q
ان استمرار التراجع في سعر صرف الليرة التركية يعد أمرا مناقض لتصريحات سابقة لمسئولين حكوميين أتراك، حيث سبق وان صرح وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي في منتصف سنة ٢٠١٨ بان المرحلة القادمة ستشهد عودة الليرة إلى مسارها الطبيعي، لكن الحقيقة التي أثبتت واقعيتها هو انكسارها...

ضجت وكالات الأنباء والصف العالمية في الفترة السابقة بنقل وتحليل أسباب التراجع الحاد في قيمة الليرة التركية، الأمر الذي عكس حقيقة مخالفة لكثير من صور التفاؤل الذي رسمه الإعلام الحكومي التركي، الذي كثيراً ما تحدث عن مكانة الاقتصاد التركي، ومسيره الحثيث نحو احتلال موقع مهم كواحد من أهم الاقتصاديات العالمية، ولكن التراجع الحاد والسريع في قيمة الليرة أثار أكثر من علامة استفهام حول أسباب هذا الانهيار، حيث لا يزال تراجع قيمتها الشغل الشاغل في الأوساط الاقتصادية سواء داخل تركيا او خارجها.

ان استمرار التراجع في سعر صرف الليرة التركية يعد أمرا مناقض لتصريحات سابقة لمسئولين حكوميين أتراك، حيث سبق وان صرح وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي في منتصف سنة ٢٠١٨ بان المرحلة القادمة ستشهد عودة الليرة إلى مسارها الطبيعي، لكن الحقيقة التي أثبتت واقعيتها هو انكسارها أمام الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة الأمريكية في قضية مضاعفة التعريفة الجمركية للحديد الصلب والألمنيوم.

وقد يتساءل الكثيرون عن الأسباب الموضوعية لهذا الانكسار وخصوصاً إن تركيا ليست ضمن الدول الخمسة الكبرى المصدرة للحديد الصلب والألمنيوم لأمريكا، إذا سبقتها كندا وكوريا الجنوبية والمكسيك وألمانيا واليابان ومع ذلك لم تتأثر أي من هذه الدول بمقدار ما تأثرت به تركيا وما خلفه هذا التأثر من انهيار في سعر الصرف عملتها الوطنية.

إن الإجابة على هذا السؤال قد تكون الوهلة الأولى بعيد عن التوقعات للكثيرين فان الحجر الذي ضرب الليرة لم يكن اقتصادياً بقدر كونه خلافاً سياسياً بين تركيا وأمريكا ألقى بظلاله على الواقع النقدي والاقتصادي التركي، حيث الاقتصاد هو العصا الغليظة للسياسة الدولية عموماً والسياسة الأمريكية خصوصاً، وهناك شواهد عديدة من الخلافات السياسية التي اخذ الجانب الاقتصادي النصيب الأوفر منها مثل حصار أمريكا على كوبا وحصارها على روسيا والعراق وإيران وغيرها العديد من الشواهد.

وفي القضية التركية هناك عدة مواقف ومفترقات سياسية تداخلت مع التوجه الاقتصادي التركي وانتهت بانهيار الليرة وتراجعها المدوي في الأيام الماضية،

إن متابعة الليرة في السنوات السابقة توضح لنا الهبوط التدريجي في قيمتها، ففي عام 2009 كانت قيمه الليرة ١،٤٨ للدولار الواحد، أخذت بعدها بالتراجع بشكل متواتر لتصل إلى ٢،١٤ لكل دولار عام 2013، ويستمر التراجع إلى عام 2017 تصل فيه إلى ٣،٨ للدولار الواحد، وفي عام 2018 اخذ التراجع وتيرة متسارعة، ففي ٩/اب تراجعت قيمة الليرة إلى ٥،٤٩ للدولار الواحد و بعدها بيوم واحد فقط اي ١٠/اب وصلت ٦،٤٢ فاقدة قرابة ٢٠٪‏ من قيمتها في يوم واحد، وتجاوزت بعدها حدود ٧،٢ للدولار الواحد لتعود فترتفع بشكل مؤقت عند ٦،٠٨ للدولار الأمريكي لتفقد الليرة التركية من قيمتها الكلية قرابة 40% في عام 2018 فقط ولازال المشهد السياسي والاقتصادي مليء بالمفاجئات والمفارقات الاقتصادية.

إن تخفيض قيمة الليرة يعود إلى عوامل ورؤى اقتصادية لاردوغان والذي رغب إن تكون قيمتها بحدود ٣ ليرة للدولار الواحد من خلال تدخلاته المستمرة في السياسة النقدية للبنك المركز التركي، ومعارضته المتواصلة لرفع سعر الفائدة، حيث أبقى البنك المركزي التركي في اجتماعه الشهر الماضي على أسعار سعر الفائدة دون تغيير عند ١٧،٢٥٪‏ ومع ارتفاع معدل التضخم إلى ١٥،٨٥ فان هذا يجعل سعر الصرف الحقيقي اقل من 2٪‏ وهذه النسبة غير قادرة على معالجة التضخم في الاقتصاد التركي وكفيلة ببقاء الليرة في حدودها المتدنية، (بحدود ٣ ليرة للدولار الواحد) حيث تساعد هذه القيمة لليرة على توجه مسار الاقتصاد التركي نحو التصدير، وذلك لان سعر الصرف المنخفض تجعل من قيمة البضاعة التركية اقل من قيمة نظيراتها في كثير من البلدان التي تستهدفها الصادرات التركية، ففي الوقت الذي شهدت الليرة تراجع مستمر في قيمتها عام 2017 شهدت الصادرات التركية بالمقابل زيادات مستمرة في حجم الصادرات كما ذُكر في بيان لمجلس المصدرين الأتراك إن قيمة مجمل الصادرات التركية ارتفعت خلال الأشهر العشرة الأولى من عام ٢٠١٧ في الفترة بين كانون الثاني وحتى تشرين الأول، بنسبة 11% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، لتبلغ ١٢٨،٦٥ مليار دولار.

وأضاف البيان "احتلت ألمانيا المرتبة الأولى في قائمة الدول العشرين الأكثر استيراداً من تركيا، بزيادة بلغت 7.3% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، بقيمة وصلت ١٢،٢٣ مليار دولار، بينما احتلت المرتبة الثانية المملكة المتحدة بقيمة بلغت ٧،٦٦ مليار دولار، وتلتها العراق بقيمة بلغت ٦،٧٨ مليار دولار، ثم إيطاليا بقيمة بلغت ٦،٧٣ مليار دولار، والولايات المتحدة الأمريكية بقيمة ٦،٧٢ مليار دولارا أمريكي، فلو كانت قيمة العملة التركية مرتفعة أمام الدولار لأصبحت تكاليف التصنيع محلياً تسمح لكثير من الأسواق المستهدفة الاستغناء عن الاستيراد من تركيا بصناعة محلية بديلة أو على الأقل استبدالها بمصادر منافسة من مناشئ ودول أخرى اقل كلفة.

قد لا يكون السبب السابق هو الدافع الاقتصادي الوحيد لانخفاض أسعار العملة بمستواها العام (لغاية ٣ ليرة للدولار)، فهناك أسباب أخرى تتعلق بارتفاع قيمة الديون التركية والذي تجاوز 400 مليار دولار يستحق قسم كبير منها الدفع خلال فترات قريبة، كما إن هناك أسباب تتعلق بالاختلال الهيكلي التجاري التركي لصالح الاستيراد وما قد يسببه من تأثير سلبي على الهيكلية الكلية للاقتصاد التركي بالإضافة إلى ارتفاع معدلات التضخم.

إن الأسباب السابقة مثلت أهم الضغوطات الاقتصادية التي دفعت بالليرة إلى مستويات متدنية وان كانت مخطط لها من قبل اردوغان وجناحه الاقتصادي، لكن برز على الساحة مؤثر أخر دفع بالليرة إلى حدود تجاوزت المخطط لها ودفعها إلى سقوط حر قد يؤدي بها إلى هاوية اقتصادية، وهو العامل السياسي الذي أودى بالأمور نحو تراجع وانخفاض قيمة العملة التركية لحدود ٧ ليرة مقابل الدولار، حيث جاءت تغريدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن مضاعفة الرسوم الجمركية عن واردات الصلب الى 20٪‏ ورفع رسوم الألمنيوم إلى 50٪‏ مسببة الضرر للصادرات التركية و بلغت قيمتها 1.7 مليار دولار مسببة انهيار سعر صرف الليرة التركية 19٪‏ في يوم واحد فقط، وما تبعها من تداعيات سياسية أدت إلى فرض عقوبات على كبار المسؤولين الأتراك لدورهم في احتجاز القس الأمريكي.

إن تغريدة ترامب لم تكن سوى قمة جبل من التقاطعات السياسية، حيث يرجع جذور التباين والخلاف السياسي بين تركيا وأمريكا إلى سنوات سابقة وتراكمات لمواقف متعددة من كلا الجانبين، ويمكن إيجاز بعض نقاط الخلاف إلى:

• الموقف التركي المتغير اتجاه إسرائيل وما خلفته من فجوة في العلاقات الدبلوماسية التركية والإسرائيلية منذ فترة ليست بالقصيرة اعتبرتها الولايات المتحدة الأمريكية تغريد خارج السرب الغربي وضرب مباشر للإستراتيجية الأمريكي في دعم وتأمين امن ووجود إسرائيل كأولوية قصوى في قمة أولوياتها.

