q
إسلاميات - ثقافة إسلامية

الأمن الاجتماعي وحفظ الكرامة الانسانية

قراءة في الفكر الإصلاحي للفقيه الراحل السيد محمد رضا الشيرازي

دلت التجارب على أن المجتمعات المنتصرة في نضالها ضد الاستعمار او الديكتاتورية، هي التي نجحت بأن تكون حاضنة آمنة للطليعة الثائرة والقيادة المتصدّية، وبقدر ما يتوفر الإيمان والالتزام بالقيم والمبادئ لدى الأفراد، ويكون تفاعلهم واستجابتهم لنداء القيادة والشريحة المثقفة، كانوا أقرب الى تحقيق الاهداف المنشودة من استقلال...

دلت التجارب على أن المجتمعات المنتصرة في نضالها ضد الاستعمار او الديكتاتورية، هي التي نجحت بأن تكون حاضنة آمنة للطليعة الثائرة والقيادة المتصدّية، وبقدر ما يتوفر الإيمان والالتزام بالقيم والمبادئ لدى الأفراد، ويكون تفاعلهم واستجابتهم لنداء القيادة والشريحة المثقفة، كانوا أقرب الى تحقيق الاهداف المنشودة من استقلال، وتقدم، وحرية، وعدل، وغيرها من الاهداف السامية.

هنالك ثلاث دعائم أساس للأمن الاجتماعي، بتوفرها يتحقق الأمن والاستقرار داخل كيان المجتمع والامة بشكل عام.

الدعامة الاولى: الأمن على النفس.

الدعامة الثانية: الأمن على المال.

الدعامة الثالثة: الأمن على العرض.

عندما يشعر الفرد أنه آمنٌ في هذه الجوانب الثلاثة مجتمعة، يكون قادراً على العيش بسلام، ثم يشق طريقه في ميدان العمل والتعلّم والعطاء، أما اذا اهتزّت دعامة واحدة من هذه الدعائم الثلاثة، فان حياة هذا الفرد تتعرض للاهتزاز قطعاً، ويجد نفسه مضطراً لاتخاذ قرارات جديدة، بأن يتصدّى للمواقف العدوانية، او أن يهاجر بعيداً عن مكامن الخطر.

ولذا نجد أن الاسلام في أولى بنود نظامه الاجتماعي قدم الأمن على كل شيء، وجعله ثمرة لانتماء الفرد الى الاسلام، بأن يكون دم الانسان المسلم وماله وعرضه حرام على أخيه المسلم، فهو مُصان داخل المجتمع الاسلامي، مهما عمل في سابق الايام، وهذه الارضية الآمنة التي يصنعها الافراد فيما بينهم هي التي تؤهلهم لتوفير الامن للقائد في تحركه وممارسة دوره بما يحقق اهداف المجتمع والامة نفسها، والعلاقة عضوية هنا؛ فكلما توفر هذا الأمن للقائد، كلما كان أقرب الى النجاح في مهمته، والعكس بالعكس قطعاً، وهو ما أشارت اليه الصديقة الزهراء، عليها السلام، في خطبتها الفدكية الشهيرة عندما ذكرت المسلمين المجتمعين في مسجد النبي، كيف أنهم كانوا: "على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطيء الاقدام ، تخافون ان يتخطفكم الناس من حولكم فانقذكم الله تبارك وتعالى بأبي محمد".

ولكن! ما نوع هذا الأمن الذي يحتاجه القائد، وايضاً؛ المثقف والمفكر في المجتمع، بعد ان يكونوا آمنين في أموالهم وأعراضهم وأنفسهم؟

الفقيه الراحل آية الله السيد محمد رضا الشيرازي –قدس سره- في إحدى محاضراته يشير الى دعامة رابعة للأمن الاجتماعي لا تتعلق بحياة الأفراد، بقدر ما يرتبط الأمر بحياة الأمة وكيانها ومستقبلها؛ ألا وهو الأمن على الكرامة الانسانية.

ان المجتمع الذي يكرّم القائد، ويشدّ على يد المحسن والبار، ويحترم الخطيب والكاتب ويتفاعل مع نداءات الإصلاح والتغيير، هو الذي ينجح في التخلص من الازمات الاقتصادية منها والسياسية، وأي مشكلة تتفرع منها.

صحيح أن حركة التغيير والإصلاح تنطلق من الفكر الناهض والمنهج البصير لدى القادة والمفكرين، فهم لن ينتظروا الناس ليمنحوهم التزكية والتأييد، بيد أن المرحلة اللاحقة في مسيرة الحراك الإصلاحي او التغييري يتطلب المواكبة من الجماهير، وإلا فان "لا رأي لمن لا يطاع"، كما قال أمير المؤمنين، عليه السلام، ولمن يراجع ملف الازمة بين علاقة الامام علي مع افراد الأمة آنذاك، وتحديداً في الكوفة، تقفز امامه النزعات النفسية المتأصلة في بعض النفوس ولم يتمكن اصحابها من التخلص منها، تسببت في تخريب العلاقة بينهم وبين الامام، عليه السلام، رغم معرفتهم بمنزلته ومكانته، بل وأحقيته في الخلافة والحكم من غيره، ومن تلك النزعات؛ حب المال والجاه والسلطة، فقد كانت مؤازرة الزبير للإمام، وتضامنه معه منذ الايام الاولى للانقلاب على الشرعية (السقيفة)، مشروطة بالحصول على منصب ما، او امتياز يحفظ له مكانته الاجتماعية، كونه ذو صلة رحم مع الامام، ومن السابقين الى الاسلام واعتبارات اخرى، وبعدم توفر هذه الشروط كان المصير هو ان يكون وجهاً لوجه أمام الامام علي، عليه السلام، في حرب ضروس.

وفي تاريخنا الكثير من الشواهد الدالة على أهمية التكريم والاحترام للاحتفاظ بالقائد والمصلح، والاستفادة من توجيهاته ورؤاه في جميع المراحل والظروف، فربما يكون الأمر في مرحلة الثورة على الحاكم الظالم، او في مرحلة إصلاح وتقويم نظام يدّعي الديمقراطية وتطبيق التعددية والحرية، وفي أي مرحلة اجتماعية او سياسية تمر بها الامة. ويشير سماحة الفقيه الشيرازي الى مثال واحد من أمثلة كثيرة، وهو؛ فخر المحققين، وهو ابن العلامة الحلّي، (ابو منصور الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الاسدي الحلي (648هـ -726هـ)، هذا العالم الكبير الذي يقول عنه الفقيه الشيرازي انه بلغ مرحلة الاجتهاد في الفقه في سن العاشرة من عمره، فقد كان نابغة زمانه، كوالده –رحمهما الله- بيد أنه في حداثة سنهّ فقد والده، فبدأ بعض "الحاقدين الذين لا يراعون حرمة للمؤمنين يتكلمون ضده ويتهمونه ويغتابونه"، وعندما ضاقت به الارض، قرر الهجرة الى مكان بعيد وسط الصحراء، وبعد فترة من الزمن افتقده الناس، ولما بحثوا عنه وجدوا أنه تحول الى فريسة للسباع والذئاب!

من هو (الهُمزة)؟ ومن هو (اللُمزة)؟

بل ما هي المشكلة لدى الانسان حتى يندفع لارتكاب أخطاء من هذا النوع؟

يبدو أن منشأ هذه الحالة السلبية في التعامل البيني، ليس مادياً، كما لو انه يستهدف المال والجاه لدى الطرف المقابل، سواءً كان قائداً مصلحاً، او رجلاً باراً ومسحناً، او مفكراً يعمل على نشر الوعي والثقافة، انما هي مشكلة نفسية بامتياز، ونزعة لدى الكثير من افراد المجتمع لعدم السماح بمن يريد التصدّي والقيام بأعمال كبرى في المجتمع، مهما كانت مؤهلاته وأحقيته، وهذا ما يشير اليه سماحة الفقيه الشيرازي في سياق حديثه عن الأمن الاجتماعي مستلهماً من الآية الكريمة في سورة الحجرات (الآية11)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ)، فالقضية هنا لا تعود الى معادلة اجتماعية، وهو الفعل ورد الفعل، ومن يلقي الحجر على دار جاره، عليه أن ينتظر الرد بالمثل، إنما هي "معادلة ثانية (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ)، فهذه معادلة القيم وليست معادلة اجتماعية، ولا هي معادلة النفع والضر بالقيمة". والقرآن الكريم يقدم لنا معادلة جديدة في نظام العلاقات الاجتماعية قائمة على القيمة الانسانية بعيداً عن اعتبارات العرق واللون والقومية والطبقية وحتى العلمية، بل ويقدم لنا الحل لإزالة عقبة مهمة عن طريق التماسك الاجتماعي، ثم تأهيل المجتمع لبناء أفضل العلاقة وأكثرها متانة بينه وبين القائد، وايضاً بينه وبين المتصدين للعمل الثقافي والخيري وما له صلة بالصالح العام.

وجاء في التاريخ أن اشخاصاً اعترضوا طريق الصحابي الجليل سلمان الفارسي، وأرادوا النيل منه، فسألوه:

هل لحيتك أفضل أم ذيل الكلب؟!

أجاب بكل هدوء:

اذا كانت هذه اللحية تجيزني على الصراط يوم القيامة، فهي أفضل من ذيل الكلب.

ثم يشير سماحة الفقيه الشيرازي الى حقيقة اخرى ترتبط بنشأة حالة التنافر لدى البعض من القائد والناصح، وهي التطاول والتنافس غير الشريف بوسائل مختلفة، ربما يكون منها الحسد، او التسقيط، ويعلل هذا بأن "الإنسان لديه حساسية دائماً تجاه الأفراد الذين يلتقون معه في مصلحة ما أو في خط ما"، كما هو الحال في عالم التجارة والسوق، أو في ميدان العلم والتعلم، وهكذا سائر ميادين الحياة، وبما أن القادة والمصلحون والمفكرون ينطلقون من قلب المجتمع والامة، فان الناس يفترضون انهم أشخاص عاديين، وهم كذلك من حيث الظاهر، بيد أن المشكلة تحدث عندما يصرّ الناس على أن يبقى هؤلاء اشخاص عاديين، ولا يظهر منهم النبوغ في القيادة والادارة والتأثير على الافكار، بل؛ لماذا لا يكونوا هم اصحاب هذا النبوغ والكفاءة العالية؟! ولطالما عانى الامام علي، عليه السلام، من هذه الحالة والنزعة النفسية المتأصلة لدى الكثير من ابناء قومه، منذ الايام الاولى لبزوغ فجر الاسلام، وانضمامه الى النبي، وحتى الايام الاخيرة من حياته الشريفة.

ومن أجل ذلك يستشهد الفقيه الشيرازي بالقرآن الكريم ثانية في تسمية هذه المشكلة المرضية بغية ايجاد الحل المناسب لها، عندما يشير الى مفردتي: {الهُمزة واللُمزة}، ولأهمية هذه القضية نجد أن القرآن أفرد لها سورة خاصة بها سُميت؛ سورة الهمزة، ويوضح سماحته شخصية "الهمّاز" بانه يطعن في الآخرين بغيابه، أما من يلمز الآخرين، فهو الذي يطعن فيهم بحضورهم.

الفقيه الشيرازي خيرُ مصداق

قبل الختام يجدر بنا الاشارة الى مصداق عملي جسّده نفس الفقيه الراحل –قدس سره- في حياته وبعد وفاته، عندما وجد الثلّة المؤمنة في المجتمع ممن يتفاعل مع مشروعه الاصلاحي الكبير من خلال الحضور الدائم في محاضراته التي يربو عددها الى الثمانمائة محاضرة في شتّى الحقول والجوانب؛ الاجتماعية منها، والعقدية، والقرآنية، والتربوية، والفكرية، وبعد انتقاله الى جوار ربه، كان التفاعل اكبر وأعظم، بل كان الانفجار "بوقع حادثه المفجعِ" وخسران المجتمع الشيعي والامة الاسلامية لشخصية قيادية وإصلاحية كهذه، وهي في مقتبل العمر.

اضف تعليق