q
يكتسب بعض أصحاب المليارات في أميركا المجد والشهرة بسبب أعمالهم الخيرية. ولكن من ناحية أخرى، يتبنى أغلبهم موقفا شديد الأنانية في مختلف عملياتهم ــ حيث يحفرون خنادق أكثر عمقا لحماية الأرباح أو يعملون ببساطة على تدمير الشركات الأصغر حجما كلما سنحت لهم الفرصة. هناك تأثير...
بقلم: سايمون جونسون

واشنطن العاصمة ــ يبدو أن مشكلة أصحاب المليارات تزداد سوءا يوما بعد يوم. الواقع أن أي اقتصاد موجه نحو السوق يخلق الفرص لبناء ثروات جديدة، بما في ذلك من خلال الإبداع. ومن المرجح أن يتأتى المزيد من الإبداع حيثما يقل عدد القواعد التي تعوق الإبداع في عالم ريادة الأعمال. وربما يقود بعض هذا الإبداع إلى عمليات ومنتجات تضر حقا بالرفاهة العامة. ومن المؤسف أنه بحلول الوقت الذي تصبح فيه الحاجة إلى التشريع أو التنظيم واضحة، يكون المبدعون حصلوا بالفعل على ملياراتهم ــ ويصبح بوسعهم استخدام هذه الأموال لحماية مصالحهم.

إن مشكلة أصحاب المليارات ليست جديدة. فكل حقبة، منذ العصر الروماني على الأقل، تنتج نسخا منها كلما تسبب تحول في هيكل السوق أو الجغرافيا السياسية في خلق الفرصة لبناء الثروات بشكل سريع. في كتاباته التي ترجع إلى ثلاثينيات القرن التاسع عشر، توقع أونوريه دي بلزاك، مع اشتداد وتيرة تقدم الثورة الصناعية، التخوف الاجتماعي الأعرض: "سِر الثروات الضخمة التي لا ترجع إلى مصدر واضح هو أنها تأتت من جريمة ذهبت إلى عالم النسيان، لأنها نُـفِّذَت على النحو الصحيح". أو في إعادة صياغة أكثر شعبية لهذا نستطيع أن نقول "وراء كل ثروة عظيمة تكمن جريمة عظيمة".

تضم الأمثلة التاريخية البارزة شركة الهند الشرقية البريطانية، والأوروبيين الذين جمعوا ثروات ضخمة من عمل العبيد الأفارقة في جزر الهند الغربية، ومالكي مناجم الفحم. وجميعهم أصابوا الثراء السريع، ثم استخدموا نفوذهم السياسي للحصول على كل ما أرادوا، بما في ذلك الإفلات من العقاب على انتهاكات مروعة. في أوج سطوتها في القرن التاسع عشر، فرضت مصالح السكك الحديدية نفوذها على العديد من أعضاء البرلمان البريطاني أو ربما أغلبهم.

على مدار فترة طويلة قدمت الولايات المتحدة نمطا قويا بشكل خاص من مشكلة أصحاب المليارات. ويرجع هذا جزئيا إلى حقيقة مفادها أن مؤسسي أميركا، بسبب براءتهم في فترة ما قبل الصناعة، لم يكن بوسعهم أن يتخيلوا أن المال قد يستحوذ على السياسة إلى ذلك الحد آنذاك (أو الحد الذي بات واضحا تماما بعد بضعة عقود من الزمن فقط). علاوة على ذلك، كان قادة الولايات المتحدة على استعداد لفترة طويلة للسماح للمؤسسات والمصالح الخاصة بإقامة مشروعات جديدة كانت تتولاها الدولة في أماكن أخرى.

على سبيل المثال، أنشأ مكتب البريد الألماني أحد أكثر شبكات التلغراف انتشارا وكفاءة على مستوى العالم. وقد حث صمويل مورس الكونجرس الأميركي على بناء ذات الشيء (أو أفضل). لكن اتصالات التلغراف في الولايات المتحدة جرى تطويرها بواسطة القطاع الخاص ــ وأيضا شبكات الهاتف التي تلتها، وكل صناعة الحديد والصلب، وشبكة السكك الحديدية بالكامل، وتقريبا كل مكون آخر للاقتصاد الصناعي المبكر.

عندما أصبحت حكومة الولايات المتحدة منخرطة في النشاط الاقتصادي، كان ذلك في الأغلب لفتح حدود جديدة ــ مما خلق المزيد من الفرص للأفراد والشركات الخاصة. في أعقاب الحرب العالمية الثانية، زعم فانيفار بوش ــ الجمهوري الذي كان أيضا كبير مستشاري الرئيس فرانكلين د. روزفلت ــ أن العِلم يمثل الحدود التالية، ومن ثَم أقام حجة سياسية رابحة لصالح عمل الحكومة كمحفز.

