q
الاقتصاد العالمي بات في احتياج شديد إلى خطة \\\"للتعايش السلمي\\\" بين الولايات المتحدة والصين. ينبغي لكل من الجانبين أن يقبل حق الآخر في تحقيق النمو على أي نحو يشاء. ويتعين على الولايات المتحدة أن تمتنع عن محاولة إعادة تشكيل الاقتصاد الصيني على هيئتها (اقتصاد السوق...
داني رودريك

كمبريدج ــ من الواضح أن الاقتصاد العالمي بات في احتياج شديد إلى خطة "للتعايش السلمي" بين الولايات المتحدة والصين. ينبغي لكل من الجانبين أن يقبل حق الآخر في تحقيق النمو على أي نحو يشاء. ويتعين على الولايات المتحدة أن تمتنع عن محاولة إعادة تشكيل الاقتصاد الصيني على هيئتها (اقتصاد السوق الرأسمالي)، كما يتعين على الصين أن تعترف بمخاوف أميركا في ما يتصل بتسرب العمالة والتكنولوجيا، وأن تتقبل القيود العرضية التي تستحثها هذه المخاوف والتي تحد من قدرتها على الوصول إلى أسواق الولايات المتحدة.

يستدعي مصطلح "التعايش السلمي" إلى الأذهان فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. كان الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف يدرك أن العقيدة الشيوعية المتمثلة في الصراع الأبدي بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي تجاوزت الحقبة التي كانت فيها مفيدة. فلن تكن الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية جاهزة للثورات الشيوعية في أي وقت قريب، ومن غير المرجح أن تتمكن من إزاحة الأنظمة الشيوعية في الكتلة السوفييتية. لذا، كان لزاما على النظامين الشيوعي والرأسمالي أن يعيشا جنبا إلى جنب.

ربما لم يكن مظهر التعايش السلمي خلال الحرب الباردة جميلا؛ إذ كانت الاحتكاكات كثيرة، وكان كل جانب يرعى مجموعة من الوكلاء في معركة من أجل بسط النفوذ العالمي. لكنه كان ناجحا في منع الصراع العسكري المباشر بين قوتين عظميين مسلحتين بالكامل بأسلحة نووية. على نحو مماثل، يُعَد التعايش الاقتصادي السلمي بين الولايات المتحدة والصين السبيل الوحيد لمنع حروب تجارية باهظة الثمن بين عملاقين اقتصاديين عالميين.

تمتد جذور المأزق الحالي بين الولايات المتحدة والصين إلى النموذج الاقتصادي المعيب الذي أسميته "العولمة المفرطة"، والذي بموجبه تضطر الدول إلى فتح اقتصاداتها إلى أقصى حد أمام الشركات الأجنبية، بصرف النظر عن العواقب التي قد يخلفها ذلك على استراتيجيات النمو أو النماذج الاجتماعية في هذه الدول. ويتطلب هذا أن تتقارب النماذج الاقتصادية الوطنية ــ القواعد المحلية التي تحكم الأسواق ــ بشكل كبير. وفي غياب هذا التقارب، يبدو الأمر وكأن الضوابط التنظيمية والمعايير الوطنية تعوق القدرة على الوصول إلى الأسواق. وتُعامَل هذه الضوابط والمعايير على أنها "حواجز تجارية غير جمركية" في لغة خبراء الاقتصاد والمحامين التجاريين.

وعلى هذا فإن الشكوى الأميركية الرئيسية ضد الصين هي أن السياسات الصناعية الصينية تجعل من الصعب على الشركات الأميركية مزاولة الأعمال هناك. وتعمل إعانات الدعم الائتمانية على الإبقاء على شركات الدولة طافية وتسمح لها بالإفراط في الإنتاج. كما تعمل القواعد التي تحكم الملكية الفكرية هناك على تيسير التحايل على حقوق النشر وبراءات الاختراع ونسخ التكنولوجيات الجديدة من قِبَل المنافسين. وترغم متطلبات نقل التكنولوجيا المستثمرين الأجانب على الدخول في مشاريع مشتركة مع شركات محلية. وتمنع الأنظمة التقييدية الشركات المالية الأميركية من تقديم خدماتها لعملاء صينيين. ويبدو أن الرئيس دونالد ترمب على استعداد لتنفيذ تهديده بفرض رسوم جمركية عقابية إضافية على ما قيمته 200 مليار دولار من الصادرات الصينية إذا لم تذعن الصين لمطالب الولايات المتحدة في هذه المجالات.

من جانبها، يبدو أن الصين لم تعد تطيق صبرا في مواجهة المزاعم بأن صادراتها كانت مسؤولة عن الوعكة المفاجئة الكبرى التي أصابت أسواق العمل الأميركية أو أن بعض شركاتها تسرق الأسرار التكنولوجية. وهي تود لو تظل الولايات المتحدة مفتوحة أمام الصادرات والاستثمارات الصينية. غير أن انفتاح الصين على التجارة العالمية كان محسوبا بدقة ومتدرجا، لتجنب التأثيرات السلبية على العمالة والتقدم التكنولوجي.

يتطلب التعايش السلمي أن تسمح كل من الولايات المتحدة والصين للأخرى بمساحة أكبر للمناورة السياسية، مع حرص التكامل الاقتصادي الدولي على إعطاء الأولوية للأهداف الاقتصادية والاجتماعية المحلية في كل من البلدين (وكذا البلدان الأخرى). وبهذا يكون للصين مطلق الحرية في إدارة سياساتها الصناعية وضوابطها التنظيمية المالية، من أجل بناء اقتصاد السوق الذي يتسم بخصائص صينية مميزة. كما ستكون الولايات المتحدة حرة في حماية أسواق العمل لديها من الإغراق الاجتماعي وممارسة قدر أعظم من المراقبة والإشراف على الاستثمارات الصينية التي تهدد الأهداف التكنولوجية أو أهداف الأمن الوطني.

يقوم الاحتجاج بأن مثل هذا النهج من شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه لتدابير الحماية، مما يجعل التجارة العالمية تتوقف، على سوء فهم للدوافع وراء السياسات التجارية المفتوحة. فكما يشير مبدأ الميزة النسبية، تزاول الدول التجارة لأن هذا يصب في مصلحتها. وعندما تلاحق سياسات تعمل على تقييد التجارة، فإن هذا يسهل عليها الأمر لأنها تجني فوائد تعويضية في مكان آخر أو بسبب إخفاقات سياسية محلية (على سبيل المثال، عدم القدرة على تعويض الخاسرين).

في الحالة الأولى، لا تكون التجارة الأكثر تحررا مبررة لأنها من شأنها أن تجعل المجتمع في حال أسوأ. وفي الحالة الثانية، ربما يكون المزيد من تحرير التجارة مبررا، ولكن فقط بالقدر الذي يسمح بمعالجة أسباب الفشل السياسي (وتقديم التعويض). ولا يمكن للاتفاقيات الدولية والشركاء التجاريين التمييز على نحو جدير بالثقة بين الحالتين. وحتى لو تسنى ذلك، فليس من الواضح ما إذا كان بوسعهم توفير العلاج المناسب (تمكين التعويض) أو تجنب إحداث مشاكل سياسية إضافية (محاولات الاستيلاء من قِبَل مصالح خاصة أخرى مثل البنوك الكبرى أو الشركات المتعددة الجنسيات).

لنتأمل الصين في هذا الضوء. يعتقد العديد من المحللين أن السياسات الصناعية التي تنتهجها الصين لعبت دورا أساسيا في تحولها إلى قوة اقتصادية عالمية. وإذا كان الأمر كذلك، فلن يكون من مصلحة الصين، ولا مصلحة الاقتصاد العالمي، كبح هذه الممارسات. في المقابل، ربما تكون هذه السياسات ضارة اقتصاديا في مجمل الأمر، كما يزعم آخرون. ولكن حتى لو كانت هذه هي الحال، فإن القسم الأعظم من التكاليف سوف يتحمله الصينيون أنفسهم. وفي الحالتين، ليس من المنطقي تمكين المفاوضين التجاريين ــ والمصالح الخاصة القابعة من خلفهم ــ لحل مسائل أساسية في السياسة الاقتصادية لا يوجد اتفاق كبير بشأنها حتى بين أهل الاقتصاد.

ينبغي لأولئك الذين يعربون عن قلقهم إزاء منزلق سياسات الحماية أن يلتمسوا الطمأنينة من تجربة الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (الجات) التي سبقت منظمة التجارة العالمية. ففي ظل نظام الجات، كانت الدول تتمتع بقدر أكبر كثيرا من الحرية في ملاحقة استراتيجياتها الاقتصادية الخاصة. وكانت القواعد التجارية أضعف وأقل شمولا. ومع ذلك، توسعت التجارة العالمية (نسبة إلى الناتج العالمي) بوتيرة أسرع في السنوات الخمس والثلاثين التي تلت الحرب العالمية الثانية مقارنة بوتيرة التوسع في ظل نظام العولمة المفرطة بعد عام 1990. على نحو مماثل، يستطيع المرء أن يسوق حُجة مقنعة لإثبات أن الصين أصبحت اليوم، بفضل سياسات النمو غير التقليدية، سوقا أكبر للصادرات والاستثمارات الأجنبية، مقارنة بحالها لو التزمت بسياسات متوافقة مع منظمة التجارة العالمية.

أخيرا، ربما يزعم بعض المراقبين أن هذه الاعتبارات غير ذات صِلة أو أهمية، لأن الصين انضمت إلى منظمة التجارة العالمية ويتعين عليها أن تلعب وفقا لقواعدها. لكن انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية كان مستندا إلى فكرة مفادها أنها تحولت إلى اقتصاد السوق على النمط الغربي، أو أنها ستصبح كذلك قريبا. لم يحدث هذا بكل تأكيد، ولا يوجد من الأسباب ما يجعلنا نتوقع أن يحدث (أو أنه ينبغي أن يحدث). لا يجوز لنا أن نصلح الخطأ بجعله أشد تعقيدا. ولا شك أن النظام التجاري العالمي الذي يعجز عن استيعاب الاقتصاد التجاري الأكبر في العالم ــ الصين ــ هو في حقيقة الأمر نظام يحتاج إلى الإصلاح بصورة عاجلة.

* داني رودريك، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جون ف. كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد. ومؤلف كتاب "العولمة التناقض: الديمقراطية ومستقبل الاقتصاد العالمي، وقواعد الاقتصاد: حقوق وأخطاء علوم الكومبيوتر، وآخرها حديث مستقيم عن التجارة: أفكار لإقتصاد عالمي
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق