q

سبق قيام الدولة الصفوية عدة حركات ثورية للتخلص من الحكم المغولي التيموري الاستعماري الذي كان يستولي على أغلب البلاد الإسلامية ومنها إيران, ومن هذه الحركات حركة فضل الله الحروفي (805هـ/1402م), وحركة نعمة الله الولي الصوفي العلوي (1421م) التي كانت أوسع نشاطاً من حركة الحروفي, وحركة (نور بخش) ــ محمد بن عبد الله ــ الصوفي العلوي, ولكن هذه الحركات قمعت بقسوة ونفي قادتها.

لكن الإصرار على التحرر من قيود الاحتلال المغولي كان يتزايد فتمخض عن حركتين كتب لهما النجاح نسبياً فتمخضتا عن قيام دولتين, حيث لم يمتد نفوذ هاتين الدولتين سوى إلى أماكن صغيرة جداً قياساً بنفوذ الإمبراطورية المغولية التي كانت تحتل مناطق واسعة من العالم.

وتنفس الشعب الصعداء

الحركة الأولى هي حركة الشيخ خليفة المازندراني والتي تمخضت عن قيام دولة السربداران الشيعية الإمامية الاثني عشرية في سبزوار, وضمّت إليها نيسابور, وأول من حكم فيها هو عبد الرزاق الباشتيني, وقد استمرت حوالي خمسين عاماً، من سنة (٧٣٨هـ ــ ٧٨٨هـ/1337 ــ 1386م) حتى أسقطها المغول بقتلهم آخر ملوكها علي المؤيد في الحويزة على يد تيمورلنك.

أما الحركة الثانية فهي حركة محمد بن فلاح الصوفي العلوي (841هـ/1423م), والتي انتهت بقيام الدولة المشعشعية في الحويزة وامتد نفوذها إلى البصرة وبهبهان وخوزستان ولرستان, وقد استمرت زهاء (80) سنة لتنصهر مع تيار الدولة الصفوية وتختفي معالمها.

أسوء العهود

كانت إيران ترزح تحت نير الحكم الايلخاني ــ وهو جزء من الإمبراطورية المغولية ــ والتي حكمت بسلطة الحديد والنار, فعاشت إيران أسوء العهود في تأريخها حيث ساد القتل والنهب والسلب وكثر اللصوص وطغى الجوع وتفشت الأمراض واستولى رجال السلطة المغول على الأراضي والأموال والنفوس وعاثوا في الأرض فساداً، وكان لهذه الأوضاع المزرية أثرها الكبير والسيء على الشعب مما سبب ازدياد نقمة وسخط الناس على المغول, لكن هذا السخط كان يجابه بقوة السلاح لتعم الفوضى ولصبح البلاد كالقشة في مهب الريح.

في تلك الفترة كان سلب الناس أموالهم وأراضيهم وممتلكاتهم وقتلهم شائعاً وقد أدى غزو الكرج لأردبيل إلى زيادة أعداد الضحايا وكان من ضمن الذين تضرّروا من تلك الفوضى العارمة التي عمّت البلاد رجل من الأثرياء الذين يمتلكون إقطاعات فاغتصبت منه وفقد بين ليلة وضحاها كل ما يملك.. وهذا الرجل هو أمين الدين جبرائيل والد صفي الدين الأردبيلي الجد الخامس لأول ملك صفوي وشيخ الطريقة الصوفية التي ستتحول إلى دولة عظيمة تحكم إيران وتمد نفوذها إلى كثير من البلاد تدعى (الدولة الصفوية).

الهجرة والعودة

كان أمين الدين جبرئيل من الأعيان والأشراف ومن أسرة علوية شريفة ينتهي نسبها إلى الإمام موسى الكاظم (عليه السلام), وقد اضطر إلى ترك أردبيل بعد أن فقد أملاكه ولبس ثياب الدراويش وتوجه نحو شيراز ليلتقي هناك بكمال الدين عربشاه الأردبيلي, وهو من مشاهير الصوفية ليكون أحد مريديه, وبقي معه مدة عشرة سنوات تزوج خلالها ابنته (دولتي) التي وصفتها المصادر بأنها كانت على جانب كبير من الزهد والعبادة حتى لقبت بـ (رابعة العدوية), وقد تناولت المدونات التاريخية أهمية وقع هذا الزواج في الأسرة الصفوية والذي صهر العنصر الفارسي المتمثل بابنة كمال الدين مع زوجها أمين الدين التركي ويبدو أن هذا الزواج كان ميموناً ومباركاً لأمين الدين الذي سرعان ما استعاد وضعه المادي الممتاز واستطاع أن يجمع ثروة ليعود مع زوجته (دولتي) إلى أردبيل ويقيم في قرية (كلخوران) ــ مقره ومقر أسرته الجديد ــ وهناك ولدت زوجته ابنه صفي الدين إسحاق الأردبيلي الذي نسبت له الأسرة الصفوية وذلك سنة (650هـ/1249م).

اليتيم الغني

حذا صفي الدين حذو أبيه ــ الذي مات مبكراً ــ في اتّباعه الطريقة الصوفية, ورغم يُتمه المبكر إلا أنه لم يعش حياة اليتيم الفقير, حياة الضنك وشظف العيش, بل كان يتيماً مرفّهاً بفضل ما تركه له والده من ثروة أنسته ولو من هذا الجانب بأنه يتيم.

ولم يكن التصوّف في ذلك الوقت بمعناه المتعارف من لبس الصوف والعزلة والاعتكاف والزهد بالطعام والشراب, بل إنه كان أشبه بالمركز الاجتماعي الديني الذي يقوم على الإرشاد والتوجيه, فسلك صفي الدين طريق والده ومنهجه في التصوّف ليحل مكانه وصار يتعلم عند شيوخ الصوفية ويأخذ عنهم ولا يستقر عند أحدهم حتى طاب له المكان في كيلان عند الشيخ (تاج الدين إبراهيم الزاهد الكيلاني), المتوفى سنة (700هـ/1301م) وصحبه وتزوج ابنته فذاع صيته وأصبح محط أنظار المريدين, فهذا الزواج من ابنة الكيلاني يجعله في محل ثقة أستاذه ويضعه في مكانة مقدّسة عند المتصوّفة.

كما كان مركزه الاجتماعي المرموق وثراؤه عاملاً مهما في التفاف المريدين الذين كان منهم من يتمنى أن يحصل على شرف خدمته, يقول الدكتور كامل مصطفى الشيبي: (وكان ثراء صفي الدين وإصهاره إلى الشيخ الزاهد الكيلاني مدعاة إلى كثرة مريديه حتى ذكر أنهم قاربوا المائة ألف كان يخدمه منهم ألفان).

إن اتصال صفي الدين بالكيلاني ومصاهرته والسير على خطى أبيه وتكاثر مريديه بهذا العدد الضخم الذي وصل إلى ما يقارب المائة ألف, هو في طور إقامة دولة ستنقشع بها سحب الاحتلال المغولي السوداء وتشرق بها شمس الحرية على إيران أولاً, ومن ثم تصحيح الاعتقاد لديها والانتقال من العقيدة الصوفية إلى مذهب الشيعة الإثني عشرية ونشر التشيع ليس في إيران فحسب, بل وصوله إلى كثير من البلاد واستقطاب علماء الشيعة العرب وخصوصاً من جبل عامل الذين فروا من وحشية السلطة العثمانية فوجدوا ملاذهم في الدولة الصفوية التي احتضنتهم ووفرت لهم سبل نشر العلم وتعليمه يقول الدكتور الشيبي:

(إن التصوّف المتشيّع متى وقع تحت تأثير فقهاء الشيعة فقد عناصره الصوفية ومال إلى التشيّع الفقهي المعتاد. أما علة ذلك فهي أن كلاً من التصوّف والتشيّع يتعلق بالجانب الروحي المتسامي من العقيدة الدينية، غير أن التصوّف يرتفع بالإنسان العادي والتشيّع يسمو بالصفوة المختارة من أهل البيت. وهكذا كان الأمر بالنسبة للصفويين والمتشيعين من بعدهم, فلقد بدءوا حركتهم صوفية متشيعين فآلت بهم الحال إلى ذوبان تصوفهم في التشيع, وبالتالي إلى زوال التصوّف وثبات التشيّع).

ويقول كمال السيد في كتابه: (نشوء وسقوط الدولة الصفوية) (ص81): (إن الهجرة العاملية حدث كبير أثّر في مسار الدولة الصفوية أعمق الأثر, بل وأثر في المسار الفقهي للمذهب الشيعي وكان ذلك خطوة هامة جداً في المسارين معا).

أردبيل محج المريدين

اكتسبت أردبيل بوجود صفي الدين مكانة دينية ذات أهمية كبيرة وأصبحت محط أنظار آلاف الزوار الذين يتوافدون عليها من كل مكان للتبرك به والاستماع إلى إرشاداته وتعاليمه حتى طغى اسم (دار الإرشاد) على المدينة وصار (خانقاه) الشيخ صفي الدين محجّاً لمريديه.

وبعد موت صفي الدين سنة (735هـ/1334م) حل مكانه في الزعامة الروحية ابنه صدر الدين موسى المولود سنة (704هـ/1304م), وهو سبط الشيخ إبراهيم الزاهد الكيلاني. وقد استحدث في طريقته والتي هي طريقة أبيه وجده عنصر الفتوة فكان الفتيان الأشداء يصحبونه أينما ذهب وبلغ مكانة كبيرة في التصوف لا يضاهيه فيها أحد في زمنه حتى قال عنه محمد نور بخش بأنه: (كان من أوتاد الأولياء وفتيانهم), كما لقب بـ (خليل العجم), وبلغ من المنزلة العظيمة في التصوّف أن عُدَّ الصوفي المعروف الشيخ (شاه قاسم أنوار) وهو أحد العرفاء المتصوفة المعروفين ومن رؤوسهم تلميذاً له.

وكان مما زاد في تمسك أتباعه به ولزومهم إياه أن أضفى على طريقته سمة الثبات والرسوخ وأعطاها بعداً اعتقادياً أكبر عندما شيَّد فوق قبر أبيه ضريحاً عظيماً أنفق عليه أموالاً طائلة, واستغرقت مدة بنائه عشر سنوات وصار موئلاً للزائرين من مريديه وغيرهم, كما كان يزوره الأمراء والوزراء والسلاطين والملوك ومن ضمن الذين زاروه تيمورلنك, لما كان يتمتع به صفي الدين من قداسة في نفوس الناس وما عرف عنه من زهد وورع وتقوى وما نسبت إليه من كرامات ومعجزات تناقلتها الناس.

المسرح السياسي

في عهد صدر الدين بدأت تباشير اقتحام الصوفية العالم السياسي تظهر لأول مرة, فقد قوي نفوذه وكثر أتباعه (وفتيانه) وصار أمره لا يستهان به مما أثار حفيظة حاكم أردبيل المغولي الأشرف جوبان, فضيّق عليه الخناق ودبّر لقتله بدسِّ السمِّ إليه مرة واغتياله أخرى, لكن صدر الدين نجا من هذه المحاولات واضطر إلى مغادرة أردبيل إلى كيلان التي لم يعد إليها حتى وصلت إليه أنباء غزو أرغون بك أردبيل وقتل الأشرف سنة (794هـ/1391م), فرجع إليها بمكانته المعهودة واستعاد زعامته فيها ثانية وبقي يعتلي منبر الإرشاد فيها لمدة تسع وخمسين عاماً حتى توفي فيها ودفن إلى جنب أبيه.

علاء الدين علي ــ سياه بوش ــ

تولى علاء الدين علي بن صدر الدين موسى الزعامة بعد أبيه وقد عرف بعادته في لبس السواد فلم تكن الثياب السوداء تفارق جسده حتى لقب بـ (بسياه بوش) أي المسود.

كان أبوه صدر الدين قد مهّد له السُّبل وسهل له الأمور لاعتلاء الحكم لكن كانت هناك عقبة لم يستطع تخطيها وهي وجود سلطان قوي مثل تيمور لنك الذي لم يكن لقمة سائغة, فأي حركة مسلحة ستُقمع بقسوة ووحشية بوجوده, لذا فقد ارتأى علي تأجيل ما كان يطمح إليه إلى زوال هذه العقبة ففضل الإعداد لها للوقت المناسب, وكان من ضمن إعداده للثورة ظهور الفدائيين من مريديه الذين وهبوا أنفسهم له وجعلوا أرواحهم رهن إشارته مما يعطي الثورة المستقبلية دفعة إلى الأمام بخطى واثقة.

وتشاء الأقدار أن تُمهِّد لقيام الدولة الصفوية وتأخذ بيد هذه الأسرة إلى طريق العرش, فقد استطاع علي أن يضيف قوة جديدة أخرى إلى مراكز قواه ومريديه بفضل حنكته وسياسته.

الأسرى والنازحون

عندما عاد تيمورلنك من حربه مع العثمانيين منتصراً انتصاراً كبيراً وساحقاً وذلك عام (804هـ/1401م) والتي لم يكتف بهزيمتهم فقط, بل طاردهم واستطاع أن يجلب معه السلطان العثماني بايزيد الأول أسيراً فحبسه في قفص حديدي حتى مات, كما جلب معه كثيراً من الأسرى الأتراك, فأشار عليه علي ــ سياه بوش ــ بإطلاق سراحهم بدلاً من قتلهم فامتثل تيمورلنك لطلبه نظراً لما يحظى به علي من منزلة بين الناس ووهبهم إليه, فجاء بهم علي إلى أردبيل وأسكنهم فيها فانخرطوا مع مريديه واعتنقوا طريقته وصاروا يُسمَّون الصوفية (الروملو) ــ أي الروميين ــ فكانوا من نواة الحركة المسلحة التي أعد لها والتي سُمِّيت فيما بعد بـ (القزلباش) وهي كلمة تركية تعني الرؤوس الحمر.

وقد جاءت هذه الكلمة في عهد حيدر بن الجنيد بن إبراهيم بن علي بن موسى بن الشيخ صفي الدين وذلك لما نضجت الحركة الصوفية وأصبحت مهيَّأة لشق طريقها إلى السلطة, فأمر الشيخ حيدر (883هـ/1488م) أتباعه وضع شعارهم الخاص فوق رؤوسهم وهو قلنسوة حمراء ذات اثنتي عشر شقة ــ تيَّمناً بأئمة أهل البيت (عليهم السلام) ــ وتلف حولها العمامة، وقد وصف هذه القلنسوة الرحالة الإنكليزي (بيرجس) في كتابه عن رحلته إلى إيران والذي طبع في لندن سنة (1036هـ/1626م): حيث قال:

(لقد أمر (حيدر) أتباعه أن ترتفع من وسط عمامتهم ذات الأكوار العديدة قطعة مدببة على هيأة الهرم مقسمة من قمتها إلى أطرافها اثنتي عشر شقة تذكر بعلي وأبنائه الإثني عشر, ونسبة إلى هذا الشعار الذي كان أحمر اللون سمي أتباع حيدر بالقزلباش ــ بمعنى حمر الرؤوس), وقد أصبح هذا اللقب يطلق على الشيعة الإيرانيي الأصل في تركيا والهند إلى قرون عديدة على الرغم من أنه تقلص واضمحل بعد قيام الدولة الصفوية.

وقد سمح الشيخ علي لهذه المجاميع من الأسرى المحررين بالعودة إلى أوطانهم بعد أن أصبحوا من مريديه وهي قوة لا يستهان بها وليكونوا على أتم الاستعداد متى ما احتاج إليهم ــ كما يظهر ذلك من مجريات الأحداث ــ، وإضافة إلى هؤلاء فقد كانت النواة الأولى لتأسيس القزلباش ــ الجيش الصفوي ــ هي من نازحي الأناضول الذين هربوا من الأعمال الوحشية التي مُورست ضدهم من قبل العثمانيين.

يقول الأستاذ كمال السيد: (وقد ساعدت المعاملة القاسية التي يلقاها العلويون الأتراك من الدولة العثمانية على نزوحهم الأمر الذي اضطرهم إلى التوجه صوب الشرق وبالتحديد إلى آذربيجان وأردبيل حيث مقر المرشد الأكبر صفي الدين الذي كان يتمتع بالقداسة حياً, والذي أصبح قبره مزاراً يؤمُّه الآلاف من مريديه, وقد تنبهت الدولة العثمانية فيما بعد إلى خلو مناطق واسعة من الأناضول فقطعت الطريق على المهاجرين, وانتابت العثمانيين هواجس من مخاطر هذه الهجرة بعد تنامي الخطر الصفوي خاصة بعد أن أصبح المرشد العام ملكاُ له جيوشه وقواته ودولته الرسمية).

إبراهيم وجمود الحركة الصفوية

مات الشيخ علاء الدين علي ــ سياه بوش ــ بعد أن قضى (38) عاماً في الزعامة الروحية للصوفية وذلك سنة (832هـ/1428م) في القدس عند عودته من الحج فدفن فيها وأقيم له مزار كبير هناك، وهنا تُصاب الحركة الصفوية بانتكاسة بسبب من سيخلف سياه بوش وهو ابنه إبراهيم الذي شكل ضعف شخصيته وخموله عقبة أمام اندلاع الثورة الصفوية وأدى عدم أهليته إلى تأخرها, فلم يَرِث من صفات الزعامة التي عُرف بها أبوه وجده شيئاً يُذكر, وزاد من صغر شأنه مرضه الملازم له وحزنه على أبيه, مما يجعل مهمة النهوض بمسؤولية عظيمة كهذه مستحيلاً خاصة أنه عاصر السلطان رخ بن تيمور (809 ــ 851هـ/1406 ــ 1447م), والذي عرف بقوته وسطوته وجبروته ودهائه. فعاشت الحركة الصفوية فترة جمود وخمول في عهده بحيث إن كثيراً من المؤرخين والكتاب لتلك الفترة أهملوا ذكره والإشارة إليه في حديثهم عن الأحداث التي رافقت تأسيس الدولة الصفوية ونسبوا الجنيد ابنه والزعيم بعده إلى علي سياه بوش مباشرة.

الجنيد وتطور الحركة

مات إبراهيم سنة (850هـ/1447م) وهي السنة التي مات فيها السلطان رخ بن تيمور, وقد ترك إبراهيم ستة أولاد فكان منصب الزعامة من نصيب أصغرهم الجنيد الذي تحولت على يديه الأسرة من نشاطها الديني إلى النشاط السياسي خاصة بعد أن عصفت رياح التشتت والتمزق بالإمبراطورية المغولية بموت رخ بن تيمور.

بدأت الأحلام انطلاقتها نحو التحقق وراح الصفويون ينظرون إلى الجنيد نظرة الفارس والبطل الذي انتظروه طويلاً, حيث استطاع الجنيد صهر أتباعه ومريديه المتصوّفة بالشيعة النازحين من الأناضول فاتسعت قاعدته الشعبية وأصبح زعيماً كبيراً ليس في أردبيل وآذربيجان فقط, بل في مناطق كثيرة أخرى وازدادت أعداد أتباعه في الأناضول بعد زواجه من أخت (أوزون حسن), مؤسس دولة الخروف الأبيض, وحاكم ديار بكر, ولكن تأبى الأقدار أن يتحقق هذا الحلم على يد الجنيد, فقد نشأت حالة من النفور بينه وبين جهانشاه ابن قرا يوسف حاكم آذربيجان فاضطر الجنيد إلى ترك أردبيل التي لم يكن يعلم إنه لن يعود إليها ثانية, حيث تنقل في البلاد فرحل إلى حلب وأربل وكلز وأخيراً ديار بكر التي توجّه منها إلى موطنه أردبيل ومعه عشرة آلاف من مريديه ولكن حاكم شيروان (شيروانشاه) اعترضه في الطريق فكانت هناك معركة انتهت بمقتل الجنيد سنة (861هـ/1456م)، وكانت هذه المعركة هي علامة فارقة في تاريخ الصفويين حيث أنها أكدت على عدة أمور منها: أن الطريقة الصفوية غلب عليها الطابع السياسي وإن نفوذها بدأ يظهر على الساحة السياسية كقوة ينظر إليها بعين الاعتبار, فقد كان أنصار الجنيد يقصدونه من بلاد الروم وإيران وغيرها ووصفه معاصروه بأنه (ترك طريق الصوفية واتجه إلى طريق الملوك) وأصبحت الصفويون قاب قوسين أو أدنى من إقامة دولة.

حيدر

عند مقتل الجنيد كان ابنه حيدر طفلاً فقام بالوصاية عليه خاله أوزون حسن الذي أصبح الحاكم المطلق في آذربيجان بعد انتصاره الساحق على دولة الخروف الأسود التيمورية, فنشأ حيدر في كنف خاله نشأة السلاطين وأصبح مهيأ لأن يتسنّم عرش أردبيل إضافة إلى زعامته الروحية التي نهج عليها أجداده فسار هو على منهجهم وأصبح وريثهم عليها, كما أهّلته شجاعته وبسالته لأن يتطلع إلى إقامة دولة مستقلة وهو الطموح الذي طالما راود أفراد هذه الأسرة.

ولكن القدر قال كلمته مرة أخرى بخلاف ما أراده حيدر أيضاً وجاءت الرياح بما لا تشتهي سفنه وحطمت طموحه كما حطمت طموح أجداده من قبل, وكان وقع هذه المرة أشد من قبل لأن الذي سيضع حجر العثرة في طريق الصفويين نحو العرش ويوجه للأمير حيدر طعنة في الظهر هو من ذوي القربى فكانت طعنته أشد مضاضة من الحسام المهند.

كان حيدر قد بدأ نشاطه السياسي والعسكري بقوة ضد الشراكسة الذين قتلوا والده الجنيد والانتقام من حاكمهم (شيروانشاه), وفيما كان حيدر القائد الشجاع يشق طريقه بعزم نحو المجد ويحقق انتصارات تمهد الطريق لدولته المستقبلية, يموت خاله أوزون حسن ليحل محله ابنه يعقوب الذي أرعبته انتصارات ابن عمته حيدر وجعلته ينظر إليه بعين الحسد والغيرة فتحالف مع عدوه (شيروانشاه) ويدخل الصراع المسلح معه ضد حيدر بخوض معركة غير متكافئة جرت في طبرستان قرب دربند استمات فيها الصفويون في الدفاع عن قائدهم وزعيمهم الروحي لكن التفوق في الأعداد جعلهم يخسرون المعركة بعد أن وقع حيدر جريحاً بسهم وتم أسره وقتله سنة (893هـ/1488م), فانتكست الحركة الصفوية انتكاسة كبيرة وانزوت عن المسرح السياسي لفترة.

العائلة السجينة

بعد مقتل حيدر ألقي القبض على زوجته وأولاده الثلاثة: يار علي، وإبراهيم، وإسماعيل ــ أول ملك صفوي ــ وأودعوا السجن في أصطخر لأكثر من أربع سنوات, وكان عمر إسماعيل عندما دخل السجن مع أمه وأخوته سنة واحدة فقط. وفيما كانت الدعاية ضده الصفويين تشتد من خصومهم وتنتشر في البلاد في محاولة لتسقيطهم وإشاعة انحرافهم عن الدين واتجاههم إلى السياسة وسفك الدماء, كانت أنظار المريدين تتجه صوب أسرة زعيمهم ولم تؤثر فيهم كل تلك الدعايات ولم تثبط من إصرارهم على المضي في نهجهم ومواصلة السير خلف قادتهم لتحقيق دولة شيعية اثني عشرية تحميهم من بطش العثمانيين وسطوتهم ووحشيتهم ويعيشون فيها آمنين مطمئنين, فبقي الصفويون يترقبون خروج أسرة زعيمهم من السجن لكي يتولى يار علي الابن الأكبر لحيدر زعامتهم.