• برود التعاطي الأمريكية مع قضية الطائرة الروسية التي أسقطتها الدفاعات التركية و ما تبعها من ضغط روسي مباشر على تركيا، أجبرت اردوغان في نهاية المطاف على تقديم اعتذار رسمي على أحداث سبق وان تعامل معها اردوغان بأسلوب المقتدر، لكن حجم الضغط الروسي والتلويح بل التصريح في إمكانية أن تؤول الأمور إلى الخيار العسكري أجبرته على الاعتذار، دون أن يكون هناك تدخل مباشر أو ضغط أمريكي لصالح تركيا، مع كونهما عضوين في حلف شمال الأطلسي، ولطالما كانت تركيا حليف استراتيجي لأمريكا ولعقود طويلة على المستوى السياسي والعسكري وقد انخرطت الحكومة التركية والولايات المتحدة في محادثات حول هذه القضية منذ كانون الأول عام 2017 على الأقل، استخدم البيت الأبيض وزارة الدفاع الأمريكية، تهديدات متكررة بالعقوبات إلى جانب عرض تحسين في نظام الدفاع الصاروخي (باتريوت) أو نظام (سامبا-تي) الأوروبي المتوافق مع معدات الناتو، لكن الحكومة التركية قاومت الضغوطات، وتمسكت بالنظام الروسي، الذي يأتي مع امتيازات متقدمة لنقل التكنولوجيا، إضافة إلى ميزات تنويع المحفظة الدفاعية التركية.

• الأزمة الناشئة عن الامتناع الأميركي عن توريد طائرات (اف-35) إلى أنقرة، والضجة التي أحدثتها واشنطن حول نية تركيا الحصول على منظومة (اس-٤٠٠) الروسية مؤخرا من قبل الأتراك وما اعتبرته أمريكا محاولة لاستقلال القرار العسكري التركي، فرغم كون أنقرة عضوا في ائتلاف تصنيع المقاتلة الأمريكية، بما يعني أنها أنفقت مليار دولار على الأقل على رحلة تطوير الطائرة، و أن هناك 10 شركات تركية تشارك في مراحل مختلفة لإنتاج وتجميع وتشغيل الطائرة، وحتى مع الاحتفال بتسلم أنقرة لأول مقاتلين في حفل في ولاية تكساس الشهر الماضي ووصول أول دفعة من الطيارين الأتراك إلى أريزونا لأجل التدريب، يسعى الكونغرس الأميركي لمنع أنقرة من الحصول على الطائرة وطردها من التحالف المُصنِع بشكل كامل.

إن المشاكل والمقاطعات السياسية والعسكرية بين أنقرة واشنطن خلال السنوات السابقة كان لها أكثر من مراقب على المستوى الداخلي والخارجي، من مستثمرين ورجال أعمال، عملوا على قراءة المشهد وربطه باتجاه التأزم الحتمي في علاقة أمريكا بتركيا مما دفعهم إلى كبح اندفاع الاستثمار نحو السوق التركية خلال السنوات السابقة، وهذا ما استغله ترامب في ضغطه الاقتصادي على تركيا، فيما أدى تعاطي اردوغان مع أزمة القس الأمريكي الى الازدياد في زعزعة الثقة في الليرة، حيث طالب اردوغان الشعب التركي بدعم العملة في ثلاث خطابات لثلاث أيام متتالية وتكلم في خطبه عن عدو مجهول في حرب الاقتصادية قائمة و ذكر في انه سيعتمد على الشعب وعلى الحق وعلى الله في مواجهة الدولار الأمريكي، دون طرح أي آلية أو خطة عمل لمواجهة الانحدار السريع لليرة، أو أن يطمئن المستثمرين أو حتى الشعب على استقرار الاقتصاد التركي متانته، بل العكس هو ما حصل فقد قادت تصريحاته هذه إلى نتيجة عكسية أدت زيادة الاضطرابات في قيمة الليرة التركية، التي تتراجع بشكل متواصل منذ أشهر، وقللت من ثقة المستثمرين وحتى الشعب التركي بالاستقرار الاقتصادي التركي دافعةً بهم إلى الاحتفاظ بالدولار كعملة أكثر استقراراً وأكثر أمانا، وكأي سلعة تخضع لقانون العرض والطلب ارتفع قيمة الدولار لزيادة الطلب عليها مسببة انخفاض حاد وصل الى 30٪‏ من قيمه العملة خلال فترة وجيزة و ٤٠٪‏ في عام ٢٠١٨ تحت ضغط الاضطرابات السياسية المتعاقبة.

إن النظريات والأطروحات الاقتصادية تربط وبشكل مباشر ما بين استقرار وثبات أي عملة محلية وبين ثبات ورصانة اقتصادها، وان التراجع المستمر في الليرة التركية ومنذ عشر سنوات تقريباً وسقوطه الحر في الفترة الأخيرة متأثرا بتغريدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يعكس حجم تذبذب الاقتصاد التركي ومدى إمكانية خضوعه للضغوطات السياسية، وافتقاره الى المتانة والقوة في مواجهة المتغيرات والضغوط الدولية، وان استمرار التوتر بين الولايات المتحدة وتركيا يضع الليرة بين مطرقة السياسية الضاربة و سندان الأداء الاقتصادي المتراجع.

* باحث اقتصادي

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق