q
بعد مرور أكثر من عامين على اندلاع جائحة «كوفيد-19»، لا يزال العلماء في حالة من الحيرة بشأن أحد الأسئلة الأساسية: هل ثمة شيء يمكن قياسه لمعرفة إذا كان الأشخاص يتمتعون بالحماية ضد مرض كوفيد؟ لنجيب عن هذا السؤال.. ينبغي علينا إجراء اختبارات وتجارب موسعة نتمكن عبرها من تحديد مستويات الخلايا المناعية التائية...
بقلم إستر لاندهيوس

بعد مرور أكثر من عامين على اندلاع جائحة «كوفيد-19»، لا يزال العلماء في حالة من الحيرة بشأن أحد الأسئلة الأساسية: هل ثمة شيء يمكن قياسه لمعرفة إذا كان الأشخاص يتمتعون بالحماية ضد مرض «كوفيد»؟

يطلق الباحثون على هذه القياسات: «ارتباطات الحماية»، وهي مؤشرات تبين ما إذا كان من غير المرجّح لشخصٍ ما أن يصاب بصورة شديدة من المرض حال إصابته بأحد المُمْرضات مثل «سارس-كوف-2» المُسبب لمرض «كوفيد-19».

وحتى هذه اللحظة، ركزت البيانات بصورة كبيرة على معيار وحيد، يتمثل في الأجسام المضادة المُحيِّدَة؛ وهي بروتينات متخصصة تنتجها خلايا دم بيضاء، يُطلَق عليها الخلايا البائية، عقب إصابة الأشخاص بالعدوى أو بعد تلقِّي التطعيم، وتؤدي هذه البروتينات دورًا مُساعِدًا في الدفاع عن الجسم ضد الأمراض المستقبلية، عن طريق منع دخول الفيروسات إلى الخلايا.

لكن هذه الحماية سالفة الذكر لا تدوم مدةً طويلة؛ فمستويات الأجسام المضادة تبدأ في الانخفاض خلال بضعة أشهر، ورغم ذلك، يقول عالِم المناعة إي. جون ويري، من جامعة بنسلفانيا: "نحن لا نلاحظ ارتفاعًا في عدد الحالات التي تضطر إلى دخول المستشفيات بالسرعة نفسها التي تنخفض بها الأجسام المضادة".

يشير ويري، وغيره من الخبراء، إلى أن خلايا الذاكرة التائية هي أحد المصادر الرئيسية لحماية الأفراد الذين أصيبوا بالعدوى في السابق، لكن هذه الخلايا المناعية المستديمة لا تمنع العدوى بالضرورة، وإن كانت تحول -على الأقل- دون تفاقُم الأعراض الخفيفة للمرض، ويكون بمقدور تلك الخلايا تحقيق ذلك من خلال التعرُّف على أجزاء من الفيروس، أو غيره من الغزاة الآخرين للجسم، ثم تنشيط العمليات التي تساعد الخلايا المناعية الأخرى أو تُدمر الخلايا المصابة.

وبالنظر إلى مدة استمرار الخلايا التائية، فإن مستوياتها التي تُقاس عند أعداد كبيرة من الأشخاص عقب التعرُّض للإصابة، أو تلقِّي التطعيم، يمكن أن تساعدنا في تحديد أحد ارتباطات الحماية، وفي واقع الأمر، أرسل ويري، ومعه عشرات من الباحثين والأطباء وممثلي التكنولوجيا البيولوجية، رسالةً إلى إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، في الحادي والعشرين من أبريل الماضي، يحثون الإدارة فيها على مراقبة مستويات وفرة الخلايا التائية، جنبًا إلى جنبٍ مع مستويات الأجسام المضادة، وذلك لتقييم المناعة بشكل أفضل، على مستوى المدن أو الولايات أو الدول بأكملها، بهدف الوقوف على مدى فاعلية اللقاحات الجديدة، التي تخضع للمراجعة من قِبل الجهات التنظيمية والرقابية.

وفي مؤتمر صحفي عُقد مؤخرًا في كلية الطب بجامعة هارفارد، قال عوفر ليفي، أحد الموقعين على الرسالة: "الحاجة إلى جرعات كثيرة على مستوى السكان ليست بالأمر العملي، نحن بحاجة إلى لقاحات توفر حمايةً أوسع نطاقًا وتدوم مدةً أطول من الوقت، ولا شك أن أمامنا كثيرًا من العمل المهم"، يدير ليفي برنامج اللقاحات الدقيقة في مستشفى بوسطن للأطفال، وهو عضوٌ في اللجنة الاستشارية للقاحات والمنتجات البيولوجية ذات الصلة، التابعة لإدارة الغذاء والدواء (VRBPAC).

وعلى عكس الأجسام المضادة المُحيِّدة، تتعرف الخلايا التائية على مجموعة واسعة من الأهداف في الفيروس، وفي حين أن الأجسام المضادة تلتصق بشظايا صغيرة من بروتين وحيد، وتحديدًا «الأشواك» البارزة على سطح فيروس «سارس-كوف-2»، فإن الخلايا التائية لا تكتفي برصد قطع البروتين الشوكي الصغيرة فحسب، بل ترصد كذلك طائفةً واسعةً من بروتينات الفيروس الأخرى، ويُمثَّل كل جزء من تلك الأجزاء على سطح الخلية بمجموعة من جزيئات السقالات، تسمى مستضدات الكُريات البيضاء البشرية (HLAs)، التي تختلف من شخصٍ إلى آخر، (تُستخدم عملية تطابُق مستضدات الكُريات البيضاء البشرية لمطابقة المرضى والمتبرعين في عمليات زرع الدم أو النخاع).

ونتيجةً لذلك، وفق قول بريان باركر، اختصاصية المناعة في جامعة درو، فإن الخلايا التائية عند كل شخص «ترى» البروتين الشوكي بعين مختلفة، لأن بروتينات السقالات المختلفة تحول بينها وبين ذلك، وتتمثل إحدى فوائد عملية السقالات تلك في أنها تزيد من قدرة الخلايا التائية على مقاومة التطور الفيروسي، فحتى لو تطورت بعض البروتينات الشوكية الفيروسية، التي تستهدفها الخلايا التائية، بحيث تكون قادرةً على الإفلات من الهجوم المناعي، فإن بعضها الآخر يبقى هدفًا للخلايا التائية دون تغيير، وعندما ينتقل الفيروس من شخصٍ إلى آخر، يمكن للخلايا التائية في جسم الأخير أن تلاحق تلك الأجزاء الصغيرة غير المتحورة، وتشرح باركر: "إذا حاول الفيروس الإفلات من الخلايا التائية ثم انتقل إلى شخص آخر بعد ذلك، فإن كل تلك المراوغات، وكل الحيل التطوّرية التي فعلها، لن يكون لها أي فائدة، فالجهاز المناعي عند الشخص الآخر سيرى الفيروس بوصفه هدفًا مختلفًا، ومن الصعب حقًّا أن يتطور الفيروس والخلايا التائية تحيط به".

تدعم الأبحاث تلك الفرضية، ففي دراسة وردت في ورقة بحثية منشورة في عدد يناير من دورية «سيل» Cell، حلل العلماء في معهد لا جولا لعلم المناعة عيناتٍ أُخِذت من دماء 96 شخصًا بالغًا، في أوقاتٍ مختلفة، تلت تلقِّيهم للقاح «كوفيد»، وبعد ستة أشهر من التطعيم، كانت مستويات الأجسام المضادة المُحيِّدة قد انخفضت بصورة كبيرة، في حين ظلت استجابات الخلايا التائية قويةً، حتى ضد سلالة «أوميكرون» المتحورة.

وعلاوةً على ذلك، أُجريت دراسة أخرى أظهر فيها المشاركون أدلةً على أن الخلايا التائية لها ذاكرةٌ عالية الجودة، بغض النظر عن عدد المرات التي تعرضت فيها تلك الخلايا للفيروس، سواء من خلال تلقي التطعيم أو الإصابة بالعدوى، ولم تستسلم الخلايا التائية لظاهرة «الإجهاد»، وهي حالة من الاختلال الوظيفي قد تنشأ نتيجةً لفرط التحفيز، يخشى بعض العلماء من إمكانية حدوثها مع تكرار عمليات التطعيم، وقد نُشرت هذه النتائج في العدد الصادر بتاريخ الخامس من أبريل الماضي، من دورية «نيتشر إميونولوجي» Nature Immunology.

ورغم ذلك، لا تزال هناك حاجة إلى إيلاء مزيد من التركيز للأبحاث التي تتناول الخلايا التائية بالدراسة، فرغم كل النتائج التي توصل إليها الباحثون، حتى الآن، أثبتت قلة من الدراسات -بشكل مباشر- أن الخلايا التائية لها دورٌ مساعدٌ في الحماية من «كوفيد»، ويقول بول توماس، اختصاصي المناعة في مستشفى سانت جود لأبحاث الأطفال في ممفيس بولاية تينيسي، والذي قاد البحث المنشور في دورية «نيتشر إميونولوجي»: "نحن نعتقد جميعًا أن هذه الخلايا تضطلع بدور معين، ولكن من الصعب جدًّا إثبات ذلك".

في واحدة من تلك الدراسات، جمع العلماء بلازما الدم من مجموعة من قرود المكاك، كانوا قد أصابوها بعدوى فيروس «سارس-كوف-2»، ووجد العلماء أن حَقْن البلازما في الحيوانات التي لم تصَب بالعدوى في السابق قد ساعدها على مقاومة الإصابة بالعدوى في وقت لاحق، وقد لاحظ الباحثون أنهم عندما كانوا يتسببون في استنفاد الخلايا التائية من البلازما قبل نقلها، فإن حالة الأشخاص المتلقين للبلازما تسوء، ويأتي الدليل على أن الخلايا التائية توفر قدرًا مماثلًا من الحماية، من دراسات بشرية محدودة، تمكَّن فيها مرضى السرطان الذين يعانون ضعفًا في استجابات الأجسام المضادة، من تحقيق معدلات أفضل للبقاء على قيد الحياة حال توافُر عدد أكبر من الخلايا التائية لديهم.

لكن علماء المناعة لا يزالون بحاجة إلى مزيد من الإجابات، مثل: إذا كانت خلايا الذاكرة التائية تساعد في توفير حماية مناعية، فكم من الوقت تبقى في مجرى الدم؟ وما العدد المطلوب من تلك الخلايا للحيلولة دون تفاقُم أعراض المرض؟ ويقول ويري في هذا السياق: "ليس لدينا إجابات عن أي سؤال من هذه الأسئلة؛ لأننا لا نقيس خلايا الذاكرة التائية على نطاق واسع عند عددٍ كافٍ من المرضى".

وحتى في حالة عدم قدرة الباحثين على إجراء عمليات مراقبة واسعة النطاق، كان العلماء يدرسون الخلايا التائية للمرضى طوال فترة الجائحة؛ فعلى سبيل المثال، أجرى مختبر ويري تحليلاتٍ مستفيضةً للاستجابات المناعية، عند مجموعة يتراوح عدد أفرادها بين 60 و80 فردًا تلقَّوا التطعيم، استمرت هذه التحليلات مدةً تزيد على عام كامل، وأشارت النتائج إلى أن أولئك الأفراد الذين أصيبوا بعدوى اختراقية من بين هذه المجموعة كانوا يُعدُّون على الأصابع، ولا شك أن هذه البيانات مثيرةٌ للاهتمام، ولكن "لا تتوافر لدينا قدرةٌ إحصائية، تتيح معرفة ما إذا كان هؤلاء الأشخاص قد أصيبوا بالعدوى بسبب انخفاض أعداد الخلايا التائية عندهم أو لأنهم كانوا منخرطين في سلوكيات مرتفعة الخطورة، مثل الذهاب إلى الحانات كل ليلة"، وفق قول ويري.

يقول ويري إنه لكي نحصل على هذه الإجابات، سيتطلب الأمر منَّا تتبُّع أعداد تتراوح بين آلاف وعشرات الآلاف من الأشخاص، فمع وجود شريحة أكبر من البشر الذين نُخضعهم للدراسة، ستصبح التحليلات التي تُجرى على كل شخص أكثر بساطةً بكثير، بمعنى أنه سيمكن للباحثين معرفة عدد الخلايا التائية التي تستهدف فيروس «سارس-كوف-2»، عند هؤلاء الأشخاص، ومكان تلك الخلايا ضمن نطاقٍ من قياسات الخلايا التائية.

لكن العلماء يعترفون بأن الجانب التقني هو التحدي الرئيسي الذي يعترض طريقهم في هذا الاتجاه، فدراسة الخلايا التائية أصعب بكثير من دراسة الأجسام المضادة، ويمكن من خلال الاختبارات المعيارية قياس الأجسام المضادة التي تستهدف فيروس «سارس-كوف-2» في عشرات الآلاف من عينات الدم، بصفة يومية، ويمكن إضفاء طابع أوتوماتيكي على هذه العملية باستخدام الروبوتات، لكننا نحتاج في البداية إلى استخلاص الخلايا التائية من عينات الدم، وهو إجراء يتطلَّب عدة ساعات من العمل بواسطة فنيي المختبر، ويلي ذلك استنبات الخلايا، ثم تحفيزها باستخدام ببتيدات فيروس «سارس-كوف-2» وقياس الجزيئات المُفرزة، ويقول جون ألتمان، اختصاصي المناعة في جامعة إيموري: إن بروتوكولات الخلايا التائية "هي الأكثر ضلوعًا في تلك المسألة"، ويضيف ألتمان أن إجراء التحليلات على نطاق واسع "سيكون أمرًا مكلفًا بصورة كبيرة، كما سيتطلب عمالةً مكثفةً، وسيكون من الصعب التحكم فيه، ووضع معايير قياسية له، على امتداد مواقع مختلفة".

يؤكد ألتمان كذلك أن الدافع الرئيسي لقياس استجابات الخلايا التائية يتمثل في "توجيه عملية صنع القرار بغية تحسين إنتاج اللقاحات؛ إذ لا نحتاج إلى البيانات لتزويدنا بأفكار أفضل حول ما يتوجب علينا فعله، فلدينا بالفعل أفكار معقولة حول ذلك الأمر، وما علينا سوى المضي قدمًا"، في الشهر الماضي نشر ألتمان تعليقًا على دورية «نيتشر إميونولوجي»، أشار فيه إلى إمكانية تعزيز الذاكرة المناعية من خلال زيادة عدد الأهداف المحتملة في فيروس «سارس-كوف-2»، والتي يكون الجهاز المناعي في حالة استعداد لمواجهتها، وأوضح أن بإمكاننا فعل ذلك عن طريق إدراج مستضدات إضافية، غير شوكية، في تركيبات اللقاح المستقبلية لاستثارة استجابة مناعية، وهي إستراتيجية جرى تنفيذها بالفعل عن طريق لقاحات اصطناعية من الببتيدات التحضيرية للخلايا التائية.

في حقيقة الأمر، يعكف الباحثون على إجراء عملية اختبار مبسطة للخلايا التائية، ويقول ويري إن قياس الخلايا التائية مسألة صعبة، لكنه يوضح عددًا من الطرق الجديدة، في مقال للرأي نُشر على دورية «ساينس إميونولوجي» Science Immunology، بتاريخ الرابع والعشرين من مارس الماضي، ومن بين تلك الطرق اختبار من شأنه تجاوُز العمليات الشاقة التي تهدف إلى تنقية الخلايا والتحايُل عليها، من خلال رصد الخلايا التائية المُنشَّطة في عينات الدم، التي تُضخ في أنابيب ممزوجة مسبقًا بقطع من بروتينات «سارس-كوف-2»، وثمة نهج آخر أكثر تكلفة، بيد أن بالإمكان توسيع نطاقه بسهولة أكبر، وهو استخدام تسلسل الحمض النووي لرصد الخلايا التائية الخاصة بفيروس «سارس-كوف-2» في عينات دم كاملة، بدلًا من الطرق الأكثر تعقيدًا، التي تقيس الجزيئات التي تفرزها الخلايا التائية المستخلَصة في أنابيب أو في أطباق.

يشير ويري إلى أن الرسالة الموجهة إلى إدارة الغذاء والدواء قد قوبلت بـ"استجابة هائلة" من أطراف عديدة اتفقت على أن قياسات الخلايا التائية ينبغي أن تكون خطوةً أساسيةً ولازمةً للدراسات المستقبلية في مجال اللقاحات، مضيفًا: "كانت تلك واحدة من أكثر الاستجابات التي رأيتها في حياتي تجانُسًا على الإطلاق، إذا وضعنا في الاعتبار مدى الاستقطاب الذي نراه هذه الأيام، أعتقد أن ثمة نوعًا من الزخم يتشكّل حاليًّا".

اضف تعليق