q
استطاع فريق من الباحثين الوقوف على أنماط من التغيّرات التي تطرأ على الحمض النووي البشري، والتي من شأنها أن ترشدنا إلى الأسباب الجينية والبيئية التي تؤدِّي إلى الإصابة بمرض السرطان. وقد أسفر الفريق النقاب عنها من خلال فرز مئات الملايين من الطفرات، الكامنة في جينومات ما يزيد على 12 ألف ورم سرطاني...
بقلم: هايدي لدفورد

استطاع فريق من الباحثين الوقوف على أنماط من التغيّرات التي تطرأ على الحمض النووي البشري، والتي من شأنها أن ترشدنا إلى الأسباب الجينية والبيئية التي تؤدِّي إلى الإصابة بمرض السرطان. وقد أسفر الفريق النقاب عنها من خلال فرز مئات الملايين من الطفرات، الكامنة في جينومات ما يزيد على 12 ألف ورم سرطاني.

وتُعد هذه الدراسة، التي نُشرتها على الإنترنت دورية «ساينس» Science، في الحادي والعشرين من إبريل الماضي، الأكبر من نوعها (A. Degasperi et al. Science 376, eable9283; 2022). وهي تضيف عشرات المُدخَلات إلى قائمة متنامية من «البصمات الطفرية» المرتبطة بالإصابة بمرض السرطان، والتي يمكن أن تساعد الأطباء، في بعض الحالات، على اختيار أفضل العلاجات لمرضاهم.

ويلعب حجم عينة الدراسة دورًا مهمًا في مثل هذه الأبحاث، حسبما تقول نوريا لوبيز-بيجاس، المتخصصة في علم بيولوجيا الأورام السرطانية الحاسوبي، من معهد بحوث الطب في برشلونة بإسبانيا، مشيرة إلى ما كشفت عنه الدراسة الجديدة من أنماط نادرة للطفرات، لم يكن بالإمكان رصدها من خلال دراسات مجموعات البيانات الأصغر حجمًا، فتقول لوبيز-بيجاس: "عندما يتوفر لديك هذا العدد الهائل من الجينومات الكاملة، تزيد قدرتك على الوصول إلى مجموعات أكثر شمولًا من البصمات الطفرية"، مستدركة: "لكننا لا نزال في بداية الطريق. والنتائج التي بين أيدينا تبشر بتحقيق الكثير في مساحات التشخيص، وعلى صعيد الوصول إلى فهم أفضل للطريقة التي تكوَّنت بها تلك الأورام".

يمكن للخلية السرطانية الواحدة أن تضمَّ آلاف الطفرات، بل قد يزيد عدد هذه الطفرات أحيانًا على المليون، لكن حفنة منها تسهم، بشكل مباشر، في نشوء الأورام السرطانية. وقد عكف باحثون لسنوات على فحص البيانات الجينومية بدقة، بحثًا عن طفرات مُسبِّبة للسرطان، أملًا في أن تساعدهم هذه الطفرات على تطوير علاجات للمرض.

ويعي العلماء جيدًا أن أنواع الطفرات الأخرى قد تحمل بداخلها معلومات قيمة. فبعض العوامل المسببة للسرطان تُحدِث أنماطًا مُمَيِّزةً للورم في الحمض النووي. فعلى سبيل المثال، يمكن للضوء فوق البنفسجي أن يؤدِّي إلى انتزاع قاعدة السيتوزين (إحدى القواعد النيوكليوتيدية في الحمض النووي أو الحروف المكونة له، وإحلال قاعدة أخرى محلها، هي الثايمين، في مواضع مُحددة من الجينوم). وتحدث هذه التغيرات عادة في الأورام الميلانينية.

ويمكن تشبيه أنماط الطفرات تلك بآثار أقدام على رمال شاطئ، حسبما تقول سيرينا نِك-زاينال، المتخصصة في البيولوجيا الحاسوبية من جامعة كمبريدج بالمملكة المتحدة، والمشاركة في الدراسة المنشورة في دورية «ساينس»، والتي توضح ذلك قائلة: "تبدو آثار الأقدام على الرمال عشوائية أحيانًا، لكنها ليست كذلك. فثمة سبب محدّد أدَّى إلى وجودها. وبفحصها بدقة، يمكننا تمييز صاحبها عن غيره، كأن نميّز الإنسان عن الحيوان، أو الكلب عن الطائر، أو حتى الشخص البالغ عن الطفل. بل يمكننا معرفة ما إذا كان أصحاب هذه الآثار يمشون، أم يركضون".

في السابق، نُشرت في عام 2020 أكبر دراسة تناولت البصمات الطفرية. وفيها، حلَّل فريق بحثي قرابة 5 آلاف من التسلسلات الجينومية الكاملة، والمأخوذة من عيّنات أورام جمعها علماء من جنسيات مختلفة في عدد من دول العالم (L. B. Alexandrov et al. Nature 578, 94–101; 2020).

أما الدراسة الجديدة، فقد حلَّل باحثوها بيانات أكثر من 12 ألف من جينومات الأورام السرطانية، جمعتها هيئة الخدمات الصحية الوطنية في المملكة المتحدة، كجزء من مشروع المائة ألف جينوم في إنجلترا. بعد ذلك، استخدم الفريق البحثي تلك البيانات التي نُشِرت قبلًا للتحقق من صحة اكتشافاتهم. وقد شمل ذلك تطوير أدوات جديدة لتحليل البيانات، وبناء خوارزمية قادرة على تناوُل مئات الآلاف من الطفرات بالدراسة، حسب قول أندريا ديجاسبيري، المتخصص في البيولوجيا الحاسوبية من جامعة كمبريدج، وأحد المؤلفين المشاركين في هذه الدراسة.

وقد أسفر هذا العمل البحثي، الذي شمل عيّنات من 19 نوعًا من الأورام، عن اكتشاف عشرات البصمات الطفرية المُمَيِّزة لهذه الأورام، والتي لم تكن معروفة من قبل، وأمكن عزو بعضها إلى أوجه قصور في آليات محددة تسلكها الخلية لإصلاح الحمض النووي.

ويمكن القول حاليًا إن الباحثين قد رصدوا تقريبًا جميع البصمات الطفرية الشائعة، على حد ما أفاد به ديفيد سوتس، المتخصص في بيولوجيا الأورام السرطانية، من مركز بحوث العلوم الطبيعية في بودابست. والذي أضاف قائلًا: "من المستبعد، على ما يبدو، أن تكون الآليات البيولوجية الأساسية وراء حدوث الطفرات قد أُغفلت في هذه المرحلة". بيد أن البحث عن بصمات طفرية نادرة، توجد في أقل من 1% من الأورام داخل عضو معين، سيستمر على الأرجح، خاصة في ظل ما يشهده العالم من ازدهار للبحوث الخاصة بجينومات الأورام السرطانية.

وإضافة إلى استكشاف مزيد من البصمات الطفرية، يأمل ديجاسبيري في أن يتمكَّن من تتبُع أصول البصمات الطفرية الأكثر غموضًا، التي لم يتمكن العلماء بعد من اكتشاف العلاقة بينها وبين أحداث بيولوجية مسببة لبعض الأورام السرطانية. ويعتزم ديجاسبيري أيضًا دراسة أنواع أخرى من التغيرات الوراثية. فالدراسة الحالية ركزت على تغيرات طفيفة، ينحصر نطاق حدوثها بين قاعدة نيوكليوتيدية (حرف واحد من الحمض النووي) وثلاثة قواعد (ثلاثة حروف منه). إلا أنه من المعروف أن تغيرات الحمض النووي تكون أوسع نطاقًا، إذ يمكن أن تُمحَى تتابعات معينة لقواعد نيوكليوتيدية بالحمض النووي، أو تُغرَس تتابعات إضافية، أو يُعاد ترتيب هذه القواعد النيوكليوتيدية في مقاطع كبيرة من شريط الحمض النووي.

ويبقى الأمل معقودًا، حسب رأي ديجاسبيري، على أن تتمكّن تلك الدراسات في نهاية المطاف، من التوصل إلى علاجات للسرطان، يمكن مواءمتها لتناسب حالة كل مريض. ويضيف: "عندما نصل إلى فهم جيّد لآلية حدوث الورم، يصبح بإمكاننا فهم العلاقة الممكنة بينه وبين العقاقير.

اضف تعليق