q
فكرة ان الحاكم يجب ان يكون اكثر حكمة واكثر فضيلة من المواطنين العاديين هي فكرة غريبة عن فهمنا للسياسة، نحن لا نعتبر المسؤولين المنتخبين كمثال للمواطنين. غرابة رؤية ارسطو عن فضيلة الحكام يجب ان تدفعنا للتساؤل لماذا اصبح السياسيون اقل قيمة في نظرنا. ادرك ارسطو...

استعمل ارسطو (384-322 ق.م) المقارنة بين رحلة اديسوس الملحمية وسفينة الدولة لكي يجيب على ثلاثة من أهم الاسئلة الدائمة في الفكر السياسي. وهي: 1- ما اذا كانت الفضيلة للشخص الجيد هي نفس الفضيلة بالنسبة للمواطن (السياسة، 1276b 20 )، 2- ما اذا كانت فضيلة الحاكم الجيد هي نفس فضيلة الشخص الجيد (1277 a20 ) 3- ان كان بالإمكان تعليم الحكمة والفضيلة.

كتب ارسطو ان "المواطن كالبحّار عضو في جماعة". للبحّارة الآن وظائف مختلفة، احدهم مُجدف، الثاني ملاح والثالث مراقب. وبينما ينطبق تعريف كل فضيلة خصيصا على شخص معين من طاقم السفينة، لكن في نفس الوقت هناك تعريف مشترك يمكن تطبيقه على كل افراد الطاقم. ذلك انهم جميعا لديهم هدف مشترك وهو "سلامة الإبحار"(1276b 25 ).

يستخدم ارسطو مصطلح "فضيلة" بمعنى "التميّز excellence في اداء الوظيفة". ما يجعل المجدف ممتازا هو القوة والمهارة في استخدام المجاديف. اما الملاح فهو بارع في الابحار. الحارس او المراقب يجب ان تكون لديه المعرفة في تفسير الغيوم والرياح والتيارات وحركة المد. في هذا السياق لا يهم كثيرا ما اذا كان المجدفون اناس جيدين بمقدار ما ينصب الاهتمام على مهارتهم وقدرتهم على التجديف الجيد، ونفس الشيء ينطبق على الآخرين. الكابتن يتولى تنسيق هذه الفعاليات (1279a5). اذا كان المجدف والملاح والمراقب يُحكم عليهم بأدائهم لنشاطاتهم المحددة، فان الكابتن يُحكم عليه طبقا للمقدرة على ايصال السفينة سالمة الى الميناء.

ان طيبة المجدف حفّزت اوديسوس ليختار أهون الشرين (بين الوقوع في فخ وحش عملاق قد يلتهم السفينة كلها او الغوص الرهيب في تيارات بحرية هائلة). سلطته على البحّارة لم ترتكز على القوة او المكانة وانما على الاحترام والصداقة. هم كان بإمكانهم عدم طاعته. في الحقيقة، بعد وقت قصير من الهروب من المأزق الخطير، هم رفضوا قراره في تجنّب الاغواء اللذيذ لجزيرة هيلوس. عندما تمرد Eurylochos وهو الشخص الثاني في سلّم القيادة وقاد المجدفون الى الجزيرة، قال اوديسوس "انا يجب ان استخدم القوة. انا واحد ضد الكثرة". لكن هوميروس اراد التأكيد على اهمية نتائج عدم طاعتهم. بعد ان تناول المجدفون طعام هيلوس تحطمت سفينتهم ولم ينج الا اوديسوس.

هل يمكن تعليم الفضيلة؟

كان اوديسوس كابتنا جيدا لأنه دائما يضع طاقمه في اولى اهتماماته ولم ينسحب ابدا من الخطر حرصا على سلامته الذاتية. كذلك، هو جعلهم افضل بحارة. اوديسوسس لم يعمل في شراكة مع افراد طاقم خجولين وجبناء، وانما مع افراد ذوي مقدرة على الشجاعة والتضحية الذاتية. المأزق الاكثر صعوبة هو في التضحية بالقلة لأجل سلامة الكثرة، غير ان المقدرة على عمل هكذا تضحية تعتمد على سياسة الموارد الثمينة: فكرة الصالح العام والمقدرة على ترسيخها عبر تكوين التميّز. هل نستطيع غرس المقدرة على الخير في كل من الناس والحكام؟

ارسطو عُين من قبل فيليب الثاني مدرسا لابنه الاسكندر، لذا بالنسبة له السؤال "هل يمكن تعليم الفضيلة؟" لم يكن سؤالا افتراضيا. في رواية (الوسط الذهبي، 2009) للروائي الكندي انابيل ليون، ارسطو يسأل الاسكندر ليسمي الفضيلة. الاسكندر الذي يطمح للمجد سماها "الشجاعة". ارسطو يوضح ان الحاجة للشجاعة هي جبن، بينما زيادة الشجاعة هي طيش. في البدء الاسكندر يسخر من استاذه متوقعا جداله بان الفضيلة تتبع مسار الوسط قائلا: "انت تثمن الوسطية".

يجيب ارسطو، بالنفي، "الاعتدال والتوسط ليسا نفس الشيء". هنا يتحدث الاسكندر عن اخيه الذي يشعر بالخجل نتيجة عجز ذهني او جسدي. هو يسأل "هل انا اجسّد حد التطرف امامه؟". ارسطو يجيب عبر دعوة الاسكندر لإمضاء يوم على الساحل مع اخيه. الدرس هو الشهامة – لتكون معتدل تجاه المرؤوسين (Nichomachean Ethics,1124b20 ). درس آخر هو ان الفضائل تعزز بعضها البعض. ارسطو ادرك ان تلميذه الشاب كان تافها وقاسيا. بدون شهامة هو لا يستطيع ان يطور شجاعة مدنية تستلزم الشعور بالخجل من اللاشرف. ادراك هذا يتطلب شخصية وحكم من النوع الذي يسميه ارسطو "الحكمة العملية" والتي هي مقدرة الفرد على التشاور جيدا حول ما هو جيد وملائم وموصل عموما الى حياة جيدة (NE,1140a 25-30).

الحكمة العملية يعتبرها ارسطو فضيلة الفضائل، بدون حكمة عملية فان شخصا مثل الاسكندر ربما لديه تميّز عملي كالمهارة في القتال لكنه تنقصه الشخصية والحكم في إظهار الشهامة تجاه اولئك المنهزمين امامه. هذا سيجعله جنديا باسلا لكنه شخص مرعب، وهكذا سيكون حاكما فقيرا. "فضيلة الحاكم تختلف عن فضيلة المواطن"(السياسة، a1277( 20-25، وهما ليستا متساويتين في القيمة. المواطن ربما يكون جنديا او معلم او بحّار او طبيب. في ضوء التنوع في المواطنين وأشكال المؤسسات، ليس كل المواطنين يحتاجون الى فضائل متشابهة. البعض ربما يحوز على حكمة عملية، لكن كل من يحكم يجب ان يحوز على ذلك. كيف يمكن للمرء اكتساب الحكمة العملية؟ جواب ارسطو انه: عبر ممارسة الاعتدال في كل شيء.

ذلك كما يبدو ليس امرا سهلا، اولا الصعوبة في ايجاد طريق الوسط الذهبي او عدم التطرف. هذا ليس متوسط حسابي. السفينة التي تبحر في ممر ضيق ربما تنحرف كثيرا تجاه احد الجوانب، ولكن هناك سيكون دائما طريق افضل للوصول الآمن للميناء. ثانيا، لا توجد هناك طريقة حسابية يمكن ان يتعلمها الملاح ليجد افضل مسار في ظل الظروف المتغيرة للمد والرياح والطقس، لكن الملاح يمكن ان يتعلم من خلال الممارسة والتدريب مع احسن الخبراء كيفية ايجاد المتوسط في الظروف المتغيرة. هذا يفسر لماذا المعلمون هم الاكثر اهمية". (الاتصالات الشخصية، جولاي 17، 2018).

هل يمكن تعليم الاخلاق السياسية؟

يقول ارسطو ان خلاص الجماعة هو المهمة المشتركة للمواطنين (السياسة، 1276b 30 )، ولأجل هذه الغاية هم يجب ان يؤدوا عملهم جيدا(40). ولكن مثلما في الكابتن الذي يجب ان يقود السفينة بأمان الى الميناء، الحاكم يجب ان يمتلك الحكمة والفضيلة لكي يتجاوز وجهات النظر الخاصة بالمواطنين ويركز على الصالح العام (1287b5 ).

فكرة ان الحاكم يجب ان يكون اكثر حكمة واكثر فضيلة من المواطنين العاديين هي فكرة غريبة عن فهمنا للسياسة، نحن لا نعتبر المسؤولين المنتخبين كمثال للمواطنين.

غرابة رؤية ارسطو عن فضيلة الحكام يجب ان تدفعنا للتساؤل لماذا اصبح السياسيون اقل قيمة في نظرنا.

ادرك ارسطو ان الديمقراطية تستلزم المشاركة المباشرة للمواطنين في الادارة العامة. الديمقراطية تمكنت عندما كانت الدولة "مؤطرة بمبدأ المساواة والتشابه"، الذي بموجبه يعتقد المواطنون " انهم يجب عليهم استلام السلطة بالتناوب"(1279a 10 ). هذا يوضح لماذا ارسطو كما في العديد من معاصريه، نظر الى الديمقراطية كنظام حكم مطلوب خصيصا: انه تطلّب حكمة عملية لجميع المواطنين، او على الاقل اولئك الذين يمسكون الادارة العامة – والذين بالنسبة لأرسطو يمكن ان يكونوا من حيث المبدأ اي مواطن.

