q
أدى الجفاف وغياب شبه تام للأمطار خلال السنوات الثلاث الأخيرة إلى تراجع كبير في منسوب نهري دجلة والفرات، فضلاً عن انخفاض مستوى المياه المتدفقة من الأنهار التي تنبع من دولتي الجوار إيران وتركيا إلى العراق الذي يُعد، بين البلدان الخمسة الأكثر عرضةً لتأثيرات التغير المناخي والتصحر في العالم...

الأزمات العراقية مترابطة والأزمة السياسية تزيد الازمات الأمنية والاقتصادية والزراعية والمائية تعقيدا، وهكذا هي تتداخل مع الوضع السياسي المضطرب بسبب غياب التخطيط على كافة المستويات وتعقّد هذه الازمات الى حدود اصبح من المستحيل استيعابها، بالخصوص الكارثة البيئية واستفحال الجفاف والتصحر مما يتسبب بنزوح وهجرات جماعية كبيرة خصوصا من الجنوب الفقير والمثخن بالأزمات.

فقد أدى الجفاف وغياب شبه تام للأمطار خلال السنوات الثلاث الأخيرة إلى تراجع كبير في منسوب نهري دجلة والفرات، فضلاً عن انخفاض مستوى المياه المتدفقة من الأنهار التي تنبع من دولتي الجوار إيران وتركيا إلى العراق الذي يُعد، بحسب السلطات العراقية، بين البلدان الخمسة الأكثر عرضةً لتأثيرات التغير المناخي والتصحر في العالم.

وبسبب الجفاف ونقص المياه نزحت 1200 عائلة من مناطق أهوار ومناطق زراعية في محافظة ذي قار في جنوب العراق على مدى ستة أشهر، كما أفاد مسؤول محلي.

وقال مدير دائرة الزراعة في محافظة ذي قار في جنوب العراق صالح هادي لفرانس برس إن "ما يقارب 1200 عائلة من مربي الجواميس والمزارعين من مناطق الأهوار ومناطق أخرى" في المحافظة نزحت من مناطقها "بسبب شح المياه والجفاف" وذلك "بحثاً عن مصادر عمل وعيش".

وبدأت هذه الهجرة منذ شهر نيسان/ابريل، وفق هادي لا سيما من أهوار الجبايش وقرية المنار في أهوار الحمّار وأهوار أم الودع ومناطق السيد دخيل والإصلاح والطار" الزراعية التي يعتمد سكانها على الزارعة وتربية الجواميس خصوصاً.

وأوضح أن 2053 جاموساً نفق نتيجة الجفاف.

وأضاف أن "نصف العائلات المذكورة توزعت بين مناطق أخرى تقع شمال مدينة الناصرية للسكن على شواطئ الأنهار". أما عائلات أخرى فتوجهت نحو مناطق زراعية في محافظات أخرى تتوفر فيها مياه مثل بابل وكربلاء والكوت والبصرة وبغداد.

وفي ظل الانخفاض الحاد في مياه الأهوار، حذرت منظمة الأغذية والزراعة في الأمم المتحدة (فاو) في تقرير نشر منتصف تموز/يوليو من أن الأهوار من "إحدى أكثر المناطق تضرراً من تغير المناخ ونقص المياه" في العراق.

وأشارت إلى "آثار كارثية على سبل عيش أكثر من ستة آلاف أسرة ريفية إذ إنها فقدت جواميسها التي تعد مصدر رزقها الوحيد".

وخلال الصيف، اختفت مساحات مائية واسعة جداً من هور الحويزة الواقع على الحدود مع الجارة الشرقية إيران، وهور الجبايش الذي يعدّ مقصداً سياحياً إلى الجنوب، وتحولت هذه المستنقعات أرضا جافة متشققة نبتت بينها شجيرات صفراء.

ويعيش العراق في العام 2022 أسوأ سنوات الجفاف منذ نحو 92 عاماً، كما أعلنت وزارة الموارد المائية. وأعلن مستشار الوزارة لوكالة الأنباء العراقية في أيلول/سبتمبر أن "السنة الحالية من أقسى سنوات الجفاف التي مرت على العراق منذ عام 1930".

