q
من مصلحة الجميع بالتالي أن يستمر الطلب الاستهلاكي الصيني في التزايد. ورغم أن الإنفاق الاستهلاكي في الصين من غير المرجح أن يصل إلى 70% أبدا، فإن زيادته إلى 50% تُـعَـد هدفا معقولا ومرغوبا فيه تماما لمصلحة كل من الصين والعالم. وإذا كان للناتج المحلي الإجمالي الصيني...
بقلم: جيم اونيل

لندن ــ بينما نتقدم عبر عام 2021، تتزايد العلامات الدالة على العودة إلى الوضع المعتاد السابق للجائحة، على الأقل في البلدان التي لا تعاني من أشكال متغيرة جديدة خطيرة من فيروس كورونا. الواقع أن المؤشرات الاقتصادية العالية التردد (القصيرة الأمد) في العديد من أجزاء العالم تزداد قوة، وتُـفـسِـح المخاوف بشأن البطالة الجماعية المجال لمخاوف أخرى مرتبطة بالتضخم، ومؤخرا عقدت مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى (مجموعة السبع) قمة على المستوى الشخصي حيث التقى القادة وجها لوجه.

لكن الأمر لا يخلو من مشكلة في قلب الاقتصاد العالمي: إذ يبدو أن تفاعلات الصين مع بقية العالم اتخذت منعطفا سلبيا آخر بسبب الجائحة.

بعد أن أنشأت فئة الـ BRIC (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين) في عام 2001، تابعت عن كَـثَـب صعود الصين، وأصبحت في نظر كثيرين من المضاربين على صعود الصين. تملكني الحماس إزاء إمكانات الصين الاقتصادية في عام 1990، عندما زرت بكين لأول مرة أثناء عملي في مؤسسة البنك السويسري. وبينما كنت أتجول في أسواق الشوارع الصاخبة، فاجأني إلى أي مدى بدا الأمر طبيعيا. هل من الممكن أن يتحول هذا البلد الذي يُـفـتَـرَض أنه "شيوعي" إلى قوة رئيسية في الاقتصاد العالمي؟

ظل هذا السؤال عالقا في ذهني طوال فترة تسعينيات القرن العشرين، وهو ما يرجع جزئيا إلى قلق خبراء الاقتصاد الكلي الدوليين المتواصل إزاء اعتماد الاقتصاد العالمي المتزايد على الاستهلاك في الولايات المتحدة. ظلت هذه المخاوف تتراكم منذ أيامي الأولى كخبير اقتصادي محترف في ثمانينيات القرن العشرين، عندما وجدت نفسي في قلب معضلات السياسة التي أحاطت باتفاقيتي بلازا (1985) واللوفر (1987).

في ذلك الوقت، كان صناع السياسة في الولايات المتحدة حريصين على تعزيز الطلب المحلي في البلدان المتقدمة الأخرى (على وجه التحديد، ألمانيا واليابان). وفي أعقاب النجاح النسبي الذي حققته الصين في التعامل مع الأزمة المالية الآسيوية عام 1997، بدأت أنظر إليها باعتبارها المحرك العالمي البديل الذي كان الجميع يبحثون عنه.

لكن الهدف المتمثل في تعزيز الاستهلاك المحلي يشكل معضلة لنموذج التنمية الصيني. تُـظـهِـر معظم البيانات أن الإنفاق الاستهلاكي الصيني لا يزال يمثل في الأرجح أقل من 40% من الناتج المحلي الإجمالي الصيني. خلال القسم الأعظم من العقود الثلاثة الأخيرة (وخاصة في السنوات الأولى)، تغذى الطاغوت الصيني على الإنفاق الاستثماري والصادرات. تتناقض نسبة الاستهلاك إلى الناتج المحلي الإجمالي المتواضعة في الصين بشكل صارخ مع نظيرتها في الولايات المتحدة، التي من المحتمل أن تكون مفرطة عند نحو 70%. والنتيجة، في ما يتصل بالاقتصاد العالمي، أن الإنفاق الاستهلاكي في الصين لا يتجاوز فنيا ثلث الإنفاق الاستهلاكي في الولايات المتحدة.

لكن هناك عدة نقاط إضافية جديرة بالملاحظة. في حين لا يزال الإنفاق الاستهلاكي الصيني منخفضا نسبيا، فقد ارتفع من نحو سدس نظيره في الولايات المتحدة على مدار السنوات العشرين الأخيرة. علاوة على ذلك، كان لهذا النمو الهامشي تأثير أقوى كثيرا على الاقتصاد العالمي مقارنة بالتغيرات التي طرأت على الاستهلاك في الولايات المتحدة. ويتمتع النفوذ العالمي الذي يفرضه المستهلك الصيني بقدرة هائلة على تحقيق المزيد من الارتفاع مقارنة بنفوذ المستهلك في الولايات المتحدة.

من مصلحة الجميع بالتالي أن يستمر الطلب الاستهلاكي الصيني في التزايد. ورغم أن الإنفاق الاستهلاكي في الصين من غير المرجح أن يصل إلى 70% أبدا، فإن زيادته إلى 50% تُـعَـد هدفا معقولا ومرغوبا فيه تماما لمصلحة كل من الصين والعالم. وإذا كان للناتج المحلي الإجمالي الصيني (مقوما بسعر الدولار الأميركي الحالي) أن ينمو ليضاهي مثيله في الولايات المتحدة بحلول عام 2030، فإن نسبة الاستهلاك إلى الناتج المحلي الإجمالي بنحو 50% تعني إضافة 4 تريليونات دولار أخرى إلى الإنفاق الاستهلاكي على مستوى العالم.

في مداولاتهم الأخيرة، أعرب قادة الصين عن رغبتهم في مضاعفة دخول الأسر خلال السنوات الخمس عشرة المقبلة، مما يعني ضمنا زيادة سنوية تبلغ نحو 4.5% في المتوسط في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (معدلا تبعا للتضخم). ونظرا لشيخوخة قوة العمل في الصين، فإن هذا الهدف يُـعَـد أكثر واقعية من هدف يحاول مضاهاة معدلات النمو التي كانت عند خانة العشرات في الماضي، كما سيكون متوافقا في عموم الأمر مع صعود الاقتصاد الصيني إلى مستوى التكافؤ مع الولايات المتحدة. ولكن إذا لم تزدد نسبة الاستهلاك إلى الناتج المحلي الإجمالي في الصين، فأنا شخصيا أشك في قدرتها على تحقيق هدفها.

مثلها كمثل أي دولة أخرى، سيكون النمو الاقتصادي في الصين مدفوعا في الأمد المتوسط بمعدل نمو الإنتاجية وحجم وتكوين قوة العمل لديها. ولأن قوة العمل توقفت عن النمو، فيجب أن يأتي النمو الاقتصادي الإضافي من الإنتاجية المتزايدة.

هنا، يتعين على الصين أن تعكف على حل تناقض رئيسي. عادة، تكون القطاعات الأكثر إنتاجية في الاقتصاد هي التصنيع، وليس الخدمات؛ وفي قطاع التصنيع يكون من الأسهل تحقيق مكاسب الإنتاجية الإضافية. لكن الصين يجب أن تعمل في الوقت ذاته على تعزيز الدور الذي يلعبه الاستهلاك الشخصي، وهو ما يعني في عموم الأمر ارتفاع الطلب على الخدمات. بيد أن تحقيق كلا الهدفين في ذات الوقت ليس بالمهمة السهلة.

لا أظن أن صناع السياسات في الصين لم يفكروا بعد بالقدر الكافي في هذه المعضلة أو حول الكيفية التي قد تؤثر بها على التحديات الدولية الأخرى التي تواجه الصين. فحتى قبل اندلاع جائحة كوفيد-19، كان من الواضح أن اقتصاد الصين ببساطة أكبر من أن يتجاهل صناع السياسات هناك الآثار العالمية المترتبة على القرارات التي يتخذونها. الواقع أن قضايا تتراوح من عمالقة التكنولوجيا في الصين مثل شركة هواوي إلى تواجد الطلاب الصينيين في الجامعات الغربية أصبحت مصادر توتر. وبطبيعة الحال، لا يخلو الأمر من مخاوف دولية حول سجل حقوق الإنسان في الصين والإخفاقات المحلية التي سمحت بتحول كوفيد-19 من فاشية إلى جائحة عالمية.

في نهاية المطاف، ستحتاج الصين إلى بقية العالم إذا كانت راغبة في زيادة كل من الاستهلاك المحلي والإنتاجية. وأفضل طريقة تستطيع الصين من خلالها تحسين مكانتها الدولية هي من خلال الدبلوماسية الناعمة التي تحترم تفضيلات وتطلعات الدول الأخرى، بدلا من التعامل معها كمصادر للمواجهة. إذا لم يحدث مثل هذا التغيير في الموقف، لن تتمكن الصين من تحقيق هدفها المتمثل في مضاعفة الدخول في غضون خمسة عشر عاما، وهذا من شأنه أن يجعل شعبها ــ وبقية الناس ــ في حال أسوأ.

* جيم اونيل، الرئيس السابق لإدارة الأصول في جولدمان ساكس ووزير خزانة بريطاني سابق، ورئيس مجلس إدارة شاتام هاوس
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق