q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

الهجرة وآفاق العمل لصناعة النموذج الناجح

قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الإمام السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه-

الهجرة ليست قراراً سهلاً، فهو يتطلب الانتقال من حالة الاستقرار، مع كم هائل من الارتباطات والعلاقات، الى بلاد وأجواء وظروف اخرى والبدء من الصفر لتكوين علاقات اجتماعية وسياسية، وهذا يكلف كثيراً من الجهود، لاسيما من الناحية النفسية، وخوض مشاكل الاندماج والتعامل مع مجتمعات بطباع وتقاليد مختلفة...

مقدمة:

الشعور بالعجز في مواجهة الانظمة الديكتاتورية، وما تمارسه من سياسات تكميم الافواه، ونشر الرعب، والتصفيات الجسدية، وايضاً؛ من سياسات تضليل الافكار، وشراء الولاء والضمائر، يدفع بالكثير من الشريحة المثقفة المتصدّية للتغيير بأن تنكفأ على نفسها، وتجمّد نشاطها، وتذوب في المجتمع الذي يتحكم فيه الحاكم المستبد كاملة، في حين لا يجهل الجميع دعوات القرآن الكريم وأهل البيت، عليهم السلام، على هجرة الوطن الذي "لايحملك" والذي يشهد الجور والظلم والانحراف عندما يستعصي أمر التغيير فيه، وربما السبب في غياب هذه الدعوات عن الاذهان، أن البعض له تفسيرات او اجتهادات خاصة عن الواقع الذي يعيشه، لذا نراه يمنّي نفسه، او يجد مبررات للسكوت لما يعقتد به ويتوافق مع ظروفه الاجتماعية والسياسية، ولذا نشهد استمرار حكم الديكتاتوريات في العالم الاسلامي، واستمرار معاناة المسلمين في أزمات خانقة في بلدانهم دون ان يجدوا الطريق الى خروج من سبيل.

الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي القصير يشير الى هذه الحقيقة، وأن من يروم تغيير الواقع الفاسد في أي مكان كان، عليه أن يضع في حساباته الهجرة ايضاً، الى جانب خطواته واعماله في طريق تحقيق اهدافه، وأن لا يكتفي بالمعارضة و"إسقاط الواجب" فقط.

لنقرأ نصّ الحديث معاً:

المضطهد غير المهاجر، معذّب في الدنيا وفي الآخرة!

"لا ينبغي لأحد التصور أنه أينما حلّ واستقر فانه مكانه الأخير، يكتفي به ويعيش حياته ويؤدي ما عليه من مهام، سواءً حالفه التوفيق أم لا.

القرآن الكريم دعا في أكثر من آية كريمة الى الهجرة وتغيير المكان الى آخر عندما يستعصي الامر على التغيير والاصلاح لأي سبب كان، منها: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا }، (سورة الملك، الآية:15)، والمناكب؛ هي الطرق.

إن الاصرار على البقاء في مكان ما، بأي حجة او مسوغ كان، في ظل النظام الديكتاتوري وممارسات القمعية، يدعو الى زرع اليأس والقنوط في النفوس بعدم تحقق التغيير اساساً، كما تصور كثير من الناس في عراق البعث، عندما فرض النظام الصدامي – البعثي سياساته القمعية على البلاد والعباد، وقالوا بان الطرق كلها مغلقة ولا فائدة من أي عمل نقوم به، ولكن؛ عندما حصلت الهجرة الى الخارج، تبين أن هنالك عالماً فسيحاً بالامكان القيام باعمال مختلفة لإيصال رسالة المعارضة الى أسماع العالم، وهو ما حصل فعلاً.

بعض الذين يعيشون في البلاد الاسلامية تحت ضغوط سياسية وأمنية، يتصورون أنهم اذا ماتوا تستقبلهم الملائكة. أبداً...! لان الانسان سيواجه بالمعادلة التالية التي جاءت في الحديث الشريف: "من لا معاش له لا معاد له"، والمقصود بالمعاش، ليس المال والطعام، وإنما العيش الكريم على ارض الوطن، فمن لم يكن لديه هذا العيش في وطنه، فلا يتوقع المستقبل الحسن يوم القيامة.

وفي القرآن الكريم محاورة رائعة بين من يتوفاه الله ممن يدعون الاضطهاد والاستضعاف وقلّة الحيلة، وبين الملائكة: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً)، (سورة النساء، الآية:97)، فهو في الدنيا مضطهد ومعذّب، كما في الآخرة يجلب على نفسه العذاب ايضاً!".

المظلومية، هل هي سلاح لمواجهة الظالم؟

من الناحية النفسية، فان تعرض أي انسان لأذى أو مصيبة، فانه يستجلب استعطاف المحيطين به، كأن يسقط أرضاً في الشارع، او يتعرض لاعتداء جسدي او لفظي من شخص ما، بغض النظر عن الخلفيات والاسباب.

وقد تم توظيف هذا الشعور الانساني في ميدان الأدب، وايضاً كتابة سيناريو الافلام السينمائية، وفي وقت لاحق؛ افلام الرسوم المتحركة الخاصة بالاطفال، حيث يتم جذب انتباه المشاهد من خلال فقرات في الفيلم تتضمن حالات المظلومية والاستضعاف، بوجود شخص مضطهد مقابل شخص آخر ظالم يتجسد في صور وقوالب متعددة.

وحتى نحصل على الإجابة للسؤال الآنف الذكر، علينا ان نعرف مديات الظلم والاستضعاف التي نعتقد أنها تجتذب التعاطف من الآخرين، فهل هي محدودة بشخص معين في منطقة سكنية، كأن يتعرض لحادث دهس من سيارة مسرعة او دراجة نارية، ثم يهرب السائق من مكان الحادث، او ان يتعرض رجل طاعن في السن، او امرأة عجوز لسوء تعامل الابن، او التجاوز عليهما بألفاظ جارحة؟ أم ان هذا الاستضعاف له مديات واسعة تشمل افراد المجتمع والامة، وأن هنالك شخصٌ يتحكّم في المصائر، ويقبض على ثروات البلاد وقدراتها، وأن ثمة قضية قيم انسانية عليا مثل؛ الحرية والعدالة، وقضية عقيدة و رأي، هي التي تتعرض للتهديد، وليس فقط الانسان بذاته؟

عندما يكون الأمر كما الحالة الثانية، وهو الواقع الذي تعيشه الامة منذ عقود طويلة من الزمن، فان الاكتفاء بإظهار المظلومية واستعطاف الرأي العام، ليس فقط لن يفيد المظلوم بشيء، بل ولن يفيد بمعالجة سبب الظلم، والتصدّي للظالم والعمل على فضحه ثم إسقاطه من قمة السلطة، لان ببساطة؛ ما دامت القضية في إطار المشاعر والعواطف، فان بإمكان الحاكم الالتفاف على جريمته وظلمه بما يبتكره أعوانه من خبراء وعلماء نفس في توجيه العواطف نحو الحاكم على أنه الوحيد الذي يوفر الامن والاستقرار والمواد الغذائية باسعار معقولة، ويوفر السكن والتعليم والسفر، ومن دونه ينعدم كل شيء وتعمّ الفوضى، ويسقط البلد في التبعية للاجنبي وللارهاب و...! لذا نجد في كثير من الحالات أن المظلوم، وهو صاحب رأي وعقيدة ومطالب حقّة، وقد تعرض للسجن والمطاردة والتهديد بالموت، يتعرض ايضاً للنصح من اصدقائه وجيرانه، وحتى أهله بأن يكف عن "معارضة من لا طاقة به، وعن المطالبة بحقوق اكبر منه"، ومن ثمّ؛ ان لا يكون مظلوماً بعد ذلك!

ولعل هذه الفئة هي التي تقصدها الآية الكريمة التي تنقل الحوار بين الموتى منهم وبين الملائكة الذين يستفهمون منهم بأن (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها)، فلماذا رضيتم لانفسكم بطابع المظلومية والاستضعاف، وتمسكتم بالارض التي تعيشون عليها؟ علماً أننا نقرأ في الحديث عن أمير المؤمنين، عليه السلام: "ليس بلدٌ بأحق منك من بلد، خير البلاد ما حملك"، فالاهداف الكبرى والقضايا العادلة التي يناضل من اجلها المظلومون في كل مكان، أغلى وأهم من الارض التي يسكنون عليها، لان "حب الوطن" وتقديس الارض، لن تساعد على تغيير واقع الانسان المظلوم، إنما يؤدي لتكريس الواقع الفاسد وبقاء الديكتاتور والحاكم الظالم سنوات مديدة.

المجتمع النموذجي في المهجر

بالضبط؛ كما يندفع الانسان الباحث عن فرصة للعمل في وطنه، وعندما يعجزه ذلك يتخذ قرار الهجرة الى بلاد الله الواسعة، فمن المفترض ان يتكرر الشيء نفسه مع من يطالب بحقوقه وحقوق شعبه، او يريد تطبيق إصلاحات جوهرية وتغيير الواقع الفاسد في بلده، ولنا خير أسوة بنبينا الاكرم، صلى الله عليه وآله، عندما اختار الهجرة على البقاء في مكة، وهي مدينته ومسقط رأسه، ومسكن عشيرته وأهله، فاتخذ من مدينة يثرب وطناً جديداً، وبدأ من هناك مشوار الدعوة الى قيم السماء، ونشرها الى آفاق الارض، وحوّل المدينة التي كانت موطناً للأوبئة، ومكاناً يعافه الجميع، الى مدينة مشعة، نابضة بالحياة، فصارة "طيبة" ومدينة منورة، بفضل الانتقالة الذكية من حالة المظلومية التي عاشها النبي طيلة ثلاثة عشر سنة في مكة على يد المشركين، الى حالة البناء وصناعة البديل الافضل ليقدمه لأهل مكة والمدينة ثم الجزيرة العربية والعالم بأسره.

وهذا ما يرمي اليه سماحة الامام الشيرازي –طاب ثراه- فقد كان يؤكد في احاديثه الخاصة والعامة، ولمرات عديدة، حتى أواخر حياته، على ضرورة الانتشار في الارض، وعدم الالتصاق بما يقنع البعض بالعيش البائس بحجة الظروف القاهرة، ثم العمل على صناعة البديل الذي يفضلونه ويؤمنون به، فاذا كانت الدعوات الى الحرية والعدالة والمساواة وغيرها من القيم السامية، فلابد ان تتجسد في مجتمع صغير، او مجتمعات في انحاء العالم، لتبين للرأي العام ما يفتقدونه في بلدانهم، ومن المسؤول عن انتهاك هذه الحقوق؟ وهذا ممكن جداً من خلال تأسيس المدارس والحسينيات والمكتبات وحتى المؤسسات الانتاجية، الى جانب المؤسسات الثقافية والخيرية التي تكون عالماً مصغراً من القيم والمبادئ التي يناضل من اجلها المعارضون للديكتاتورية والظلم، وهذا العالم المصغر او المجتمع النموذجي، من شأنه ان يكون البديل العملي للواقع السيئ في الوطن الأم.

نعم؛ الهجرة ليست قراراً سهلاً، فهو يتطلب الانتقال من حالة الاستقرار، مع كم هائل من الارتباطات والعلاقات، الى بلاد وأجواء وظروف اخرى والبدء من الصفر لتكوين علاقات اجتماعية وسياسية، وهذا يكلف كثيراً من الجهود، لاسيما من الناحية النفسية، وخوض مشاكل الاندماج والتعامل مع مجتمعات بطباع وتقاليد مختلفة، بيد انه افضل بكثير من الاقتصار على استعطاف الآخرين وانتظار النتائج الجاهزة من تضامن وتأييد بانتظار لحظة الانتصار!

اضف تعليق