q

جاري الحديث عن العلاقة المختلّة بين الحوزة والجامعة، او بين طلبة العلوم الدينية وبين طلبة العلوم الطبيعية والمادية، ويعتقد البعض ان لهذه القطيعة اسباباً ذاتية، فالحوزة العلمية في توجهها الديني لا تقر بالمراكز الاكاديمية لانها تعتمد في طريقها الى اكتشاف الحقائق، على التحليل والمشاهدة والاستقراء والاستنتاج العيني، وهذا يشمل العلوم الطبيعية مثل؛ الفيزياء، والاحياء، والكيمياء، وايضاً؛ العلوم الانسانية مثل؛ علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد وغيرها مما يصدق عليه بالعلوم التي تبحث فيما هو مادي ومحسوس، بينما الحوزة تعتقد أن العلم أكبر وأوسع من هذا بكثير، فهو في الوقت الذي له نصيب من الماديات، يشمل ايضاً ما وراء المادة، وما يتصل بالوجود والكون وعلل وجود الانسان في الحياة ومصيره ما بعد الموت، وهي العلوم التي – تقول الحوزة- تضمن للانسان السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة.

أما مأخذ الاكاديميين، ومنذ باكورة نشوء الجامعات في البلاد الاسلامية، أن العلوم الدينية التي تتحدث عنها الحوزة ورجالاتها لم تلامس الواقع الذي يعيشه الناس، فهي لم تكن مساهمة في تطور الزراعة والصناعة، ولا أسهمت في تطور المواصلات والاتصالات، وغير ذلك، ودليلهم في ذلك؛ أن حاجة الناس اليوم تتجه نحو الطبيب والمهندس والمحامي لتلبية احتياجاتهم الضرورية.

هذا المأخذ له ما يبرره على صعيد الواقع، بيد أن نظرة متأنية وعميقة الى ماهية العلم نجد أنه يشكل منظومة متكاملة من المعارف والآداب، ولمن يقرأ ويتدبّر في آيات من القرآن الكريم يجد أن للعلم قيم ومعايير ومناهج ومصادر، كلها تكشف عن مغزى تأكيد النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، على طلب العلم من دون تحديد نوع العلم، لانه نور يشق ظلمات الانسان في الحياة، إنما حدد المعيار في حديثه الشريف: "لا تجلسوا عند كل عالم إلا عالم يدعوكم من الخمس الى الخمس؛ من الشك الى اليقين، ومن الكِبر الى التواضع، ومن الرياء الى الإخلاص، ومن العداوة الى النصيحة، ومن الرغبة الى الزهد". (1) بما يعني أن العلم الذي يدعو اليه الإسلام هو الذي يخدم البشرية ويحقق لها السعادة والأمان، لذا عكف علماؤنا في بحوث عدّة على اكتشاف مواطن انحراف العلم والعلماء عن الطريق الصحيح.

وهذا يميز طريقنا نحو العلم عن الطريق الذي سلكه الغرب والمحكوم بنظرية الفعل ورد الفعل، فالنهضة الاوربية وما يسمى بعصر التنوير، جاء ليطوي حقبة زمنية طويلة ومريرة عاشتها اوربا في ظل هيمنة المعنويات والروحيات التي صنعتها الكنيسة على يد رهبان وقساوسة ابتعدوا بعد الارض عن السماء عن قيم الدين المسيحي، فكانوا يكبلون عقول الناس وارادتهم وحريتهم بتعاليم يحسبونها دينية لضمان ولائهم وطاعتهم المطلقة لهم، حتى حدا الأمر بعالم اجتماع الماني هو "كارل ماركس" لأن يعد الدين "أفيون الشعوب"، ولتغيير مجتمع القرون الوسطى الغارقة في أوهام العبادات والروحانيات، انطلقت الشريحة الواعية والمثقفة في اوربا لدعوة الناس الى الحياة المادية وأصالة الحياة العينية الموجودة بالفعل، والتمتع بما في الحياة من لذة وتملّك وسعادة حرموا منها طيلة قرون من الزمن.

ومنذ ذلك الحين لم نر أي أثر للكنيسة ولا للدين في مسيرة العلم والمعرفة في اوربا وفي الغرب بشكل عام، لاسيما في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وقد أخذ العلمانيون على عاتقهم مهمة صياغة فكرة "أصالة العلم" بل وتقديسه، كما يقول المفكر الاسلامي الشهيد الدكتور علي شريعتي في كتابه "مسؤولية المثقف"، وأنهم عملوا على فصل المعارف المتعلقة بالدين، عن المعارف المتعلقة بالطبيعة مثل الكيمياء والهندسة والطب، وهو رد فعل طبيعي أشار اليه معظم المفكرين والباحثين في دراستهم للحضارة الغربية.

واذا عرفنا منزلة العلم بكل اشكاله وتوجهاته في عهد الامام الصادق، عليه السلام، وتعرفنا على المنجزات العلمية الباهرة التي توصل اليها علماء دين في العهود الاسلامية، وكم شجع بعض الملوك والسلاطين على طلب العلم والتأليف والبحث عن الجديد، نجد أن مهمة إنهاء هذه العلاقة المختلّة ليست بتلك الصعوبة والتعقيد الذي يتصوره البعض، لأن بالاساس ليست هنالك أية قطيعة حقيقية او فاصلة بين الحوزة العلمية وسائر العلوم من حيث المبدأ، إنما المشكلة تبدو فنية، فالحوزة العلمية التي تهتم بالعلوم الدينية وايضاً بالأخلاق والمسائل المعنوية، عليها ان تخطو خطوة شجاعة وتاريخية باتجاه تكريم العلماء الكبار والمبدعين الشباب، لاسيما في العراق، ممن توصلوا الى اكتشافات علمية أبهرت الغرب، ونسمع بين فترة وأخرى دعوة بلدان غربية لعلماء عراقيين بتقديم بحوثهم ودراستهم هناك مع غير قليل من الاغراءات بالإقامة الدائمة وكافة الامتيازات شريطة ان يتحول الى مواطن اميركي او بريطاني، ليقال في الاعلام: الفيزيائي البريطاني من أصول عراقية – مثلاً- وهذا يعني شراء الانسان العالم كاملة، وخسارة فادحة لبلد ووطن كبير يدّعي بحق انه مهد العلوم والمعارف والحضارة.

اضف تعليق