سفينة ارسطو المقارنة تقترح بان اولئك الذين في السلطة يحتاجون للحكمة العملية من اجل تحقيق الاهداف المشتركة التي يتقاسمونها مع المواطنين الذين يتحمل الحكام المسؤولية تجاههم. ولكن تجدر ملاحظة ان ارسطو كان مهتما بنوع خاص من الحكم: نوع "يُمارس تجاه الناس الاحرار والمتساوون في الولادة". هو كان يفكر ليس في العلاقات بين الخادم والسيد (لأن الخادم يطيع نتيجة للضرورة وليس للمنطق)، وانما نوع من العلاقات توجد بين المواطنين الاحرار. في مثل هذه العلاقات تحتاج السلطة للحكمة العملية لكي تجد طرقا في خدمة الصالح العام. هذا يفسر لماذا احتضن ارسطو رؤية ان "كل من لم يتعلم كيف يطيع لا يستطيع ابدا ان يكون قائدا جيدا"(1277b10 – 15 ). ولكن ليس كل كابتن او معلم او حاكم لديه مثل هذه الحكمة العملية. هذه اعتبرها ارسطو مشكلة خطيرة.

(هانا ارندت) ايضا اعترفت بمركزية الحكمة العملية للديمقراطية عندما جادلت في (وعد السياسة، 2005) ان السياسة هي فن بواسطته نقود تعدديتنا واختلافاتنا. كل مواطن عندما يدخل المجال العام يجب ان يوازن بين مختلف الاهداف. عادة نحن نتحفز بالسبب او القضية ولكن عندما ننخرط في مشاورات او أحكام ونتصرف بحرية كمتساوين مع الآخرين، سنواجه تحديا اكبر في موازنة اهدافنا الشخصية مع اهداف الأعضاء الاخرين للجماعة السياسية. ذلك يتطلب حكمة عملية.

انه لهذا السبب سيكون من المقلق للغاية اننا لانسعى لتعليم العامة ولا قادتنا على فنون السياسة والمواطنة. في الحقيقة، انها حقيقة مدهشة للحياة الحديثة ان لا جهد بُذل من جانب المؤسسات العامة لتعليم السياسيين فنون القيادة. لا توجد فرص لإعداد الناس للدخول الى السياسات العملية. الاحزاب السياسية احيانا تقدم بعض التدريب للمرشحين قبل الانتخابات، وعادة يقدّم المشرعون تدريبا اساسيا للمشرعين المنتخبين الجدد، ولكن لا توجد مؤسسة قائمة تزود التدريب والتوجيه للناس الذين يطمحون للدخول الى السياسة. الديمقراطيات تثق بالهواة لإدارة معظم المنظمات المعقدة في المجتمعات الحديثة، هؤلاء يديرون اكبر الميزانيات ويتخذون القرارات منخرطين بكل شيء من القواعد القانونية حتى التفاصيل التنظيمية.

لماذا لا ندرّب السياسيين؟

احد الاسباب هو الاعتقاد بان السياسة يمكن تعلّمها و ليس تعليمها – اي ان التعليم يحدث اثناء الوظيفة وليس من قراءة الكتب المنهجية والدراسة. بالتأكيد السياسة كأي ممارسة، تُكتسب من خلال التجربة ولكن هناك العديد من الممارسات التي تُعلّم ايضا. الكثير مما يمارسه السياسيون على اساس يومي هو يمكن تدريسه تماما – بما في ذلك عمل القوانين والتحليلات التشريعية والموازنات والتقديرات، فواتير النقود، اجراءات وقواعد برلمانية، عمل اللجان، عمل التكتلات، الادوار والمكاتب، الاتصالات السياسية، العلاقات مع الخدمة المدنية، اللوبيات والاعلام. كذلك، تزود المدارس المهنية عدة امثلة من الوسائل يمكن فيها شحذ الممارسات من خلال التعلم التجريبي، بدءاً من المحاكم الصورية في القانون، الى الممارسات الاكلينكية في الطب، الى ألعاب الحروب في الجيش.

تبرز هنا معارضة قوية وهي انه حتى لو أمكن تعليم آلية السياسة، فليس من الواضح ان السياسيين الطموحين يمكن تعليمهم ليكونوا خيّرين. يجب الاعتراف ان الناس من غير المحتمل ان يتعلموا الفضيلة السياسية من مدارس السياسة ما لم يدخلوا على الاقل ومعهم احساس بالخدمة العامة – بعض الناس يدخل السياسة لأسباب خاطئة، او لفقدانهم الميول الحقيقية ليصبحوا ممارسين حكماء. مع ذلك، نفس المعارضة يمكن توجيهها الى اي مدرسة مهنية اخرى، مثل مدارس القانون او مدارس الاعمال. الاساس في هذه المدارس هو بالضبط لغرس الممارسة الجيدة. مدارس القانون التي لا تغرس الاعجاب بقواعد القانون، ومدارس الاعمال التي لا تشجع على ممارسة الاعمال الاخلاقية، او مدارس الطب التي لا تضع عناية المرضى في الصميم، ستُعتبر فاشلة من جانب معظم الممارسين.

ربما المعارضة الاكثر إشكالية التي يثيرها الناس هي ان السياسة غير اخلاقية وفاسدة في الصميم وان اي تدريب اخلاقي للسياسيين سيجردهم من السلاح بوجه الخصوم الميكافيليين. مهما يظن المرء حول هذه الرؤية المتشائمة للسياسة، فان التحدي في التعليم هو لإعداد السياسيين لعمل أحكام حكيمة في ظل ظروف غامضة اخلاقيا. هناك حالات تحصل لكل سياسي في الحياة عندما يصطدم ضميره مع متطلبات الوظيفة ويصبح التعامل مع هذه المواقف يتطلب نوعا من الاستعدادات. ربما القليل من هذه الاستعدادات يمكّن السياسيين من التعامل مع هذه الاشكالات بأخلاقية اكبر.

الديمقراطية والحكمة العملية

يتعلم المرء ليكون كابتنا للسفينة بالعمل تحت قيادة كابتن ثم يصدر الاوامر لملاحي السفينة(السياسة 1277b 586 ). ونفس الشيء المقدرة على الحكم تعتمد على المهارات والمعرفة التي تُكتسب جيدا عبر الممارسة تحت اشراف رجال دولة ذوي تجربة. اليونانيون القدماء فهموا ان غرس الفضائل ضروري للحكام الجيدين والمواطنين في الدفاع ضد تضخم الذات والتلهف للسلطة والديماغوجية الانتهازية. نحن حتى وقت متأخر كنا اقل اهتماما بهذا الخطر. اصبح الناس مولعين جدا بالانقسام الزائف بين حكومة القوانين وحكومة الناس، ونسوا ان القوانين لا تفرض ذاتها، وانما تُفرض من جانب الناس. عندما يحصل الدجالون على السلطة فان دفاعنا الجيد هو في الشخصيات وأحكام الناس عنهم، وليس القوانين وحدها. طالما الدفاع عن مؤسساتنا هو بأيدي موظفي الخدمة المدنية والحكام، الا يجب ان نعتني بتعزيز شخصياتهم وأحكامهم؟

اذا كان الجواب نعم، عندئذ فان تدريب السياسيين هو ليس سوى عمل نخبوي. ربما المؤسسات الاكثر نخبوية تفشل في اعداد المواطنين لممارسة الخدمة المدنية. مع ذلك احدى سمات المواطنة الديمقراطية الاكثر تحديا(ومصدر التوتر بين الديمقراطية والليبرالية) هي ان الديمقراطية لكي تعمل جيدا، يجب على المواطنين امتلاك فضائل مدنية. ذلك يفسر لماذا نحتاج الى بعضنا لنكون فضلاء. على اقل تقدير، الديمقراطية تتطلب مواطنين ذوي شجاعة ليكونوا مدافعين موثوقين عن المؤسسات الديمقراطية. اليونانيون ادركوا انهم ليكونوا شجعانا يعني انهم اشخاص يمكن وضع الثقة بهم. ذلك النوع من الشجاعة لايبرز تلقائيا انه يجب ان يُغرس. اذا اردنا إعداد المواطنين للحياة العامة يجب ان نذهب الى ما وراء المدارس القديمة للتعليم المدني. إعداد الناس للديمقراطية يجب ان يكون في قلب الرسالة التعليمية للمؤسسات والمدارس العامة. التعليم يجب ان يستلزم ترويض وتعويد الممارسين الطموحين ليشعروا ويتشاوروا ويحكموا ويعملوا في خدمة الصالح العام، انه يجب ان يزرع فضيلة مدنية عبر تهيئة الفرص وغرس المعرفة والمهارة والتحفيز ليكونوا مواطنين جيدين ورجال دولة، وانه يجب الحفاظ على فكرة ان السياسة فعالية نبيلة.

ارسطو شكا من ان السياسيين عملوا القليل لتعليم زملائهم المواطنين كيفية التشريع (NE,1181a). تلك الشكوى لازال صداها بعد الفي سنة.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق