q
على الرغم من الاجراءات التي اتخذتها الحكومة للسيطرة على ارتفاع سعر الدولار الذي يُعد محور التنمية الاقتصادية وعمادها لم تستطع تخفيضهُ وإعادتهُ إلى السعر المحدد، ويعزى ذلك ليس إلى الاجراءات المتواضعة التي اتخذتها الحكومة فحسب، بل إلى مأسسة الفساد في مفاصل أجهزة الدولة وصنع القرار. لذا أمام حكومة...

أتت حكومة السوداني وفقاً للمعادلة القديمة التي تشكلت على وفقها كافة الحكومات بعد عام 2003، لكن ما يميز المعادلة الجديدة في تشكل الحكومة الحالية، هو الرهان الذي ألزمت بهِ نفسها الكتل المكونة للحكومة، والذي ينص على أن يكون عمل الحكومة الجديدة (حكومة السوداني) مختلفا عن كل الحكومات السابقة، وحتمية تحقيق أكبر انجاز ممكن خاصة في المجال الاقتصادي والمالي، بعد أن ضعف احتمال تشكيل حكومة وفقاً لمعادلة الأغلبية والمعارضة بقيادة (الكتلة الصدرية).

وتبعا لذلك ذهبت حكومة السوداني لطرح برنامجها الحكومي ليتضمن مجموعة من الأهداف والأولويات التي تسعى الحكومة إلى تحقيقها، ويأتي على رأسها النهوض بواقع القطاع الخاص وتنمية الاقتصاد الوطني، وتخفيض البطالة، والقضاء على الفقر، والحفاظ على استقرار سعر الصرف الذي يرتبط بطريقة مباشرة وغير مباشرة بكل تلك الأهداف، بعد إن تم رفعه إلى (1,450) دينار مقابل كل دولار امريكي في الحكومة السابقة (حكومة الكاظمي). (للإطلاع على برنامج حكومة السوداني ينُظر الرابط: https://gds.gov.iq/ar/summary-of-the-ministerial-programme-of-the-new-iraqi-government/)

وبعد مضي أكثر من شهر ونصف على تصوت مجلس النواب العراقي على برنامج حكومة السيد محمد شياع السوداني، وذلك في تاريخ (27/11/2022)، بدأ انخفاض سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الامريكي بشكل ملحوظ متجاوزا السعر الرسمي بأكثر من (11,000) دينار عراقي، مما انعكس بشكل سلبي على مجمل الوضع الاقتصادي في العراق، خاصة القطاع الخاص، والحقيقة لا يعزى هذا الارتفاع في قيمة صرف الدولار مقابل الدينار إلى سبب واحد بعينة، بل إلى مجموعة من الأسباب يمكن تشخيصها بالنقاط الآتية:-

أولا: خروج اربعة مصارف كبيرة كان لها الحصة الأكبر في عملية شراء الدولار من البنك المركزي العراقي (مزاد بيع العملة) بعد ان فرضت عليها الخزانة الامريكية عقوبات بسبب شبهات فساد وعدم شفافية في التعامل المالي.

ثانيا: حوكمة مزاد العملة: حيث بدأ البنك المركزي بتأسيس منصة إلكترونية جديدة لبيع الدولار للمصارف وعملية الحوالات الخارجية، إذ يتطلب هذا النظام الجديد تفاصيل دقيقة عن عملية بيع الدولار والحوالات الخارجية متوافقا مع النظام المالي العالمي "سويفت" (SWIFT)، مما أدى إلى تراجع الحوالات الخارجية إلى النصف تقريبا بسبب عدم دخول معظم المصارف إلى النظام الإلكتروني الجديد.

ثالثا: المضاربة بالعملة: مع التشديد على عملية بيع الدولار في البنك المركزي من قبل وزارة الخزانة الامريكية انخفض حجم مبيعات نافذة العملة نحو (60%) عما كان عليه قبل شهر، إذ بلغ اجمالي بيع النافذة من العملة الاجنبية نحو (134) مليون دولار في تاريخ 12/12/2022، بينما وصل بيع النافذة في تاريخ 12/1/2023 إلى (53) مليون دولار، هذا الانخفاض الكبير سمح في اتساع حجم المضاربات في الدولار من قبل المصارف التي لم تدخل في مزاد بيع العملة، مما أدى إلى اتساع السوق الموازية.

رابعا: طلب الدولار من قبل الدول المجاور: لا يخفي على المختصون في الشأن المالي والاقتصادي إن هناك عملية يتم من خلالها تهريب العملة الاجنبية من العراق إلى بعض الدول المجاورة، وذلك عبر أدوات وأذرع داخلية تتخذها هذه الدول كواسطة لشراء الدولار من البنك المركزي أو المصارف التجارية أو السوق السوداء ومن ثم تهريبها إلى هذه الدول، إذ بعد أتمتة عملية دخول مزاد العملة وجدت هذه الوسائط صعوبة في عملية الحصول على الدولار، مما اضطرها في اللجوء للشراء من السوق السوداء بأسعار أعلى من السعر التجاري.

وتبعا لذلك، انعكس هذا الارتفاع في سعر الدولار بشكل ملحوظ على مجمل الاقتصاد الوطني الذي يعاني اصلا من ركود وبطالة كبيرة، وبالرغم من أن البنك المركزي ما يزال يبيع الدولار وفق السعر الرسمي (1,460) دينار، والتي يفترض معظمها مخصصة للاستيراد من الخارج، إلا إن اسعار السلع بدأ بالارتفاع بشكل تدريجي، مما انعكس على القوة الشرائية للمواطن البسيط، هذا دفع بالمعارضين لحكومة السوداني للتكهن بعدم قدرة هذه الحكومة على تنفيذ ولو جزءا بسيطا من منهاجها الوزاري الذي الزمت به نفسها.

والواقع عند النظر بشكل شمولي لمجريات الاحداث السياسية والاقتصادية في العراق، نجد إن هناك نوع من الحقيقة في تكهن المعارضين لحكومة السيد السوداني، إذ على الرغم من الاجراءات التي اتخذتها الحكومة للسيطرة على ارتفاع سعر الدولار الذي يُعد محور التنمية الاقتصادية وعمادها لم تستطع تخفيضهُ وإعادتهُ إلى السعر المحدد، ويعزى ذلك ليس إلى الاجراءات المتواضعة التي اتخذتها الحكومة فحسب، بل إلى مأسسة الفساد في مفاصل أجهزة الدولة وصنع القرار.

لذا أمام حكومة السيد السوداني سيناريوهان سيحددانهما عملية السيطرة على سعر صرف الدولار:-

السيناريو الأول: تواصل عملية ارتفاع صرف الدولار مقابل الدينار وصولا إلى مرحلة التضخم الركودي، مما سيدفع بالمعرضين إلى تحشيد الجمهور وإسقاط حكومة السوداني.

السيناريو الثاني: السيطرة على عملية ارتفاع الدولار بحدود عليا، وإعادة الاستقرار والثقة بالعملة المحلية، وهذا يستوجب الخطوات الآتية:-

أولا: دعم الكتل السياسية كافة لإجراءات السيد السوداني من دون شروط أو تدخل مباشر او غير مباشر.

ثانيا: السيطرة على عملية تهريب الدولار إلى دول الجوار، وذلك عبر اتخاذ جملة من التدابير الصارمة بحق المصارف المتعاملة مع المهربين والوسائط داخل اجهزة الدولة، وتفعيل دور الأمن الاقتصادي.

ثالثا: يمكن أن تتجه الحكومة إلى سعر صرف اشبه بالمدار، وذلك عبر توزيع رواتب الموظفين من الدرجة الخامسة فما دون بالدولار وفقا للسعر الرسمي عند ارتفاع سعر صرف الدولار إلى أكثر من (1,500) دينار، مع الاحتفاظ بعمولة البنك المركزي، وتوزيع الرواتب بالدينار العراقي لنفس الفئة عند انخفاض سعر صرف الدولار إلى اقل من (1,500) دينار، وذلك على اعتبار ان هذه الفئة تميل إلى الاستهلاك على خلاف الدرجات الأخرى ذوي الاجور المرتفعة التي تميل إلى ادخار العملة الصعبة إذا ما تم الحصول عليها، وعلى وفق هذه الطريقة يمكن تخفيض سعر الدولار في السوق والحفاظ على القوة الشرائية لأصحاب الدخل المنخفض.

رابعا: إعادة التفكير في عملية الاسواق المركزية، لما لها من أهمية كبيرة في ضبط استقرار اسعار السلع والبضائع، خاصة الاستهلاكية منها.

أخيرا يمكن القول: إن العملة سلعة مثلها في ذلك مثل أي سلعة تخضع لقانون السوق (العرض، والطلب)، فمتى زاد الطلب على العرض ارتفع سعر صرف العملة، ومتى انخفض الطلب على العرض يؤدي إلى انخفاض سعر صرف هذه العملة، ونظرا إلى تبني العراق نظام صرف ثابت وعدم وجود طلب على الدينار العراقي استوجب على إدارة السياسة النقدية (البنك المركزي) أن تقوم بإشباع الطلب على الدولار للحفاظ على الاستقرار المالي مع الأخذ بنظر الاعتبار والجدية مكافحة الفساد وتهريب العملة الاجنبية إلى خارج البلد.

اضف تعليق