q
ليس الجوع وحده الذي لا ضمير له، بل إن نقص جودة الغذاء -حتى لو كان الغذاء وفيرًا- يمكن أن يدخل في دائرة غياب الضمير؛ إذ يؤكد علماء تكنولوجيا الأغذية ضرورة خلو الغذاء من أي مواد غير مرغوب فيها، خاصةً المواد الكيماوية ذات التأثيرات السامة التي تضر بصحة المستهلك...
بقلم: محمد أبو زيد

ليس الجوع وحده الذي "لا ضمير له"، بل إن نقص جودة الغذاء -حتى لو كان الغذاء وفيرًا- يمكن أن يدخل في دائرة "غياب الضمير"؛ إذ يؤكد علماء تكنولوجيا الأغذية ضرورة "خلو الغذاء من أي مواد غير مرغوب فيها، خاصةً المواد الكيماوية ذات التأثيرات السامة التي تضر بصحة المستهلك"، و"نقاوة الغذاء" بما يضمن خلوه من أي مواد غريبة حتى لو كانت غير ضارة مثل بقايا القشور والبذور، والاهتمام بمدة صلاحية الأغذية، واحتفاظ المواد الغذائية بخصائصها الوظيفية وقيمتها الغذائية وطرق الحفظ والتخزين بما يضمن احتواءها على العناصر والمكونات الغذائية ذات الأهمية الحيوية للمستهلك.

كما يحذر تقرير "حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم" لعام 2020 من أن نقص جودة الغذاء وتنامي معدلات الجوع وتدهور الأمن الغذائي والحالة التغذوية يطارد الفئات السكانية الأكثر ضعفًا، مؤكدًا أن "نحو 690 مليون شخص عانوا الجوع في عام 2019، بزيادة قدرها 10 ملايين نسمة مقارنةً بعام 2018، وبحوالي 60 مليون نسمة خلال فترة خمس سنوات".

أضف إلى ذلك قضية "الجوع الخفي"، التي تشير إلى المعاناة من نقص بعض العناصر الغذائية الصغرى (مثل المعادن والفيتامينات)، وهي مشكلة سائدة في عديد من بلدان القارة الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى.

من هنا تأتي أهمية الدراسة التي نشرتها دورية "نيتشر فوود" (Nature Food) مؤخرًا، والتي حذرت من أن 26% من إجمالي الوفيات حول العالم سببها نقص جودة الغذاء، مشيرةً إلى أن "جودة الغذاء العالمي لم تتحسن كثيرًا في الفترة من عام 1990 وحتى عام 2018"، وهي الفترة التي حددتها الدراسة لقياس مدى التغيُّر في جودة الغذاء عبر قاعدة بيانات الغذاء في 185 دولة حول العالم.

جودة الغذاء

يختص مصطلح جودة الغذاء بـ"المتطلبات المعنية بخصائص الغذاء وصفاته التي تتعلق بالطعم والرائحة والمظهر والقيمة الغذائية والحمولة الميكروبية".

ووفق الدراسة، التي أجراها باحثون من جامعة "تافتس" الأمريكية، فإن "جودة النظام الغذائي متواضعة في جميع أنحاء العالم، على الرغم من التقدم الكبير في مجال علوم التغذية".

واستثنت الدراسة وسط أوروبا وآسيا من انخفاض مستوى جودة الغذاء، مُرجعةً ذلك إلى "ارتفاع مستوى دخل الفرد وتحسُّن مستوى جودة الغذاء بالنسبة للأطفال في تلك المناطق"، في حين انخفضت هذه الجودة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ حيث يعاني أطفال الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من "جودة غذائية منخفضة".

وكشفت الدراسة أن درجات جودة النظام الغذائي على مستوى العالم كانت أعلى بين النساء مقابل الرجال، مضيفةً أن "جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء من الأماكن التي لم تتحسَّن فيها جودة الغذاء خلال العقود الثلاثة الماضية".

مؤشرات متنوعة

تم تقييم النتائج بشكل أكبر وفق العمر والجنس والتعليم والتحضُّر داخل كل بلد، واستند الباحثون إلى مؤشرات متنوعة مثل "مؤشر الأكل الصحي البديل"، وهو مقياس معتمد لجودة النظام الغذائي؛ إذ وضعوا درجات تتراوح بين صفر و100 درجة لتحديد جودة الغذاء، بحيث يكون الرقم صفر مؤشرًا على أدنى درجات جودة معايير الطعام الصحي، في حين يشير الرقم 100 إلى أعلى معايير الطعام الصحي.

كما اعتمد الباحثون على "النظام الغذائي المتوسطي"، الذي يُعرف أيضًا بـ"حمية البحر المتوسط"، وهي حمية غذائية تتبنى العادات الغذائية الصحية التي يتبعها سكان دول منطقة البحر المتوسط ضمن حميتهم الغذائية التقليدية، التي تركز على تناوُل الخضراوات، والبقوليات، والأسماك، وزيت الزيتون، مقابل التقليل من تناول أنواع معينة من الأطعمة، مثل اللحوم، والحلويات.

واستند الباحثون أيضًا إلى نظام "داش" (DASH)، ويُقصد به "الأنظمة الغذائية لوقف ارتفاع ضغط الدم"؛ إذ تركز هذه الأنظمة على تناول الأطعمة الصحية، وهي مصممة للمساعدة في علاج ارتفاع ضغط الدم أو الوقاية منه.

وتحتوي "الأنظمة الغذائية لوقف ارتفاع ضغط الدم" على أطعمة غنية بالبوتاسيوم والكالسيوم والمغنسيوم، وتساعد هذه العناصر المغذية في التحكم بضغط الدم، كما تقوم أيضًا على تجنُّب الأطعمة التي تحتوي على نسبة مرتفعة من الصوديوم والدهون المشبّعة والسكريات المضافة.

نتائج صادمة

وكشفت نتائج الدراسة أن "مؤشرات متوسط جودة الغذاء حول العالم سجلت 40.3% في عام 2018، وأنها لم تتحسن كثيرًا عما كانت عليه قبل 30 عامًا، وأن متوسط الأكل الصحي في بلدان أمريكا اللاتينية أقل من المتوسط العالمي؛ إذ بلغ 30%".

وأظهرت نتائج الدراسة أن "الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك ومصر جاءت في ذيل قائمة الدول بالنسبة لجودة الغذاء، وأن الأمريكيين هم الأسوأ في مجال التغذية"، مضيفةً أنه "على الرغم من ارتفاع مستوى الطعام الصحي في الولايات المتحدة بمقدار 4%، إلا أنها ما زالت الأسوأ على مستوى العالم، في حين تُعَد إيران والهند وإندونيسيا أعلى الدول في مجال جودة الغذاء والطعام الصحي".

وربطت الدراسة بين النظم الغذائية السيئة والإصابة بالسمنة وأمراض ضغط الدم، مشيرةً إلى أن "حالة وفاة من بين كل 4 وفيات حول العالم يمكن إرجاعها إلى سوء التغذية".

واعتبرت الدراسة أن "الأطعمة الصحية تتمثل في البقوليات والمكسرات والحبوب الكاملة والمأكولات البحرية الغنية بالأحماض الدهنية وأوميجا 3 والخضراوات غير النشوية، في حين تأتي المشروبات المحلاة بالسكر واللحوم في قائمة الأطعمة الأقل جودةً وغير الصحية".

وأوضح الباحثون أن "10 دول فقط في العالم حصلت على درجات أعلى من 50 درجة من مستوى جودة الغذاء، وأن هذا الرقم يمثل أقل من 1% من سكان العالم، وأن الأشخاص ذوي التعليم العالي والأكثر ثراءً –اجتماعيًّا واقتصاديًّا- يأكلون طعامًا صحيًّا مقارنةً بغيرهم".

فيتنام والهند وإيران وإندونيسيا

اللافت للنظر أن فيتنام والهند وإيران وإندونيسيا سجلت أفضل درجات في مجال جودة الغذاء مقارنةً بباقي دول العالم؛ إذ سجلت درجات تحسُّن جودة الغذاء ما بين 54.5 إلى 48.2 درجة، وذلك على الرغم من أن الهند هي ثاني أكبر دولة في العالم في عدد السكان وتعاني من الفقر، وإيران تواجه عقوبات دولية.

تُرجع "فيكتوريا ميلر" -الأستاذ الزائر بكلية فريدمان لعلوم التغذية بجامعة تافاتس، والأستاذ بكلية الطب جامعة ماكماستر بكندا، والباحث الرئيسي في الدراسة- تَقدُّم تلك الدول بالرغم من الصعوبات التي تواجهها إلى "انخفاض استهلاك الأطعمة غير الصحية، مثل المشروبات المحلاة بالسكر واللحوم الحمراء المصنعة والصوديوم".

تقول "ميلر" في تصريحات لـ"للعلم": ومع ذلك، فإن استهلاك الأطعمة ذات المكونات الصحية -مثل الفاكهة والخضراوات غير النشوية والبقوليات والمكسرات ودهون المأكولات البحرية وأوميغا 3 والدهون المتعددة غير المشبعة- كان أيضًا بعيدًا عن المستوى الأمثل في هذه الدول، والتركيز الرئيسي على السياسات والابتكارات لزيادة المنتجات والمأكولات البحرية والزيوت النباتية سيكون له تأثيرٌ أكبر على تحسُّن جودة النظام الغذائي في هذه البلدان.

وردًّا على سؤال لمجلة "للعلم" حول كيفية الارتقاء بجودة الغذاء ودور الدول والشعوب في تحقيق ذلك، تقول "ميلر": الغذاء السيئ له آثارٌ ضارة على صحة الإنسان وصحة الكوكب، وتُظهر النتائج التي توصلنا إليها أن هناك حاجةً إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لتحسين الجودة الغذائية العالمية والإقليمية والوطنية.

وتتابع: هناك حاجة إلى اتباع سياسات متعددة القطاعات لتحسين جودة النظام الغذائي، تتضمن دعم أسعار الأطعمة الصحية وفرض ضرائب على المشروبات المحلاة بالسكر والملح، وصرف حوافز تصنيع لتطوير الأغذية الصحية وتسويقها، ووضع علامات تحذيرية على عبوات المواد الغذائية المضرة، وفرض قيود على تسويق الأغذية المتعلقة بالأطفال، وزيادة التركيز على معايير التغذية لبرامج التغذية الحكومية والوجبات المدرسية.

الولايات المتحدة والمكسيك ومصر

ربما بدا محيرًا ذلك التشابُه الذي جمع بين "البرازيل والمكسيك والولايات المتحدة الأمريكية ومصر"، وهي الدول التي جاءت في ذيل قائمة الطعام الجيد والصحي، مسجلةً درجات تراوحت بين 27.1 إلى 33.5 درجة، على الرغم من التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين تلك البلدان.

تفسر "ميلر" ذلك الأمر قائلةً: في الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك ومصر، أدت زيادة تناول الفاكهة والخضراوات غير النشوية والبقوليات والمكسرات والحبوب الكاملة إلى تحسين الجودة الغذائية بمرور الوقت، ولكن استهلاك تلك الدول للحوم الحمراء واللحوم المصنعة والمنتجات التي تحتوي على الصوديوم كان سببًا رئيسيًّا في تذيُّلها لقائمة الدول التي تُقبِل على الطعام الصحي.

وتابعت: تشير هذه النتائج إلى أن التركيز المزدوج على زيادة الأطعمة الصحية (الفواكه والخضراوات والزيوت النباتية) وتقليل الأطعمة غير الصحية (المشروبات المحلاة بالسكر والصوديوم) ضروري لتحسين جودة النظام الغذائي.

علاقة طردية

تتفق نتائج الدراسة مع ما انتهت إليه دراسات سابقة من وجود "علاقة طردية بين سوء التغذية والطعام غير الصحي وزيادة نسبة الوفيات الناتجة عن أمراض تسبَّب فيها الطعام غير الصحي"، ومنها دراسة نشرتها دورية "نيوتريشن ريفيوز"، محذرةً من أن "التحول نحو زيادة الاعتماد على الأطعمة المصنعة، والابتعاد عن الأطعمة المنزلية، وزيادة استخدام زيوت الطعام والمشروبات المحلاة بالسكر، فرض نفسه على العالم منذ سبعينيات القرن الماضي".

وأضافت الدراسة أن "تلك النظم الغذائية تزامنت مع انخفاض النشاط البدني وزيادة وقت الجلوس، وأن هذه التغيرات الغذائية زادت في أوائل تسعينيات القرن الماضي في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط ولكنها لم يُتعرف عليها بوضوح حتى بدأت أمراض مثل السكري وارتفاع ضغط الدم والسمنة في السيطرة على العالم".

وأثبتت الدراسة ما أكدته دراسة جامعة "تافتس" من أن "المناطق الحضرية والريفية من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وجنوب آسيا شهدت زياداتٍ سريعةً في حالة زيادة الوزن والسمنة وأمراض ضغط الدم؛ بسبب انخفاض جودة الغذاء في تلك المناطق".

العودة إلى الطبيعة

من جهتها، تقول "نيرمين حنفي" –أخصائية التغذية العلاجية- في تصريحات لـ"للعلم": إن هناك بعض الأطعمة المفيدة والمغذية والصحية مثل البقوليات كالفول والعدس وسمك الماكريل الغني بأوميجا 3.

تفسر "حنفي" تذيُّل أمريكا لقائمة الدول الأسوأ في مجال الطعام الصحي قائلةً: إن الولايات المتحدة الأمريكية تُعد دولة الوجبات السريعة وأخطرها البرجر واللحوم المصنعة التي تسبب أمراضًا خطيرة مثل السمنة والسرطان، وفي الماضي كنا نحصل على القيمة الغذائية الكاملة للقمح، واليوم نقشر القمح، ما يُفقده 50% من قيمته.

وأكدت "حنفي" "ضرورة أداء الحكومات لدورها من أجل تحقيق جودة الغذاء، وإصدار قوانين رادعة لمنع اللحوم المصنعة، ونشر الوعي فيما يتعلق بالعودة إلى الطبيعة وعدم تقشير القمح والأرز، والابتعاد عن أسماك المزارع، وتجنُّب الوجبات السريعة التي تؤدي إلى زيادة الكوليسترول في الدم والسمنة المفرطة، والابتعاد عن استخدام الزيوت المهدرجة التي تؤدي إلى الإصابة بالسرطان".

بدوره، يتفق محمد المالكي -أستاذ طب الأطفال ورئيس وحدة المناعة بجامعة الزقازيق- مع ذهبت إليه الدراسة، مضيفًا في تصريحات لـ"للعلم": الطعام الصحي الجيد من أهم الأشياء التي تقوي مناعة الإنسان، في حين يؤدي الطعام غير الصحي إلى زيادة نسبة الكوليسترول ويجعل الإنسان أكثر تعرُّضًا للإصابة بأمراض القلب وضغط الدم والسمنة والمخ والأعصاب، وهذه النوعية من الأطعمة المصنعة وغير الصحية توفر بيئةً حاضنةً لارتفاع نسب الوفيات.

اضف تعليق