وأرجع ذلك إلى "النقص في كميات الأمطار الساقطة لسنوات متكررة منذ عام 2020 وحتى الآن"، إضافة إلى انخفاض "الواردات التي تأتي من دول الجوار إذ تعد من أسباب النقص الحاد في التخزين المائي".

والاهوار هي واحدة من أفقر المناطق في العراق وواحدة من أكثر المناطق تضررا من تغير المناخ ونقص المياه، مما تسبب في آثار كارثية على سبل العيش لأكثر من 6000 أسرة ريفية إذ أنهم فقدوا جواميسهم، وهي أصولهم الحية الفريدة.

ويتزايد عدد مربي الجواميس الذين يغادرون هذه المناطق التي تتعرض لظروف بيئية معادية لهم ولحيواناتهم للعيش فيها، وقد نزح البعض لمناطق ومحافظات قريبة مثل الكوت والسماوة والنجف وكربلاء والشطرة حيث تتوفر المياه لهم ولحيواناتهم، فيما باع بعض مربي الجواميس حيواناتهم بأسعار منخفضة لشراء الأعلاف للحيوانات التي تم إنقاذها.

وتحول آخرون إلى فرص أخرى لكسب الرزق لأنهم فقدوا أصولهم المعيشية، أي الجواميس التي تموت بشكل متزايد لأنها تعلق في طين المستنقعات عندما تحاول السباحة أو الوصول إلى قصب الرعي، بالإضافة إلى انخفاض إنتاج حليب الجاموس وانخفاض أسعار بيعهم وتدهور حالتهم الصحية بسبب نقص الغذاء في الأهوار، بحسب المنظمة الأممية.

ودعت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) في العراق إلى "دعم عاجل ومتسق لمربي الجواميس، مثل توفير المياه وخزانات المياه والأعلاف والديزل للقوارب في الأهوار العراقية"، مؤكدة أن "من دون تدخل سريع من الجهات الوطنية والدولية، سيتعين على المزارعين الذين عاشوا هناك لأجيال التخلي عن أراضيهم إلى الأبد".

وحثت المنظمة الأممية على "تنفيذ استراتيجية متوسطة وطويلة المدى مع أنشطة مستدامة تظهر احتمالات جيدة لتقديم الإغاثة للمناطق ومربي الجواميس المتضررين حتى يتمكنوا من الاستمرار في العيش في هذه المناطق".

وطالبت بـ"تخصيص المزيد من الموارد المالية من المانحين والمجتمع الدولي لمساعدة المجتمعات الضعيفة التي تأثرت بشدة من نقص مستوى المياه وتغير المناخ في الأهوار العراقية ولمزيد من التعاون مع الحكومة العراقية و الشركاء المحليين للحد من تأثير الأزمة".

دجلة يصارع الموت

روى جنة عدن وسومر وبابل عبر التاريخ، لكن نهر دجلة اليوم يصارع الموت. إذ يهدّد النشاط البشري الجائر والتغيّر المناخي بمحو شريان حياة عمره آلاف السنوات.

في هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه 42 مليونا، ويعتبر مصدرا للحضارة وللزراعة، الكوارث الطبيعية لا تعد ولا تحصى.

بدءا من نيسان/أبريل، تتجاوز الحرارة 35 درجة مئوية وتتتالى العواصف الرملية مغطية البشر والحيوانات والآلات بغشاء برتقالي.

ثم يحل فصل الصيف، موسم الجحيم بالنسبة إلى العراقيين، حين تصل الحرارة إلى 50 درجة مئوية وتنقطع الكهرباء بسبب زيادة الضغط على الشبكة.

أصبح العراق اليوم واحدا من أكثر خمسة بلدان في العالم عرضة لعواقب تغيّر المناخ، بحسب الأمم المتحدة، مع الجفاف وانخفاض نسبة الأمطار وارتفاع درجات الحرارة والتصحّر المتسارع.

وتأثّر بذلك نهر دجلة مع تراجع الأمطار، وكذلك بسبب السدود المبنية في تركيا حيث ينبع النهر.

وجاب مصور فيديو من وكالة فرانس برس ضفاف النهر، من المنبع العراقي في الشمال إلى البحر في الجنوب، للإضاءة على هذه الكارثة التي أجبرت السكان على تغيير أسلوب حياتهم.

