q
طالما تقف الشعوب حائرة أمام مشاهد فشل ثوراتها أو حراكها لتغيير واقعها الفاسد، رغم ما تقدمه من تضحيات، ومن جانب آخر، نرى وجود القيادة متمثلة في أحزاب او رموز دينية، هي الاخرى نراها تتقدم خطوات نحو الهدف المنشود، بأفكارها ومواقفها في مواجهة الانظمة الديكتاتورية، فأين يكمن الخلل؟

((فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ)) سورة هود، الآية:116.

طالما تقف الشعوب حائرة أمام مشاهد فشل ثوراتها أو حراكها لتغيير واقعها الفاسد، رغم ما تقدمه من تضحيات، ومن جانب آخر، نرى وجود القيادة متمثلة في أحزاب او رموز دينية، هي الاخرى نراها تتقدم خطوات نحو الهدف المنشود، بأفكارها ومواقفها، واحياناً تدفع ثمن ذلك غالياً في خضم الصدام مع الانظمة الديكتاتورية والقمعية التي تخشى أي نوع من التغيير والإصلاح، فأين يكمن الخلل؟

انه تساؤل قديم – حديث، خلق للشعوب المأزومة سؤالاً جدلياً يضيف الى أزماتها تعقيداً جديداً، فمن عليه المبادرة للنزول الى الشارع؟ الجماهير أم القيادة؟ للجانبين خشية الخذلان والتورط فيما يصعب التراجع عنه اذا حصلت المبادرة ولم تكتمل بمبادرة مقابلة، ثم يتفرع تساؤل جدلي آخر؛ من المسؤول عن كل ما يجري؛ الجماهير، ومستوى وعيها وثقافتها، وتراجع ايمانها بالقيم والمبادئ وغير ذلك من المآخذ المعهودة، أم القيادة، وثغراتها الفكرية والعقدية، وتخبطها بين النظرية والتطبيق؟

بكل بساطة، حلقة واحدة من شأنها أن تضع حداً لكل هذا التعب النفسي والارهاق الذهني، واستنزاف الطاقات والقدرات دون طائل؛ وهي وجود القيادة الوسطية بين القاعدة الجماهيرية وقمة القيادة، للمساعدة على ايجاد مخرج آمن مما تعيشه الشعوب من محنة الانظمة السياسية الفاشلة، فالهدف المنشود للجميع؛ النظام السياسي العادل –قدر الإمكان- والمتوفر على شروط الادارة الصحيحة لشؤون العباد والبلاد ما يوفر الاحتياجات الاساسية ويلبي الطموحات، فبين نظريات القيادة و افكارها التحررية والنهضوية، وحتى التنموية، وبين واقع الجماهير و امكاناتها، فاصلة كبيرة وفراغ ثقافي خطير يؤدي في حال اندلاع المواجهة، الى حصول حالتين: –على الاغلب- إما الفوضى وأعمال العنف، فتكون الجماهير وحدها فريسة القوى "الأمنية" التي تجدها مجرد عوامل شغب واضطراب وإخلال بالنظام العام، أو تنتصر الجماهير على النظام الديكتاتوري لكنها تتفاجأ بظهور ديكتاتورية بثوب جديد، واستبداد سياسي تحت شعارات وتبريرات جديدة.

الوعي: أعظم هدية للجماهير

وقبل ان نبحث عن تجارب الشعوب في هذا المجال، يجدر بنا الاستعانة بكتاب الله المجيد، وما يضمه من تجارب غنية في الهيكلية المتكاملة للهرم القيادي القادر على تحقيق التغيير المنشود، ففي الآية الكريمة من سورة هود، إشارة واضحة الى {أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض}، وهؤلاء هم النخبة المثقفة القريبة من الحقائق ومن القيادة تقع على عاتقهم مهمة إحكام الصلة بين القاعدة والقيادة، و ادارة أهم مرحلة في مسيرة التغيير وهي؛ محاربة الفساد التي تبدأ من داخل افراد المجتمع والامة ثم تنطلق الى الواقع الخارجي، والى النظام السياسي والاقتصادي الحاكم، واذا تابعنا الآية التالية نجد أنها تؤكد حقيقة هامة: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}، فمن اين يأتي الإصلاح الذي ينقذ الامة من الهلاك و الازمات التي نراها اليوم بأشكال عجيبة؟

وهذه كانت مهمة الانبياء والمرسلين بمعية الشريحة المثقفة حولهم ممن يصفهم القرآن الكريم بأوصاف عدّة مثل: {المؤمنين}،و {العاملين}، في هذه السورة، وصفات عدّة في سُور أخرى، مثل: {أولوا الألباب}، وهؤلاء يدركون الحقائق ويصلون الى مستوى راقٍ من التفكير حسب ظروف وعوامل عدّة، وفي مرحلة لاحقة يتحملون مسؤولية مجتمعهم وشعوبهم مهما كلفهم ذلك، لان النتائج كبيرة وعظيمة، فهم يدعون الى كل ما يمتّ بصلة الى قيم الحق والفضيلة، مثل العدل والحرية والكرامة الانسانية، لذا نلاحظ الطغاة على مر التاريخ يسعون لانتزاع هذه السمة من الحراك الثوري للانبياء والمؤمنين من حولهم، فكانوا يتهمونهم دائماً بالإفساد وتمزيق المجتمع وإشاعة الفوضى، بينما كان الانبياء يؤكدون عكس ذلك من خلال ما ينشرون من وعي الإصلاح والتغيير في اوساط الناس، فبقدر الاستجابة يكون انتصارهم على الظلم والطغيان، وتحقيق مطالبهم بتحكيم تلكم القيم السماوية.

الأخلاق: غذاء الروح وتقوية الإرادة

هذه العلاقة تأخذ شكلاً متطوراً آخر عندما تحكمها روابط الاخلاق والضمير، فنكون امام نوع من "التلاحم"، وهي علاقة أعمق بكثير من العلاقة الهرمية في شكلها النظري، وربما تكون هي العلاقة النموذجية الاكثر تأثيراً في تحقيق الاهداف المشتركة بين القاعدة والقيادة، وهو ما يراه المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي في كتابه "السبيل الى إنهاض المسلمين" في سياق حديثه عن مواصفات التنظيم الناجح بان يكون جماهيرياً بمعنى أن "تكون مؤسسات التنظيم وعناصره ملتحمة بالجماهير، وان ينظم طاقاتها ويقودها في معارك التحرير ضد الاستعمار والاستبداد، ولو فقد التنظيم صلته بالجماهير سيعيش الفراغ، و لايتطور وبالنتيجة لا يستطيع ان يقدم الامة الى الامام، واذا كان التنظيم جماهيرياً فانها تغذيه، فينمو ويتوسع حتى يتستوعب العالم الاسلامي وتحدث عندئذ اليقظة الكاملة والحركة الشاملة ثم طرد الاستعمار".

والعلاقة الوطيدة التي يتحدث عنها المرجع الشيرازي، هي العلاقة المتسمة بالتأثير وليس التأثّر بالظواهر والحالات السلبية في معظم المجتمعات والشعوب، فمن المعروف أن للجماهير مطالب متنوعة تصدر من شرائح ذات مستويات مختلفة في الوعي والثقافة، فتكون جميع المطالب مشروعة لجميع هؤلاء، مما يتطلب نظرة شمولية و"أبوية" من الشريحة المثقفة، والحذر من أي نوع من التعالي، او الكذب، او التلاعب بالمشاعر، لاسيما في المرحلة التي نعيشها حيث تبلغ حالة اليقظة درجة عالية جداً، لاسيما في بلد مثل العراق يتمتع بحرية أوسع وأكبر من بلاد اخرى، فهو يتابع كل صغيرة وكبيرة لهذه الشخصية او تلك القضية او الحدث، إنما المشكلة الاساس في معايير الحكم وطرق الاستنتاج، وهنا تحديداً يأتي دور النخبة (القيادة الوسطية) عندما تنجح في التوازن بين مطالب الجماهير، وبين الاهداف التي تسعى لها، والتي لا تراها الجماهير بسبب تركيز اهتمامها على وضعها المعيشي، وكيفية توفير لقمة العيش الكريم منذ الصباح الباكر وحتى المساء.

وعندما نقرأ في "السبيل الى انهاض المسلمين" فشل تجربة الاحزاب السياسية الاربعة والاربعين في القرن الماضي بالعراق بسبب "ازدراء الناس"، نعرف أن الاحترام الذي يتحدث عنه المرجع الراحل، ليس فقط حسن المعاشرة والمعاملة فقط، وإنما ايضاً في احترام عقول الجماهير وتنوع تفكيرهم واهتماماتهم، وهذه كانت أخلاق الانبياء والمصلحين، ثم أخلاق مراجع الدين العاملين في تجاربهم مع مجتمعاتهم نجحوا أيما نجاح في خلق علاقة نموذجية مع الناس باستيعابهم مختلف أنماط السلوك والثقافة، وصهر المشاعر الانسانية في بوتقة حركية نحو إصلاح ما يريدونه هم، وما يسعون اليه من تغيير يطور حياتهم، فضلاً عن حل المشاكل والازمات؛ الاقتصادية منها، والسياسية، والقانونية.

واذا كان النجاح تحقق علي يد قامات عالية من سماء العلم والإصلاح، مثل؛ السيد أبو الحسن الاصفهاني، والميرزا محمد حسن الشيرازي، والشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي، وأيضاً؛ السيد محمد الشيرازي، فان الدور المطلوب اليوم يقع على عاتق النخبة المثقفة والواعية بأن تتحمل هذه المسؤولية الكبيرة، وأن تكون الى جانب الجماهير، كل الجماهير دون استثناء، تحمل همومهم وتدرس افكارهم وتوجهاتهم بما يخلق لديهم الارادة في المشاركة الحقيقية بعملية التغيير الشامل تحت لواء القيادة الشرعية.

اضف تعليق