q
إن تَقَبُّل تعقيد الألم، وبخاصة الألم المزمن، يمكن أن يفتح الباب أمام طرق جديدة ومبتكرة تجنِّبنا المعاناة حتى وإن تألمنا، تركز الطرق العلاجية -من قبيل طريقة إعادة المعالجة الذهنية للألم- على تقبُّل الألم على طبيعته التي أوضحها العلم، أي باعتباره بنيةً شعوريةً ترتبط بالصدمات بقدر كونه إحساسًا بدنيًّا...
بقلم: حيدر واريش

بينما كنت أمارس بعض تمرينات رفع الأثقال، قبل أكثر من عشر سنوات، عندما كنت طالبًا في كلية الطب، سمعت صوت طقطقةٍ عاليًا، ثم شعرت بجسدي كله يرتخي، وكادـت الأثقال التي كنت أرفعها تسحقني، وإذ أطبق الألم على جسدي كله، كشقَّي الرحى، نُقلت على وجه السرعة إلى غرفة الطوارئ، حيث أُعطيتُ حقنةً مسكّنة في الوريد، وقيل لي إن الألم سيختفي في النهاية، غير أن الألم لم يختفِ، وما عرفته عن الألم، منذ تلك اللحظة، جعلني أتشكك جديًّا في الطريقة التي نشخِّص بها الألم ونعالجه.

أصبحت طبيبًا الآن، وفي غمرة بحثي عن المادة العلمية اللازمة لتأليف كتابٍ عن الألم، بدأت أفهم أن تحوُّل الألم الحاد في ظهري من جرَّاء الإصابة إلى ألمٍ مزمنٍ لا يهدأ، سببه على الأرجح يكمُن في مخي؛ فالأسباب التي تتحكم في تحوُّل الأوجاع المؤقتة إلى آلامٍ مبرحة مستمرة لا تُعزى إلى علم التشريح فقط، بل إلى علم النفس كذلك في كثير من الأحيان، ومن الممكن أن يؤدي إدراكنا للألم –وخوفنا منه أيضًا– دورًا هائلًا في نتائج المعالجات الإكلينيكية، لكن بعيدًا عن التقليل من أهمية خبرات الأشخاص، فإن هذا الفهم لدور المخ في الشعور بالألم يفتح الباب أمام علاجات قد تستطيع في نهاية المطاف أن تقدم مساعدةً (دائمة) لملايين الأشخاص، ممن يعيشون في عذاب لا نهاية له.

بصفتي طبيبًا، أعرف أن نهجنا التقليدي في الطب يركز على إيجاد تفسيرات ميكانيكية وتشريحية للألم المزمن؛ فعلى سبيل المثال، أبلغني الأطباء أن المسح الذي أُجري على ظهري بالرنين المغناطيسي أظهرَ أنني أعاني من تشوهاتٍ بالغة الشدة، لا يُتوقع وجودها في شاب مثلي (كنت وقتها في العشرين من عمري)، وهكذا أصبحتُ تلك "الحالة المرضية التي تثير اهتمام الأطباء" وخوفَ المرضى، والتي تُناقَش في الاجتماع الأسبوعي لقسم الأشعة، كانت عظامي تتآكل، وأصيبت عدة غضاريف في عمودي الفقري بالتلف، وفي ظل غياب أي ندوب بادية، أو تشوهات جلية ظاهريًّا، كانت فحوص الرنين المغناطيسي هي الدليل الوحيد على سبب تحوُّل إصابتي الحادة إلى عذابٍ لا ينتهي.

عادةً ما يُعَرَّف الألم المزمن بأنه الألم الذي يؤثر على شخصٍ ما، على نحوٍ متكرر، لمدة ثلاثة أشهر أو أكثر، وقد طال الألم الذي أعانيه إلى ما يفوق هذه الفترة بسنواتٍ عديدة، لم أكن أرغب في تناول المسكنات، وركزت كل طاقتي على العلاج الطبيعي، بمرور الوقت شعرت بالتحسُّن فيما يتعلق بالألم، لكن قصتي حول نشأة هذا الألم –أي الإصابة التي تعرضتُ لها والتشوهات الناتجة عنها، كما أظهرها التصوير بالرنين المغناطيسي– لم تكن لها علاقةٌ تُذكر بالألم الذي ظللت أشعر به لمدة سنوات بعد ذلك، فكما أخبرني فانيا أبكاريان، أحد الباحثين الرواد على مستوى العالم في مجال الألم: "تتلخص الفكرة النمطية في أن الإصابة إذا كانت شديدةً بما يكفي فسوف تدوم"، وأضاف: "لكن الإصابة بحد ذاتها لا قيمة لها".

رغم أن التصوير بالرنين المغناطيسي يُعد وسيلةً موثوقًا بها للكشف عن الإصابات، فإنه ليس بالوسيلة التي يمكن الاعتماد عليها لاكتشاف الألم، على سبيل المثال، وجدت مراجعة للدراسات –شملت صور أشعة أُجريت لحوالي 3000 شخص لا يعانون من أعراض ألم الظهر– أن نسبة 37% من الأشخاص البالغ عمرهم 20 سنة ولا يشكون من ألم الظهر مصابون بتآكل الغضاريف، وأن 30% منهم لديهم غضاريف بارزة من مواضعها، يُفترَض أن تُفضي هذه التشوهات إلى الشعور بالألم، ومع ذلك لم تتسبب في إحداث ألمٍ لدى هؤلاء الأشخاص، هذه التشوهات التي تُظهرها صور الأشعة الطبية تتفاقم مع تقدم العمر؛ إذ كشفت المراجعة عن إصابة 96% ممن هم في سن الثمانين بتآكل الغضاريف، ووجود غضاريف بارزة لدى 84% منهم، وحتى لدى الأشخاص الذين يعانون من آلام الظهر، لم تكن هناك علاقة على الإطلاق بين ما أظهره التصوير بالرنين المغناطيسي من عيوب في العمود الفقري وشعورهم بالألم، بعبارة أخرى، لا يستطيع التصوير بالرنين المغناطيسي أن يكشف لنا عما يؤلم وما لا يؤلم، وقد غيرتْ هذه البيانات رأيي، وقلبت حساباتي.

نحن أمام قضية مهمة بالفعل؛ ففي الولايات المتحدة وحدها، يُجري ملايين الأشخاص مسحًا بالرنين المغناطيسي والأشعة المقطعية؛ لمعرفة مصدر ألم الظهر، الذي يُعد أكثر أسباب الإصابة بالعجز شيوعًا حول العالم، أغلب هذه الفحوص لم يعد مناسبًا؛ لأن الإرشادات الطبية حاليًّا لا توصي بإجراء الفحوص التصويرية بشكل روتيني في حالات الأشخاص المصابين بألم الظهر، ورغم ذلك بينت دراسةٌ حديثةٌ أن 5% فقط من الفحوص بالرنين المغناطيسي التي أوصى بها الأطباء المعالجون للكشف عن ألم الظهر كانت مناسبة، وأن 65% ممن أُجريت لهم هذه الفحوص تلقوا بسببها نصائح طبية يُحتمل أن تكون ضارة، من ضمنها توصيات بإجراء جراحة في الظهر.

جراحة العمود الفقري هي واحدة من أكثر العمليات الجراحية شيوعًا في الولايات المتحدة والعالم، لكنها قد تُسفر عن آثار مدمرة؛ ففي إحدى الدراسات التي تناولت أشخاصًا يعانون من ألم الظهر المزمن، تبيَّن أن 26% فقط ممن أُجريت لهم جراحةُ دمْجِ الفقرات تمكنوا من العودة إلى عملهم، في حين تمكّن 67% من الأشخاص الذين لم تُجرَ لهم العملية من العودة إلى العمل، كان الأشخاص الذين اختاروا الجراحة أكثر تعرُّضًا أيضًا لظهور المضاعفات والإصابة بالعجز الدائم، مقارنةً بالأشخاص الذين لم تكن الجراحة اختيارَهم، كان ممكنًا أن أكون واحدًا من هؤلاء، فعندما عَرَضتُ صور أشعة الرنين المغناطيسي الخاصة بي على الجراح الشهير آثر إينام، قال لي إن العملية الجراحية قد تُفضي إلى تفاقُم حالة ظهري، وأضاف: "يمكنني أن أُجري لك الجراحة، لكن العمود الفقري الذي يلمسه مبضع الجَرّاح لن يعود أبدًا كما كان".

إذا كان علم التشريح لا يفسر سبب تحوُّل الألم العارض إلى ألمٍ مزمن، فما الذي يفسره إذًا؟ تَبينَ أن جزءًا على الأقل من السبب يوجد في الرأس.