تبدأ الرحلة العراقية لنهر دجلة في جبال كردستان عند تقاطع العراق وسوريا وتركيا. هنا، يكسب السكان لقمة عيشهم من خلال زراعة البطاطا وتربية الأغنام.

على الحدود مع سوريا، قرب الحدود مع تركيا، يقول بيبو حسن دولماسا المتحدّر من قرية زراعية في منطقة فيشخابور، والبالغ 41 عاما، "حياتنا تعتمد على دجلة. عملنا وزراعتنا يعتمدان عليه".

ويضيف "إذا انخفض منسوب المياه، ستتأثر زراعتنا ومنطقتنا بالكامل".

ويوضح "إن المياه تتناقص يوما بعد يوم. من قبل، كانت المياه تتدفق في سيول".

وتتهم السلطات العراقية والمزارعون الأكراد في العراق تركيا بقطع المياه عن طريق احتجازها في السدود التي أنشأتها على المجرى قبل وصوله الى العراق.

وتؤكد الإحصاءات الرسمية ذلك: فمستوى نهر دجلة لدى وصوله من تركيا هذا العام لا يتجاوز 35 في المئة من متوسط الكمية التي تدفقت على العراق خلال المئة عام الماضية.

وكلما ازداد احتجاز المياه، قلّ تدفق النهر الذي يمتدّ على 1500 كيلومتر يجتازها نهر دجلة قبل أن يندمج مع توأمه نهر الفرات ويلتقيا في شط العرب الذي يصب في الخليج.

ويشكّل هذا الملف مصدرا للتوتر.

وتطلب بغداد بانتظام من أنقرة الإفراج عن كميات أكبر من المياه. وردا على ذلك، دعا السفير التركي لدى العراق علي رضا غوني في تموز/يوليو العراقيين إلى "استخدام المياه المتاحة بفعالية أكبر". وأضاف في تغريدة "المياه مهدورة على نطاق واسع في العراق".

حتى أن الخبراء يتحدّثون عن أساليب ريّ طائشة: كما في زمن السومريين، يستمر المزارعون العراقيون في إغراق حقولهم لريّها ما يؤدي إلى هدر هائل في المياه.

سنهاجر بسبب المياه

في بعض الأماكن، يبدو النهر مثل برك ناتجة عن مياه الأمطار. فالتجمعات الصغيرة للمياه في مجرى نهر ديالى هي كل ما تبقى من رافد نهر دجلة في وسط العراق الذي بدونه، لا يمكن زراعة أي شيء في المحافظة.

وبسبب الجفاف، خفضت السلطات هذا العام المساحات المزروعة في كل أنحاء البلاد إلى النصف. ونظرا إلى أن لا مياه كافية في ديالى، فلن يكون هناك حصاد.

ويشكو المزارع أبو مهدي (42 عاما) قائلا "سنضطر إلى التخلي عن الزراعة وبيع ماشيتنا ونرى أين يمكننا أن نذهب".

ويضيف "لقد شردتنا الحرب (إيران والعراق في الثمانينات). الآن سنهاجر بسبب المياه. بدون الماء، سنصبح نازحين، ولا يمكننا مطلقا العيش في هذه المناطق".

ويتابع أبو مهدي "استدنتُ لحفر بئر عمقه 30 مترا، لكنه كان فشلا تاما"، موضحا أن المياه المالحة لا يمكن حتى استخدامها في الري أو للحيوانات.

وبحلول العام 2050، "سيؤدي ارتفاع الحرارة درجة مئوية واحدة وانخفاض المتساقطات بنسبة 10%، إلى انخفاض بنسبة 20 % في المياه العذبة المتاحة" في العراق، وفق ما حذّر البنك الدولي نهاية العام 2021.

وحذّرت الأمم المتحدة والعديد من المنظمات غير الحكومية في حزيران/يونيو من أن ندرة المياه والتحديات التي تواجه الزراعة المستدامة والأمن الغذائي، هي من "الدوافع الرئيسية للهجرة من الأرياف إلى المناطق الحضرية" في العراق.

بحلول نهاية آذار/مارس 2022، نزحت أكثر من 3300 أسرة بسبب "العوامل المناخية" في عشر مقاطعات من وسط البلاد وجنوبها، وفقا لتقرير نشرته المنظمة الدولية للهجرة في آب/أغسطس.