كما زعمت أنا وجوناثان جروبر مؤخرا في كتابنا "دفع عجلة أميركا"، ساعدت الاستثمارات الاستراتيجية التي دخلت فيها الحكومة الفيدرالية في فترة ما بعد الحرب في العلوم الأساسية في تحفيز قدر كبير من الإبداع في القطاع الخاص ــ بما في ذلك مكاسب الإنتاجية والزيادات المشتركة على نطاق واسع في الأجور. وبطبيعة الحال، خُـلِقَت ثروات جديدة ضخمة.

أصبحت العواقب السياسية التي ترتبت على طفرة القطاع الخاص في أميركا بعد الحرب محسوسة في غضون جيل واحد، ولم تكن إيجابية دائما. فمنذ ستينيات القرن العشرين، شهدت الولايات المتحدة مشاعر متنامية مناهضة للضرائب، وضغوطا قوية لإلغاء الضوابط التنظيمية (بما في ذلك في القطاع المالي)، وتدفقت مقادير أكبر كثيرا من أموال الشركات إلى السياسة من خلال كل وسيلة ممكنة.

في العقود الأخيرة، خلفت هذه الضغوط الشركاتية تأثيرين رئيسيين. فأولا، من خلال خلق حواجز تحول دون الدخول إلى القطاعات القائمة، يحمي هذا المهيمنين القائمين ويخفض معدلات الضريبة الفعلية التي يسددونها. وهي خسارة ثقيلة ــ عبء محض مفروض على النمو الاقتصادي يحد من الفرص المتاحة للجميع الذين ليسوا بالفِعل من أفراد القِلة الحاكمة. ومع تآكل الموارد المالية العامة في الولايات المتحدة بسبب حكم القِلة، تضاءلت أيضا قدرتها على تمويل البنية الأساسية الضرورية، وتحسين التعليم، وذلك النوع من العلوم المتقدمة التي أوصلت أميركا إلى هذه النقطة.

يكتسب بعض أصحاب المليارات في أميركا المجد والشهرة بسبب أعمالهم الخيرية. ولكن من ناحية أخرى، يتبنى أغلبهم موقفا شديد الأنانية في مختلف عملياتهم ــ حيث يحفرون خنادق أكثر عمقا لحماية الأرباح أو يعملون ببساطة على تدمير الشركات الأصغر حجما كلما سنحت لهم الفرصة.

هناك تأثير ثان مختلف قليلا. ففي بعض القطاعات الجديدة تماما، وخاصة في المجال الرقمي، كان الدخول ممكنا على الأقل خلال مرحلة مبكرة. فلم يكن رواد الأعمال الذين بنوا أولى شركات الإنترنت قادرين على وضع حواجز فعّالة تحول دون الدخول ــ ومن هنا جاء النجاح الهائل (والمليارات الأكبر) الذي سجلته شركات أكثر حداثة مثل فيسبوك، وأمازون، وأوبر.

لكن الآن، يعمل المساهمون المسيطرون على هذه الشركات العملاقة الجديدة بنفس الطريقة التي عمل بها أندرو كارنيجي، وجون د. روكفلر، وجيه. بي. مورجان الأصلي ذات يوم. فهم يستخدمون أموالهم لشراء النفوذ ومقاومة أي شكل معقول من أشكال ضبط النفس في ما يتصل بسلوكهم المناهض للمنافسة المعادي للعمال ــ حتى وإن تسبب ذلك في تقويض المؤسسات الديمقراطية.

سوف يظل أصحاب المليارات موجودين بيننا دوما. وقد أصبح نموذج ما بعد التنظيم السابق وفرض معدلات ضريبية أعلى جذابا اليوم، ولكن بالنظر إلى المستقبل، هل يثبت هذا كونه كافيا في ظل نظام سياسي يسمح للأفراد بإنفاق القدر الذي يحلو لهم من المال للحصول على ما يريدون (وإلغاء كل ما يكرهون)؟ لقد حان الوقت لتبني نهج جديد، كما أقترح أنا وجروبر.

إن الأرباح الكبيرة تأتي من الأفكار الجديدة الكبيرة. ولهذا السبب، يجب أن يكون التمويل العلمي الفيدرالي مصمما ليشمل مشاركة الجانب الإيجابي في المؤسسات التي يتم إنشاؤها. ويستحق جماهير الناس مشاركة أكثر مباشرة في هذه الأرباح. وينبغي لأصحاب المليارات أن يتدبروا أمورهم بمليارات أقل.

* سايمون جونسون، كبير الاقتصاديين السابقين في صندوق النقد الدولي وأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا سلون، والمؤسس المشارك لمدونة رائدة في الاقتصاد (السيناريو الأساس) ومؤلف مشارك مع جوناثان جروبر لكتاب: (انطلاق أمريكا: كيف يمكن للإنجاز العلمي أن يعيد إحياء النمو الاقتصادي والحلم الأمريكي)
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق