة اتفقوا على هذا الأمر، فقال: (إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة).

ثم أخذ يهدّدهم، ويقول: (فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) اقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، أو بالعكس، لئلا يبقى توازن أجسامكم (ولأصلبنّكم في جذوع النخل) حتى تموتوا.

لكن السحرة الذين آمنوا، أجابوا فرعون ـ بكلّ هدوء واطمئنان ـ : (اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) أي تحكم علينا بالتعذيب والفناء من هذه الحياة، ونحن لا نخاف من ذلك، فإننا ننتقل إلى الآخرة والخير السرمديّ.

* * *

ما آمن فرعون، بما شاهد من قصة (عصا) موسى التي انقلبت حية. فأتى إليه موسى (عليه السلام) بثماني معاجز أُخر، كلّها تدل على صحّة نبوّته وصدق كلامه حتى اصبح لموسى تسع آيات كلّها خارقة دالّة على أنه مرسلٌ من قبل الله تعالى، فأدخل موسى يده في جيبه، ثم أخرجها، وهي تشرق كالشمس، ثم أدخلها في جيبه وأخرجها فرجعت إلى حالتها الأولى وهكذا كان موسى يفعل كلما أراد.

ثم إنّ (هامان) وزير فرعون، لما رأى هامان إيمان السحرة بموسى، قال لفرعون، إن الناس قد آمنوا بموسى، فانظر من دخل في دينه فاحبسه فحبس فرعون من آمن بموسى من بني إسرائيل خوفاً من توسع الإيمان.

فأرسل الله سبحانه على آل فرعون (الطوفان) بان غرقت ديار مصر بالماء الكثير حتى اضطرّ الأهالي إلى أن يذهبوا خارج المدينة في الصحاري المرتفعة ويعيشوا في الخيام والأكواخ. وقد علم فرعون أن هذا البلاء من أجل موسى (عليه السلام)، فقال فرعون لموسى ادع ربك يكفّ عنا الطوفان حتى أخلّي عن بني إسرائيل.

فدعا موسى ربّه، فكفّ الله سبحانه ببركة دعاء موسى الطوفان، لكنّ فرعون لم يفكّ بني إسرائيل خوفاً من أن يجتمعوا حول موسى فلا يتمكّن من مقاومتهم، وقد أشار عليه (هامان) وزيره، بعدم فكّهم.

فأرسل الله سبحانه عليهم بعد ذلك (الجراد) فأخذت الجراد تأكل كل شيء لهم، حتى إنّها تأكل لحاهم وشعور جسدهم، فجزع فرعون وآله من ذلك جزعاً شديداً.. فطلب فرعون أن يكفّ الله عنهم الجراد، ليفك بني إسرائيل، فدعا موسى ربّه، فكفّ عنهم الجراد لكنّ فرعون لم يفِ، خوفاً من التفاف بني إسرائيل حول موسى، وعدم سهولة مقاومتهم بعد ذلك.

* * *

فأرسل الله سبحانه على آل فرعون (القمل) فكثرت فيهم، حتى أن وجه الأرض امتلأت، ولقوا من الإرهاق والصعوبة ما لا يطاق.

وطلب فرعون من موسى (عليه السلام) أن يدعو الله ليكف عنهم القمل، فإذا فعل ذلك أطلق سراح بني إسرائيل. فدعا موسى وكفّ الله عنهم، لكنّ فرعون نكث بعهده ولم يطلق بني إسرائيل.

فأرسل الله سبحانه عليهم (الضفادع) فكانت تكون في طعامهم وشرابهم وقدورهم وأوانيهم، ولقوا من ذلك عنتاً وعذاباً.

فطلب فرعون من موسى أن يكفّ الله عنهم الضفادع، فإن فعل ذلك كفّ عن بني إسرائيل وأرسلهم إلى موسى. فدعا موسى، وارتفع عنهم (الضفدع) لكنّ فرعون لم يف بعهده بل ألقى بني إسرائيل في السجون.

ثم ابتلاهم الله سبحانه بـ(الدم) فقد تحوّل (ماء النيل) دماً، فكان الإسرائيلي إذا أراد شربه، تبدّل عنده ماءاً، فلم يهنأ قبطي بالماء، في شربه، ولا في سائر حوائجه.

فطلب فرعون من موسى (عليه السلام) أن يدعو الله، ليرجع الماء كما كان، ووعده إن فعل موسى ذلك، كفّ عن بني إسرائيل، وأطلق سراحهم ليكونوا مع موسى (عليه السلام). فدعا موسى، وارتفع (الدم) لكنّ فرعون العنيد لم يف بما وعد.

ثم ابتلاهم الله سبحانه بـ(الرجس) وهو (الثلج) فنزلت عليهم (الثلوج) وبرد الهواء برداً شديداً، ما لم يكونوا يعهدون، وطلب فرعون من موسى أن يرفع (الله) عنهم الرجس ليكف هو عن بني إسرائيل. فدعا موسى، ورفعه الله سبحانه.. لكن فرعون بقي على عناده ولم يطلق بني إسرائيل، حسب ما وعد.

وأخيراً.. ابتلاهم الله سبحانه بـ(الطاعون) فأخذ الطاعون يغزوهم، حتى مات من القبط جمعٌ كثير.

فطلب فرعون من موسى، أن يدعو الله لرفع الطاعون واعداً إياه أن يكف عن بني إسرائيل. فدعا موسى، ورفع الله عنهم الطاعون. وهنا.. اضطرّ فرعون للكفّ عن بني إسرائيل، فأطلق سراحهم من الحبس.

واجتمع بنو إسرائيل إلى موسى (عليه السلام) يسترشدونه في وجه الخلاص من فرعون الذي بقي عاتياً، لا يؤمن، ويضع المشاكل في طريقهم ويعرقل سير الدعوة.

وخاف (هامان) وزير فرعون، من التفاف بني إسرائيل حول موسى، وأنّب فرعون على تخليه عن بني إسرائيل، فقال له: قد نهيتك عن التخلّي عن بني إسرائيل، وها أنت ترى نتيجة عملك فقد التفوا حول موسى، ويخشى من عاقبة هذا التجمع؟

لكن الأمر كان قد انقضى أوانه، وكان لوم (هامان) في غير موقعه فلم يبق للقبط طاقة في مواجهة العذاب الذي كان ينزل بهم من جرّاء حبس بني إسرائيل، ودعاء موسى.

وأخيراً.. أمر الله تعالى موسى (عليه السلام) أن يخرج مع بني إسرائيل من أرض مصر، إلى مكان آخر يتمكنون فيه من تنظيم أمورهم، وعبادتهم لله سبحانه بلا مزاحم، وقرّر موسى الخروج، وأخبر بني إسرائيل بذلك. فتهيأ الجمع الغفير للفرار من (فرعون) والتخلص من سلطانه.

اضف تعليق