أحد الأسباب الرئيسية التي تقف وراء ديمومة الألم في أجسامنا هو حالتنا النفسية، فالأشخاص الذين يخافون من التعرُّض للألم، أو الذين يشعرون بالقلق من إمكانية الوقوع فريسةً للألم تبلغ احتمالية إصابتهم بالألم المزمن بعد خضوعهم للجراحة ضعف احتمالية غيرهم، وبينت دراسةٌ من فنلندا، نُشِرَتْ في إبريل 2022، أن الكرب النفسي يؤدي دورًا ملموسًا في ظهور آلام الظهر أو اختفائها لدى الأشخاص المصابين بتآكُل الفقرات، وفي واقع الأمر، أظهرت دراسةٌ صغيرةٌ شملت 84 شخصًا أن الأحداث الفاجعة التي مر بها الشخص في الماضي، كالتعرض للسرقة، أو التنمر، أو الانتهاك الجنسي، تُعد أقوى المؤشرات الدالة على احتمال تحوُّل ألم الظهر إلى ألمٍ مزمن، حتى خوف المرء المبكر من أن يصبح الألم دائمًا يصير دافعًا لتحقُّق هذا الخوف مستقبلًا.

ينزع الطب الإكلينيكي والخطاب المجتمعي غالبًا إلى الفصل بين العقل والجسم، وبين الإحساس والشعور، وبين البيولوجيا وعلم النفس، لكن الطبيعة البشرية تميل إلى الاختلاف مع هذا الطرح، الحقيقة أن أوجه الفصل هذه تتهاوى على نحوٍ ملحوظ فيما يتعلق بالألم؛ فكما تشير بحوث أبكاريان، يصاحب تحوُّل الألم الحاد إلى ألمٍ مزمن تنشيط أجزاءٍ من المخ، مسؤولة عن المشاعر أكثر من الأحاسيس البدنية.

وفي هذا السياق، كشفت تجربة إكلينيكية حديثة، نُشرت نتائجها في دورية «جورنال أوف ذي أميريكان ميديكال أسوسييشن: سيكاتري» Journal of the American Medical Association: Psychiatry عن مدى قوة العلاجات التي تستهدف شعورنا حيال الإحساس بالألم، في هذه الدراسة –التي قادها يوني آشر، بالاشتراك مع تور واجر، العالِم الذي اكتشف البصمة العصبية المميزة للألم في المخ– قُسم المرضى الذين يعانون ألمًا مزمنًا في أسفل الظهر إلى ثلاث مجموعات، تلقت المجموعة الأولى الرعاية الصحية المعتادة، التي تشمل في الغالب تعاطي أدوية تسكين الألم، وتلقِّي العلاج الطبيعي، أما أفراد المجموعة الثانية فأخبرهم الباحثان أنهم يتلقون علاجًا وهميًّا (والعلاج الوهمي يمكن أن يكون فعالًا إلى حدٍّ ما لألم الظهر)، في حين خضع أفراد المجموعة الثالثة لما يُعرف بإعادة المعالجة الذهنية للألم، وهي طريقة علاجية يتعلم الأشخاص من خلالها أن المخ يستطيع أن يخلق الألم المزمن، حتى في ظل غياب أي إصابةٍ مؤثرة، وأن إعادة تعريف التهديد الذي يمثله الألم تعني ببساطة أن تقلل الألم أو تستأصل شأفته، يستهدف ذلك المنهج العلاجي تجريد الألم المزمن من أكثر أسلحته مَضاءً، ألا وهو الخوف، كانت نتائج الدراسة لافتةً إلى حدٍّ كبير؛ فإن 52% من أولئك الأشخاص الذين أُخضِعوا لإعادة المعالجة الذهنية للألم مرتين أسبوعيًّا، لمدة شهر، استطاعوا التخلص من الألم تمامًا في غضون سنة، في حين بلغت هذه النسبة 27% بين مَن تلقوا العلاج الوهمي، و16% في حالة تلقِّي الرعاية الصحية المعتادة، كذلك شعر المرضى بقدرٍ من التحسُّن، فيما يتعلق بالعجز، والغضب، والنوم، والاكتئاب.

إن تَقَبُّل تعقيد الألم، وبخاصة الألم المزمن، يمكن أن يفتح الباب أمام طرق جديدة ومبتكرة تجنِّبنا المعاناة حتى وإن تألمنا، تركز الطرق العلاجية -من قبيل طريقة إعادة المعالجة الذهنية للألم- على تقبُّل الألم على طبيعته التي أوضحها العلم، أي باعتباره بنيةً شعوريةً ترتبط بالصدمات بقدر كونه إحساسًا بدنيًّا، إن هذا القبول التام لطبيعة الألم لا يجعلنا نستهين به على الإطلاق، بل يشجعنا على بذل المزيد من الجهود؛ كي نضمن أن يتلقَّى كل شخص يتألم معاملةً قوامُها الرفق والاحترام، وأن تتاح له سبلٌ علاجيةٌ أكثر من الأدوية والعمليات الجراحية، في أثناء رحلته نحو الشفاء.

اضف تعليق