يار علي

ويموت السلطان يعقوب ليترك كرسي الحكم تتقاذفه الأمواج باشتداد الصراع عليه بين ابنه (بايسنقر) وحفيده (رستم) ويتحول النزاع حول العرش إلى صراع مسلح انتهى باعتلاء رستم الحكم, فارتأى أن يطلق سراح أسرة حيدر المكونة من أنجاله الثلاثة وزوجته في محاولة لتدعيم عرشه بهم, وتقوية مركزه بثقلهم, وتعزيز موقفه بوجودهم في صراعه مع بايسنقر, ولكنه لم يكن يعلم أن الأسد الذي سيفترسه قد أطلقته يداه هو بنفسه بعد أن كان محبوساً عنده وإنه سيقضي على دولته إلى الأبد بهذا العمل, فلم يكن يار علي ليرضى بأن يكون وسيلة بيد رستم وأن يكون تابعاً له, ودماء آبائه وأجداده تجري في عروقه.

ما إن خرج يار علي من السجن حتى توجّه إلى تبريز مصطحبا معه أخويه وأمه, وهناك كانت الأمور مهيّأة.. فقد كان في انتظاره عشرات الآلاف من مريديه وأنصاره, فلم تمض أيام حتى سار بهم لخوض أول معركة له ضد قاتل أبيه (بايسنقر) وليحقق انتصاراً ساحقاً جعل (رستم) يرتعب ويحسب لهذا القائد الشاب الشجاع ألف حساب.

وقرر يار علي بعد انتصاره هذا التوجه إلى أردبيل مقر آبائه وأجداده لتنظيم معسكره وضمّ من فيها من مريديه وأنصاره إلى جيشه ولتكون مركزه وموقع حكمه, ولكنه لم يصل إليها فقد أرسل رستم وراءه جيشاً للحيلولة دون وصوله إلى أردبيل, واعترضه جيش رستم وجرت معركة انتهت بمقتل يار علي، ولكنه عهد إلى بعض أعوانه المخلصين ــ قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ــ بإيصال أخويه إبراهيم وإسماعيل إلى أردبيل، فلاحقتهم قوات رستم التي استطاعت القبض على إبراهيم وقتله وتمكن الصفويون من إنقاذ الأخ الأصغر ليار علي وهو إسماعيل الذي كان يبلغ من العمر حينها سبع سنوات, والذي سيصبح أول ملك صفوي, فساروا به في الطرق الجبلية وأدغال الغابات حتى وصلوا مدينة (رشت) التي أعلن أهلها عن فرحتهم وتشرفهم باستقبال ابن زعيمهم الصبي على أرضهم.

غير أن مريديه خافوا عليه من هجوم قوات رستم على المدينة وفضلوا نقله إلى مكان أكثر أماناً, فاصطحبوه إلى (لاهيجان) الواقعة في إقليم (جيلان) والتي استقبلته بحفاوة وتكريم بالغين وآواه حاكمها في قصره, ولكن رستم لم يكن ليدع الصبي ليفلت منه فمادام هناك شخص من أسرة صفي الدين فإن عرشه سيبقى مُهدَّداً, ووصلت الأخبار إلى رستم بوجود إسماعيل في لاهيجان فأرسل على الفور وفداً مع قوة لإحضاره, والتقى الوفد بحاكم لاهيجان الذي أقسم لهم أن إسماعيل ليس على أرضه, ولما رجع الوفد من حيث أتى, نزل صبي كان مشدوداً إلى غصن شجرة وقد غطته الأغصان الكثيفة حتى أخفت جسمه تماماً, وهذا الصبي هو إسماعيل الصفوي.

اضف تعليق