q

لم تنفك كاثي ويلسن طالبة الدراسات العليا في جامعة مانشستر بانكلترا من ان تطلق صرختها الهادئة قبل انتهاء الدرس الاول في النظرية الاقتصادية بوجه استاذها آندريه مايكل في خريف عام 2008 وهي تقول له: ويحك ايها الرجل وانت انهيت الدرس الاول والجميع في دوامة من الانفعالات لا تقوى المدرسة النيوكلاسيكية في الاقتصاد وصرامة افكارها الارثودكسية في برهنة توازن الاسواق الحرة ودوام استقرارها، ونحن نغرق في بحر الوجد والامل والاستقرار، واسواق المال تنهار الواحدة تلو الاخرى لتفتح تاريخاً مليئاً بالمتاعب والخسائر والمحن، في وقت دبت فيه البطالة في اسواق العمل من مانشستر وحتى شيكاغو، وان القوى العاملة تدفع مبالغ جسيمة من فرص ضائعة اقتضتها اجراءات التقشف حتى يتحقق لهم نوع من التوازن يكفل لهم ادنى مراتب الحياة.

واردفت كاثي قائلة: لن ابرح قاعة الدرس قبل ان توضح لنا كيف اخذت الانهيارات المالية العالمية تسري كالهشيم في النار وهي تلتهم ثروات الامم الواحدة بعد الاخرى بلهيب الافلاس المشتعل، ولم تستطع المدرسة النيوكلاسيكية بكل تنافسيتها وعقلانيتها من ان تطفي الخسائر بعد ان انهارات التوازنات السعرية في اسواق راس المال على الصعيد العالمي. وواصلت حديثها قائلة ً ايضاً: يا استاذ آندريه انت تتحدث عن مبدأ (ليون فالراس) في توازن اسواق المال والسلع والعمل في حين ان الثلاثة هم في انهيار تام.

في خضم ذلك الجدل الأكاديمي المشتعل اسست قوى طلابية معارضة للمدرسة النيوكلاسيكية في مانشستر في حزيران 2013 جمعية اقتصادية أطلق عليها اسم (جمعية العلوم الاقتصادية لما بعد الانهيار). وقد اوضحت الجمعية الطلابية الاقتصادية المذكورة في ديباجة اهدافها مؤكدةً بان المناهج التعليمية الجامعية النيوكلاسيكية لا تتضمن سوى القليل من التعليم حول كيفية حدوث الازمة الاقتصادية ووسائل الحذر منها، اذ تقوم المدرسة النيوكلاسيكية على فكرة قوامها: ان تلاقي العرض مع الطلب يقوم على عقلانية مطلقة للأفراد وقابليتهم في تعظيم الربح في جانب العرض وتعظيم المنفعة في جانب الطلب. وان العلوم الرياضية ومعادلاتها التحليلية هي جوهر ما تذهب اليه هذه المدرسة من ادوات لبلوغ غاياتها في الكفاءة الاقتصادية والاستقرار والتوازن.

وعلى صعيد متصل، حثَّ اساتذة جامعيون، وهم من الفريق المناصر للاحتجاجات الطلابية، في رسالة نشرتها صحيفة الغارديان البريطانية بتاريخ 18 تشرين الثاني 2013، حثّوا الوسط الجامعي للتصدي صراحة الى نواقص المذهب النيوكلاسيكي في الاقتصاد والذي وصفوه بـ(الثقافة الاحادية الارثودكسية) التي تأتي بالضد من التنوع الفكري. ووصفوا تلك الاحادية الثقافية بـ(التزمت الفكري الديماغوجي)، وهو الامر الذي زاد من الضغط على الادارات الجامعية العليا بغية اصلاح الفصول الدراسية الاقتصادية التي ظلت تهيمن عليها فكرة نظرية الاسواق الحرة التوازنية والتي تهمل آثار الازمة المالية، اذ اشار اساتذة كبار من جامعتي كمبردج وليدز إلى صندوق التعليم العالي البريطاني للبحوث متهمين القائمين عليه بانه يمول نمط محدد من البحوث الاقتصادية التي تتماشى والنظرية النيوكلاسيكية وتعادي التفكير الذي يبتعد عن الاحادية الثقافية ويتجه نحو التعددية الفكرية.

كما ان اساتذة كبار آخرين امثال روبرت شيلر الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد والاستاذ ستول هيمر من جامعة كنكستون، اشاروا صراحة بان الطلبة المتخرجين من حقول الاقتصاد يحصلون على درجة البكلوريوس وهم لا يعلمون شيئاً عن النظرية الكينزية (نسبة لعالم الاقتصاد جون مينارد كينز) او نظرية رأس المال لكارل ماركس او نظرية هيمان منسكي العالم البارع في تفسير الازمات المالية والذي كان من اشد المعارضين لمبداْ الغاء النظم الرقابية على الاسواق المالية التي جاءت بها الليبرالية الجديدة ابان ثمانينيات القرن الماضي.

كما أكد اساتذة الاقتصاد المتضامنين مع مبداْ التنوع الفكري، الذي قادته جمعية العلوم الاقتصادية لما بعد الانهيار لطلاب جامعة مانشستر، بأن معظم خريجي الجامعات الانكلوسكسونية يتخرجون وهم لا يفقهون شيئاً عن الكساد العظيم الذي ضرب العالم في العام 1929. ففي العام 2014 عقدت الخزانة البريطانية مؤتمراً تناولت فيه مشكلات تعليم العلوم الاقتصادية في الجامعات البريطانية واكدت على ضرورة تدريس تاريخ الفكر الاقتصادي ابتداءً من ذلك العام وعده جزءاً لا يتجزأ من التعددية الفكرية. ولاحظ الاستاذ روبرت شيلر ان ثمة اخطاء في تدريس مواد الاقتصاد التي تقوم على مبدأ الاسواق التنافسية كما ترى النظرية النيوكلاسيكية، اذ ان هناك معتقد بان الباعة والمشترين لديهم معلومات كافية عن مخاطر إرتفاع اسعار الموجودات خارج حدود استقرارها الطويل الاجل وكأنما المستثمرين يحملون في عقولهم اجهزة محوسبة عملاقة تعينهم على معرفة تحركات السوق وهو امر مناف للواقع حقاً.

يقول استاذ الاقتصاد السلوكي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (اندرو لو) بكتابه الموسوم: (الاسواق المتكيفة: التطور المالي بسرعة الافكار) الصادر في العام 2017 من جامعة برنستون في الولايات المتحدة الامريكية، مؤكداً بان التطور لا يمتلك نهاية للعبة في اي مذهب اقتصادي. كما ينصرف اندرو لو في كتابه آنفاً قائلاً بانه بذل قصارى جهده من اجل تغيير علم الاقتصاد وابعاده عن التفكير الضيق متهماً في الوقت نفسه المدرسة النيوكلاسيكية كقوة ارثدوكسية متزمتة مقلدة لعلم (الفيزياء) مما ساعدها الأخير في بناء النماذج الرياضية الدقيقة بدلاً من دراسة العالم الحقيقي بأشكاله كافة.

ويقترح اندرو لو بانه آن الأوان للتركيز على العلوم (البايولوجية). حيث ينطلق اندرو لو من ملاحظة اساسية مفادها بان الجنس البشري هو ليس بتلك القوة التي تمتلك حواسيب فائقة العقلانية (كما تدعي نظرية الخيار العقلاني النيوكلاسيكية) لكي ترهن نفسها الى بعض النماذج الرياضية واعتمادها في التحليل الاقتصادي لبلوغ التوازن المنشود بين العرض والطلب. ونتيجة لذلك فان الاسواق هي ليست كفوءة حتى النهاية في تحديد الاسعار بالدقة وعلى وفق المعلومات المتاحة كافة كما يقال. فلذلك فإن نظرية الاسواق المتكيفة هي مستمدة من التجربة التي تظهر كيف يصنع الجنس البشري قراراته وعلى اساس السلوك النفسي وهو ما يُعبر عنه بعلم الاقتصاد السلوكي الذي هو مزيج بين علم النفس وعلم الاقتصاد ويمثل الصورة المرئية للتعددية الفكرية في علم الاقتصاد المعاصر. فتحقيق الربح على سبيل المثال في مدرسة الاقتصاد السلوكي هو أقرب من رجل قد جرى معالجته من الادمان على المخدرات. اما الخسارة فهي أقرب في تأثيرها السلوكي على الجنس البشري وتصرفاته كمن يسير بين مواد عضوية متفسخة عفنه.

ختاماً، في العام 1984 كانت المدرسة النيوكلاسيكية في اوج عظمتها ابان ولادة عصر العولمة والليبرالية الجديدة. فبعد ان امضينا أكثر من ساعة ونصف مع استاذ الاقتصاد الجزئي السيد روب وهو يجري حلولاً رياضية شاقة على لوحة الكتابة (في قاعة المحاضرات في واحدة من الجامعات الكندية) لبلوغ السعر التوازني لسلعة ما وقد انتهى الدرس وبلغنا السعر التوازني للسلعة المذكورة ولكن النتيجة ان السعر التوازني المذكور كان يحمل اشارة سالبة. هنا توقف زميلي كيم طالب الدراسات العليا من كوريا الجنوبية وسأل الاستاذ روب قائلاً له: كيف يتحقق السعر التوازني للسلعة وان الاشارة سالبة؟ اجابه الاستاذ روب: ما عليك الا ان تقبل الحقيقة النيوكلاسيكية في توازن السعر.. واخرس!

* الدكتور مظهر محمد صالح، المستشار المالي والاقتصادي لرئيس الوزراء العراقي
شبكة الاقتصاديين العراقيين
http://iraqieconomists.net

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق