q
سلط علماء التفسير والتدبر الضوء على أدب القرآن الكريم في خطابه مع بني البشر بما يتناسب ومستوى استيعابهم وفهمهم للأحكام والنظم، فكان الأدب مرافقاً للحكمة البالغة من هذا النمط من الخطاب، وأبرز الامثلة ما جاء في الآية الكريمة: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}، الآية الكريمة لم تأمر بأن يكون الحكم بالعدل "بين الناس...

{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}.

سورة النساء، الآية58

سلط علماء التفسير والتدبر الضوء على أدب القرآن الكريم في خطابه مع بني البشر بما يتناسب ومستوى استيعابهم وفهمهم للأحكام والنظم، فكان الأدب مرافقاً للحكمة البالغة من هذا النمط من الخطاب، وأبرز الامثلة ما جاء في الآية الكريمة: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}، الآية الكريمة لم تأمر بأن يكون الحكم بالعدل "بين الناس"، في حين أن الحكم في أقصى حدوده، وبالشكل الكامل؛ يكون "على الناس"، وكذا الحال في الآية التي نهت أولئك النفر من الناس الذين كانوا ينادون رسول الله من وراء جدار بيته بأعلى صوتهم ليخرج اليهم دون صبرٍ أو انتظار، مما كان يسبب للنبي الأكرم إحراجاً شديداً فنزلت الآية؛ {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}، بينما الحقيقة أنهم جميعاً لا يعقلون بفعلهم هذا.

هذا الأدب الرفيع في الخطاب، وهذه الحكمة البالغة من الاستخدام الدقيق للألفاظ يلفت نظرنا الى رسالة موجهة للحاكم والمحكوم على السواء، وللأجيال كافة لتكون تجربة الحكم ناجحة ومثمرة للطرفين، لا تشوبها شوائب الديكتاتورية من الحاكم، ولا العبودية والصنمية من المحكوم (الجماهير).

العدل فريضة ممكنة لأي حاكم

من الناحية اللغوية، يبدو الفرق واضحاً بين مفردة "بين"، و"على"، فالاخيرة تدل على ظرفية مكانية عالية، فالحكم على الناس "تقتضي أن تكون هنالك فوقية، أو ولاية مجعولة لهذا الشخص، وإما من قبل الله –تعالى-، او من قبل الأمة، او أية جهة اخرى ذات صلاحية حقيقية او مزعومة"، وهو ما نلاحظه في انظمة الحكم في بلادنا التي تتحكم فيها جماعات او أفراد بعناوين مختلفة، ويمارسون الحكم بصيغة استعلائية من استغلال القدرات والامكانات الموجودة في البلد.

أما الحكم بين الناس فهو مرتبة أدنى منها، تتمثل "في توافق شخصين او طرفي نزاع على حاكم معين ليقضي بينهما، مع حقهما في نقض قرار هذا الحاكم، بينما لا يمكن لهما نقض قرار الحاكم المنصوب من قبل الدولة ذات الصلاحيات الواسعة".

فاذا كان الأمر الإلهي بالحكم بالعدل لمرتبة أدنى في الحكم، فانه من باب أولى أن يشمل المرتبة العليا في الحكم وهي؛ الحكم على الناس "وهو الأقرب لأن يطغي ويظلم وهو ذو صلاحيات أكبر"، وهذا ما لفت اليه سماحة آية الله السيد مرتضى الشيرازي في كتابه؛ ملامح العلاقة بين الدولة والشعب، وهذه رسالة صريحة الى من يدّعون الحكم بين الناس وفق النظام السياسي العالمي تحت عنوان "الديمقراطية"، فلا أحد من الحكام في بلادنا طيلة قرن من الزمن اعترف على نفسه بأنه ديكتاتوراً او حاكماً مستبداً يملك أرواح الناس ومصائرهم، بل كان الادعاء دائماً أنه بينهم ومنهم، يمثل وجدان الشعب وتطلعاته وآماله، بل كانت جميع بلادنا المسكونة بالديكتاتورية تتشدق بأن لها مجلساً لنواب الشعب بمسمّيات متنوعة حسب رؤية وأيديولوجية الحاكم.

ولعل هذا يفسر الحكمة من استخدام هذا الأدب القرآني الرفيع في عدم تعميم حالة الاستعلاء والديكتاتورية في الحكم مع وجود أمر إلهي بإقامة العدل بين الناس –الجماهير- إنما جاءت المفردة (بين الناس) لبيان إمكانية تحقيق العدالة في هذه المرتبة وايضاً في المراتب الأعلى منها ايضاً.

وحتى لا يقول حاكمٌ بعد هذا أنه معذور من تطبيق العدل، فهو ليس علي بن أبي طالب، الإمام المعصوم المسدد من السماء، والموصى به من رسول الله، الذي جسّد العدل بذاته، علماً أن أمير المؤمنين، سلام الله عليه، خلال فترة حكمه كرّس مفهوم "الحكم بين الناس"، من خلال رسائله الى ولاته في الامصار، ومن خلال طريقة تعامله مع الناس بمختلف شرائحهم وانتماءاتهم؛ "أ أقنع من نفسي بأن يُقال: هذا أمير المؤمنين، ولا اشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون اسوة لهم في جشوبة العيش"؟!

الجماهير وصلاحية عزل الحاكم

عندما نتحدث عن الحكم بين الناس، وأن هؤلاء الناس (الجماهير) هي التي تأتي بالنواب الى البرلمان، وهو بدوره يصوّت على الحكومة ويوافق عليها، او في نمط ديمقراطي آخر، تأتي الجماهير بنفسها برئيس الجمهورية بالاقتراع المباشر، فهذا يعني أن بامكانها عزل هذا الحاكم، او سحب الصلاحية منه، كما هو منصوص في معظم دساتير العالم، وقد أشار الى هذه الحقيقة سماحة السيد الشيرازي في كتابه المشار اليه.

برؤية كهذه عند جماهير الشعب، يكونون–من حيث يريد الحاكم والحكام او لا يريدون- شركاء في اتخاذ القرارات المصيرية في مؤسسات الدولة، وليس كما نراه اليوم من تسليم مطلق للإرادة والقرار والتفكير لطبقة سياسية حاكمة تمارس الاستعلاء والاستئثار بشكل سافر دون خوف او وجل، بسبب إعطاء الجماهير اللجام لهم.

أما كيفية تحقيق هذا الطموح العتيد الذي يتحدث عنه الجميع باستمرار، فانه بكل بساطة؛ برفض الظلم في كل ارجاء المجتمع، فمن يبحث عن الماء النقي والزلال، عليه أولاً؛ البحث عن الإناء النظيف اللائق بهذا الماء، فعلى المجتمع وجماهير الشعب تهيئة كامل الأرضية المناسبة لتحقيق العدل والمساواة، حتى لا نكرر تجربة الأمة الفاشلة في عهد أمير المؤمنين، عليه السلام، عندما ضاقت بالعدل الجميل والرائع، ولم تتقبله فكانت مصداق قوله، عليه السلام: "من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق".

اضف تعليق