رواسب رملية ونفايات

هذا الصيف، كان منسوب نهر دجلة منخفضا في بغداد لدرجة أن وكالة فرانس برس صوّرت شبانا يلعبون الكرة الطائرة في وسط النهر. وكانت المياه تصل بالكاد إلى مستوى خصورهم.

وتردّ وزارة الموارد المائية ذلك الى "الرواسب الرملية". فنظرا إلى أن هذه الرواسب لم تعد تنصرف باتجاه الجنوب بسبب نقص تدفّق المياه، تراكمت في قاع دجلة واختلطت بالمياه المبتذلة، ما أدى إلى صعوبة تدفق مياه النهر.

حتى وقت قريب، كانت الحكومة ترسل آلات لشفط الرمال الراكدة في قاع النهر، لكن بسبب نقص الموارد، توقّفت غالبية المضخات عن العمل.

وتقول الناشطة البيئية هاجر هادي (28 عاما) إن هناك "قلة إدراك" لحجم المشكلة من جانب الحكومة والسكان، علما أن "العراقيين يشعرون بالتغيرات المناخية التي تترجم بارتفاع درجات الحرارة وانخفاض منسوب المياه وتراجع هطول الأمطار والعواصف الترابية".

وتضيف "هذه العواصف الترابية لا تأتي من العدم، بل من زيادة التصحر وقلة المساحات الخضراء".

وتوضح أن "نقص المياه من الدول المجاورة يزيد الجفاف وبالتالي التصحر".

تربة مالحة

وكانت المحطة الأخيرة في رأس البيشة. هناك، على حدود العراق وإيران والكويت، يتدفق شط العرب إلى الخليج.

ويقول الملا عادل الراشد، وهو مزارع نخيل يبلغ 65 عاما، "انظروا إلى أشجار النخيل هذه، إنها عطشى. تحتاج إلى الماء. هل أرويها بالكوب؟".

ويضيف "انتهى نهرا دجلة والفرات. لا توجد مياه عذبة، لم تعد هناك حياة. النهر مياه مالحة".

مع انخفاض منسوب المياه العذبة، بدأت مياه البحر تغزو شط العرب. وتشير الأمم المتحدة والمزارعون بأصابع الاتهام إلى أثر تملّح المياه على التربة وانعكاساته على الزراعة والمحاصيل.

ويشتري الملا عادل الراشد المياه العذبة من صهاريج حتى يتمكن من الشرب هو وحيواناته.

ويقول إن الحيوانات البرية حتى تغامر بالذهاب إلى المنازل للحصول على مياه الشرب من السكان.

ويضيف بحزن "حكومتي لا تزودني المياه. أريد ماء، أريد أن أعيش، أريد أن أزرع، كما فعل أجدادي الذين زرعوا أشجار النخيل واستفادوا من التمر".

ويعود نعيم حداد حافي القدمين بقاربه إلى منزله بعد يوم من الصيد في شط العرب.

على أطراف البصرة في أقصى جنوب العراق، تستقبله إحدى بناته الخمس على الضفة فيما يعرض كيسا مليئا بالسمك.

ويقول الرجل الأربعيني "نكرّس حياتنا للصيد بالتوارث"، مشيرا الى أن ذلك هو مصدر رزقه الوحيد الذي يسمح له بإعالة أسرته المكونة من ثمانية أفراد. "لا راتب حكوميا، ولا علاوات".

ويتابع حداد "في الصيف، لدينا مياه مالحة، ومياه البحر ترتفع وتصل إلى هنا".

وبلغ مستوى الملوحة في شط العرب في شمال البصرة 6800 جزء في المليون، وفق ما أفادت السلطات المحلية مطلع آب/أغسطس. من حيث المبدأ، لا تتجاوز نسبة الملوحة في المياه العذبة ألف جزء في المليون، وفقا لمعايير المعهد الأميركي للجيوفيزياء الذي يحدّد مستوى المياه "المتوسطة الملوحة" بين ثلاثة و10 آلاف جزء في المليون.

وأدى ذلك إلى هجرة أنواع معينة من أسماك المياه العذبة التي تحظى بشعبية كبيرة لدى الصيادين من شط العرب، ما يتسبب في ظهور أنواع أخرى تعيش عادة في أعالي البحار.

ويقول حداد "إذا نزلت المياه، انخفض الصيد وقلّت مصادر رزقنا".

أمن العراق الغذائي مهدد

من جهتها أكدت وزارة الموارد المائية مؤخرا، أن العام الجاري 2022، هو من أقسى سنوات الجفاف في العراق على مدى نحو قرن وتحديدا منذ العام 1930، محذرة من أن الخطة الزراعية الشتوية ستكون في وضع بالغ الحراجة حال استمرار غياب الأمطار.

ويحذر خبراء من أن تضرر موسم الزراعة الشتوية، سينعكس تعقيدا أكثر لأزمة ارتفاع أسعار السلع الغذائية والمنتجات الزراعية في الأسواق العراقية، والتي باتت تثقل كاهل المستهلكين، وبما يهدد الأمن الغذائي للبلاد ككل.

وما يزيد من خطورة الوضع في ظل ما تعانيه البلاد من جفاف وشحة مائية واتساع لنطاقات التصحر وتراجع المساحات الزراعية والخضراء.

يقول الخبير المناخي والبيئي العراقي أيمن هيثم قدوري، في لقاء مع "سكاي نيوز عربية": "سكان العراق ولغاية عام 1977 كانوا بنسبة 70 إلى 80 بالمئة من العاملين بالقطاع الزراعي، وكان العراق أشبه بالسلة الغذائية في المنطقة العربية، حيث وصلت المساحات الزراعية لقرابة 30 بالمئة من مساحة البلاد، ولأعوام ليست بالبعيدة وتحديدا قبل 2003، كانت معظم مكونات المائدة العراقية من المنتجات المحلية، باستثناء نحو 6 بالمئة فقط من المحاصيل الزراعية المستوردة".

ويضيف: "آثار العجز المائي بمعظم مناطق العراق باتت واضحة، بسبب موسم الجفاف الطويل الممتد على مدار عامين ماضيين وعام ثالث نعيش شهوره الأخيرة، حيث تخلل هذه السنوات العجاف انقطاع بهطول الأمطار في ثلثي مساحة العراق باستثناء شمال وشمال شرق البلاد".

قال قدوري: "اتجهت الجهات الحكومية المعنية عبر وزارتي الزراعة والموارد المائية في شهر سبتمبر المنصرم، لوضع خطة للموسم الزراعي الشتوي، أبرز ما جاء فيها هو توجيه المزارعين بعدم زراعة المحاصيل التي تحتاج كميات مياه كبيرة مثل الأرز، والاعتماد على الساقط المطري لتأمين احتياجات الموسم الزراعي القادم من المياه.

وأضاف: الخطة ستفشل في حال كان الشتاء القادم شتاء فقيرا مطريا، وهو الاحتمال الأكثر واقعية بظل تسارع وتائر التغير المناخي المتطرف، والتنبؤات التي تشير لشتاء ذو برد قارس مع انقطاع هطول الأمطار لأكثر من 60 بالمئة من مساحة العراق، ما سيدفع قاطني المناطق الزراعية لترك مزارعهم واللجوء لمراكز المدن بحثا عن لقمة العيش".

وأردف: "الأجدر إقرار سلسلة من الاجراءات لمواجهة الأزمة أبرزها، دعم القطاع الزراعي بتوفير وسائل ري حديثة، ودعم دور الباحث الزراعي في توفير بيئة ملائمة تواكب التغيرات البيئية والمناخية الطارئة، وشق القنوات الفرعية وإعادة المياه المحملة بالمواد الكيمياوية والأسمدة إلى المجاري الرئيسية، وربما التوجه لتجريم هذه الممارسات كونها تسبب هدرا لكميات كبيرة.

وأضاف: "علاوة على توزيع فرق تفتيش وزارة الموارد المائية بمحافظات العراق كافة، واعطائها صلاحيات تمكنها من ردع المتسببين بهدر مياه الخزين الجوفي من خلال حفر الآبار غير المرخصة، وغلقها لتجهيز الخزانات الجوفية لاستقبال جزء من مياه السيول القادمة من دول الجوار خلال الشتاء القادم، والتي من شأنها تجديد طبقة المياه وتحسين مواصفاتها من خلال عملية التغذية السطحية للخزان".

ويختم الخبير البيئي والمناخي: "الأزمات العراقية مترابطة الأمنية منها والاقتصادية والزراعية والمائية، وهكذا هي تتداخل مع الوضع السياسي المضطرب ما تسبب في غياب التخطيط على كافة المستويات".

وكانت وزارتا الزراعة والموارد المائية في العراق، قد قررتا في شهر أكتوبر من العام الماضي، تخفيض المساحة المقررة للزراعة في الموسم الشتوي بنسبة 50 في المئة قياسا بالعام 2020، وذلك بسبب قلة الإيرادات المائية.

العواصف الرملية

من جهته نشر المجلس الأطلسي على موقعه الإلكتروني تقريراً عن تكاثر العواصف الرملية في العراق ما يهدد الحياة في بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام. ولفت المجلس الذي يتخذ من واشنطن مقراً ويدرس العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا الغربية إلى أن الظاهرة، وعلى الرغم من أنها ليست بالجديدة، فإن تواترها وصل لمستويات غير مسبوقة منذ بداية الألفية الثالثة. وقال واضع التقرير، محمد باقر محيي الدين، مدير برامج السياسات لدى مجلس الشؤون العامة الإسلامية، ومقره لوس أنجليس والخبير في الشأن العراقي، إن العراق كان يشهد عاصفة رملية أو اثنتين خلال الشتاء من كل عام، لكن هذا العام، وقعت 10 عواصف رملية خلال شهري أبريل (نيسان) ومايو (أيار) فقط.

وأشار التقرير إلى أن العاصفة الرملية التي تستمر عادةً ما بين ثلاث وخمس ساعات، ويمكن أن يصل ارتفاعها إلى ألف و500 متر تمثل عقبة في وجه المواطن العراقي العادي. ووفق محيي الدين، تتسبب العواصف بوفيات وأمراض تنفسية بعيدة الأجل بسبب تنشق الرمال والغبار. وقدر عدد الذين أدخلوا إلى المستشفيات بسبب ذلك منذ مطلع العام بـ10 آلاف شخص، في حين أفادت السجلات الرسمية عن وفاة خمسة أشخاص. واضطرت الحكومة إلى إغلاق منشآت وزارية وبلدية كثيرة أثناء هبوب العواصف. وأجبرت الظاهرة السلطات على تعليق الرحلات الجوية كلها في المناطق المتأثرة، بما في ذلك العاصمة بغداد، خوفاً من معاناة الملاحين الجويين من انعدام الرؤية وما يستتبع ذلك من مخاطر محتملة.

وفي غياب دراسات عن التكلفة الاقتصادية لعواصف الغبار والرمال في العراق، لفت الموقع الإلكتروني إلى بعض الدراسات التي أجريت في هذا الصدد حول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فقد أجرى البنك الدولي الدراسة الأشمل عام 2019، وهي وجدت أن التكلفة الاقتصادية للوفيات المبكرة الناجمة عن استنشاق الرمال والغبار زادت بنسبة 123 في المئة بين عامي 1990 و2013 وارتفعت إلى 141 مليار دولار. ويوضح التقرير أن العراق عام 2013، عانى 10 آلاف و400 حالة وفاة مبكرة بسبب الغبار في الهواء، ما كلف الاقتصاد ما يقرب من 15 مليار دولار، أو ثلاثة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لذلك العام

. وقدرت دراسة البنك الدولي التكاليف المباشرة الناجمة عن وقف الرحلات الجوية عن العمل، والمحاصيل التالفة، وتعطل الإنتاج بسبب العطل التي فرضتها الحكومة بنحو 13 مليار دولار، ليصل إجمالي التكلفة الاقتصادية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من عواصف الغبار والرمال إلى أكثر من 154 مليار دولار سنوياً.

ونقل تقرير المؤسسة البحثية الأميركية عن وزارة البيئة العراقية تأكيدها في أبريل على أن الأيام المغبرة في العراق زادت على مدى العقدين الماضيين من 243 إلى 272 يوماً في العام، متوقعة أن تصل هذه الأيام إلى 300 يوم في العام بحلول عام 2050. ويشهد العراق حالياً عواصف غبار ورمال طوال فصول السنة كلها بسبب تغير المناخ وجفاف الأقاليم والتصحر وانخفاض احتياطيات المياه – وكلها عوامل أدت إلى تراكم الغبار. ووجدت الدراسات أن ما يصل إلى 71 في المئة من الأراضي الزراعية في ما كان "الهلال الخصيب" ذات يوم، مهددة بالتصحر بسبب تغير المناخ، الذي يقلل من الغطاء النباتي – العامل الرئيس لتحقيق الاستقرار في التربة. ووفق تقرير صدر عام 2019 عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، يعد العراق خامس أكثر البلدان ضعفاً في العالم أمام آثار تغير المناخ.

ووفق المجلس الأطلسي يفيد مسؤولون عراقيون بأن احتياطيات المياه في العراق انخفضت بأكثر من 50 في المئة خلال العام الماضي "بسبب ضعف هطول الأمطار ومستويات المياه في نهري دجلة والفرات، اللذين يمثلان 98 في المئة من احتياطيات المياه في العراق مجتمعة. ومن المتوقع حالياً أن يجف النهران بحلول عام 2040 إذا لم تتخذ أي إجراءات بسبب انخفاض مستويات المياه وتغير المناخ".

ينبع نهرا دجلة والفرات من تركيا، ويصبان في حوض شط العرب في العراق، بينما يعبر نهر الفرات سوريا قبل أن يصب في العراق. وبسبب تقاعس الحكومة العراقية عن العمل، تعد خطط تركيا لتغيير تدفقات النهرين عوامل رئيسة تسهم في الجفاف في العراق. وتفتخر الحكومة التركية، التي تبني محطات للطاقة الكهرومائية على ضفاف الأنهار، بأن خططها هي مصدر وفير للكهرباء الخالية من الكربون. ومع ذلك، يحذر خبراء من أن السدود التركية تتسبب في خسائر بشرية وبيئية. وهذا، إلى جانب نقص هطول الأمطار الذي يقلل من الغطاء النباتي، يجعل العراق عرضة إلى هبات صغيرة من الرياح وتوسع الغبار والعواصف الرملية.

ونصح محيي الدين العراق بأن يتخذ "تدابير عاجلة لمعالجة العوامل التي تسهم في زيادة عواصف الغبار والرمال، إذ يجب على الحكومة العراقية أن تتبنى إصلاحاً ثقافياً وتشريعياً أكثر وعياً بالبيئة، لكي يكون كل مواطن على دراية بكيفية مساهمته في زوال العراق الصالح للسكن". وتشمل الحلول الممكنة، وفق الكاتب، تشريعات تعيد زراعة الأراضي المتصحرة من خلال زيادة الزراعة وتشجيع المزارعين على زراعة البساتين ومحاصيل حول المدن والبلدات والقرى. وفي الثمانينيات من القرن العشرين، كان ثمة ما يقدر بـ30 مليون شجرة نخيل في العراق. "ومع ذلك، وبسبب الإجراءات التي اتخذها النظام البعثي في عهد الديكتاتور العراقي صدام حسين والفوضى التي أعقبت غزو عام 2003، بقي في العراق حالياً أقل من 12 مليون شجرة نخيل". وعام 1995، كان لدى العراق بعض من أكثر أنواع التربة إنتاجية في العالم، إذ مثلت الزراعة أكثر من 18 في المئة من اقتصاد البلاد. "أما اليوم، فهي تمثل أقل من اثنين في المئة". وحض محيي الدين على جعل تقنيات الري الحديثة – مثل الري بالتنقيط والرش – القاعدة في العراق، لأن هذه التقنيات تقلل في شكل غير مباشر من هدر المياه من قبل المزارعين.

وشدد المجلس الأطلسي على أن الظاهرة التي تهدد الحياة في العراق ليست غير مسبوقة، إذ بدأ كثير من الدول المجاورة للعراق بالفعل في معالجة تهديد تغير المناخ. ونصح العراق بالاستفادة من تجارب السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر والجمهورية التركية وغيرها، واستخدام الدراسات المنشورة لمعرفة الأساليب التي قد تكون أكثر فاعلية في معالجة تغير المناخ داخل حدوده. "ولمكافحة تهديد تغير المناخ في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في شكل فاعل، من الضروري أن تعمل البلدان المتجاورة معاً لوضع خطة لتغير المناخ تأخذ في الاعتبار حماية سكان المنطقة جميعاً".

اضف تعليق