q
إسلاميات - عقائد

حقيقة الهداية

معرفة الشخص المهتدي هو أن يكون عمله مطابق لعلمه، ولأجل أن يهدي غيره يجب أن يتحلى بهذه الصفة، فإن فاقد الشيء لا يعطيه، وعليه فمقام الثبوت ينكشف من مقام الإثبات عبر دليل (الإن) فمن طابق عمله عقيدته فهو مهتدي يمكن له أن يهدي الآخرين، لذلك...

[مَعاشِرَ النّاسِ، لا تَضِلُّوا عَنْهُ وَلا تَنْفِرُوا مِنْهُ، وَلا تَسْتَنْكِفُوا عَنْ وِلايَتِهِ، فَهُوَ الَّذي يَهْدي إلَى الْحَقِّ وَيَعْمَلُ بِهِ، وَيُزْهِقُ الْباطِلَ وَيَنْهى عَنْهُ، ويُزْهِقُ الْباطِلَ وَيَنْهى عَنْهُ، وَلا تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لائِم]

بعدما أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بإتباع أمير المؤمنين (عليه السلام) ونهى عن الضلالة عنه والاستكبار عن قبول ولايته، شرع في بيان بعض الأدلة على ذلك، فيدور الكلام ضمن محاور:

المحور الأول: إن الهداية كما أنها تكون لأمير المؤمنين (عليه السلام) تكون بأمير المؤمنين (عليه السلام)، بيان ذلك عبر نقطتين:

الأولى: الهداية لأمير المؤمنين (عليه السلام):

إن الوجودات على ثلاثة أنحاء:

الأول: وجود ذاتي، وهي الأعيان الخارجية-أي الجواهر بالمعنى الفلسفي- كالكتاب والقلم والتربة الحسينية المباركة.

الثاني: وجود وصفي-عرضي-، وهي لا تكون لها حقيقة خارجية بل إنما هي حقائق وصفية، كهيئة القيام لزيد، فإن القيام ليس له وجود متأصل خارجي بل وجود عرضي عرض على الذات.

الثالث: وجود ربطي وما يعبر عنه-في علم الأصول- بالمعنى الحرفي، بمعنى أنه لا قِوَام مستقبل بنفسه، وإنما يتقوم بطرفيه، ونقرب فكرة الوجود الربطي بالنور المنتشر من الكتاب إلى العين عندما نرى الكتاب، فالنور هو الوسيط والرابط بين العين والكتاب، ولولاه لما تحققت الرؤية.

وبعد هذا التمهيد لبحث الهداية نقول: إننا نرى في الكثير من الأحيان أنّ مَن يعمل الأعمال السيئة والقبيحة يعلم أنها كذلك-أي سيئة وقبيحة- ولكنه لا يكف عنها خارجاً، وسبب عدم كفّه هو عدم إرادته الترك، وعليه فما الذي سبّب تخالف علمه وعقيدته وعمله؟

السبب في ذلك هو فقدان الحلقة الرابطة بين العقيدة والإرادة من جهة، والعمل من جهة أخرى، والحلقة هي الهدى، فالهداية هي العمل وِفق العلم، فإن انتفت-الهداية- انتفى العمل طبق العلم والإرادة، وعلى سبيل المثال: إن الذي سرق القرط من اذن طفلة الإمام الحسين (عليه السلام) وبكى حينها، كان يعلم أنه سيدخل جهنم ولكنه سرق، وذلك بسبب عدم مطابقة عمله لعلمه وعقيدته، وكالمنافقين الذين كانوا يعلمون بأن الحق مع الرسول (صلى الله عليه وآله) ووصيه أمير المؤمنين (عليه السلام) ولكنهم تركوه وضلوا ضلالاً بعيداً.

إذن إن الملاك في معرفة الشخص المهتدي هو أن يكون عمله مطابق لعلمه، ولأجل أن يهدي غيره يجب أن يتحلى بهذه الصفة، فإن فاقد الشيء لا يعطيه، وعليه فمقام الثبوت ينكشف من مقام الإثبات عبر دليل (الإن) فمن طابق عمله عقيدته فهو مهتدي يمكن له أن يهدي الآخرين، لذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) يبين للناس أن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الذي يهدي إلى الحق أي يدعوهم إليه ويعمل به، وبعمله (عليه السلام) للحق تظهر حقيقة الهداية الموجودة له في عالم الثبوت عند الناس.

توضيح ذلك: أنه قد يقال بأنه يدعوهم إلى الحق مع أنه لا يعمل بالحق كما في كثير من الناس الذين يدعون الخير ولكن لا يعملون به؟ ويجاب عليه أن الرسول (صلى الله عليه وآله) شهد بأن الحق ثابت له في مقام الثبوت أيضًا وأن الهداية تتحقق لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) واقعًا.

والحاصل: أن عمله (عليه السلام) طبق إرادته وعلمه، بخلاف كثير من الناس حيث يدعو إلى الإصلاح ويدّعي أنه مصلح، ولكنه في الحقيقة ليس كذلك لتفاوت عمله مع عقيدته، كقوله تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَاد) (1)، وكقول عمر بن سعد (لعنه الله): (يا خيل الله اركبي، وبالجنة أبشري) (2)، فالمشكلة إذن أن الكل يدّعي أنه على الحق وعلى الطريق السوي مع أنه فاقد له، فالمهم أن نرى عمل الشخص فإنْ طابق قوله وعقيدته فهو مهتدٍ.

الثانية: الهداية بأمير المؤمنين (عليه السلام):

إن الأمر دائر بين الهداية والضلالة لا حالة ثالثة بينهما، فإنْ أردنا أن نهتدي فعلينا أن نتبع أمير المؤمنين (عليه السلام)، لأنه هو الماسك بزمامها.

فنقول: إن الهداية على ثلاثة أنحاء:

النحو الأول: الهداية الخَلقية التكوينية، وما تسمى بالهداية العامة، قال تعالى: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (3)، فالشجرة تعرف كيف تصل لغايتها وذلك عبر امتصاص الماء من الأرض بواسطة العروق وترتفع لكي تكسب أشعة الشمس إلى أن تنمو وتصل إلى غايتها، وهكذا جميع الكائنات الأخرى، وهذه الهداية بالبشر موجودة أيضاً، فإن ارتضاع الطفل من ثدي أمه نوع من الهداية الخَلقية التكوينية.

الثاني: الهداية الفطرية، وهذه الهداية تكون خاصة بالبشر، فإن الله تعالى جعل فطرة الإنسان تجذبه نحو الطريق الصحيح والمستقيم الذي لا زيغ فيه، قال سبحانه وتعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (4)، وقال عز وجل: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون) (5)، وقال تبارك وتعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (6).

الثالث: الهداية التشريعية (الكسبية الوهبية)، قال جل جلاله: (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين) (7)، وقال الله عز وجل: (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّه) (8)، فالهداية هي النور يُريه الله سبحانه وتعالى بها الحق ليميزها عن الباطل، والمهتدي يقبل الحق ويرضخ له، فهل هذا وهب إلهي خالص؟ كلا، فهل هو كسب بشري محض؟ كلا بل الهداية من الله تعالى ومن كسب الإنسان معاً، فأحدهما علة للآخر، وهناك درجات مشككة بينهما، فقد قال سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين) (9) إذن كن محسناً أولاً ليكون الله معك أيضاً، وقال تبارك وتعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِين) (10)، فالإرائة كانت بوهب من الله سبحانه وتعالى حتى يتحقق اليقين، ولكن الله تعالى قد يُري ولكن لا يتحقق اليقين كما في مَنْ عَلَمَه الله آياته ولكنه انسلخ منها فاتبعه الشيطان، كذلك الضلال فإنه بمشيئة الله تعالى أيضاً كما هو بسبب عمل العبد نفسه، قال جل جلاله: (وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُون) (11).

وعليه فإن الهداية والضلالة وإن كانت بيد الله سبحانه وتعالى، ولكنها مرتبطة بكسب الإنسان أيضاً، قال الله سبحانه وتعالى: (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِين، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم) (12)، وفي خطبة المتقين يقول8: (فهم والجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون) (13)، كما أن فعل الإنسان مع انه ينسب إلى نفسه لكنه مخلوق لله عز وجل، قال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون) (14).

الجبر والهداية والضلالة

المحور الثاني: هل من الجبر القول بأن الهداية والضلالة بيد الله سبحانه ومنه فقط؟ حسب ما يظهر من بعض الآيات المباركة كقوله تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء) (15)، وقال تعالى: (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين) (16)، وقال عز وجل: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون) (17)

الجواب عن ذلك يتم بتقريرين-بينهما عموم وخصوص من وجه-:

التقرير الأول: من الخطأ أن ننظر ونفهم القرآن الكريم بفهم تجزيئي، بمعنى أن ننظر إلى الآيات المباركة كل على حدة، فإن الآيات القرآنية الكريمة الأخرى تفسر وتبين الآيات المزبورة، قال سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُم) (18)، فيجب أن نكون على الطريق السوي بالسعي نحو الهداية لكي يشرح الله سبحانه وتعالى صدورنا للإسلام، وبإزدياد الصبر والإستقامة على الجادة والجهاد يزداد الوهب والهداية الإلهية لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين) (19)، وفي المراحل الأعلى يهب الله تعالى للعبد اليقين كما في قضية نبي الله إبراهيم (عليه السلام)، فلكي يتفضل الله سبحانه وتعالى بالهداية يجب أن نتبع الخطوات في ذلك، وأُولى تلك الخطوات هي إتباع الإمام، قال تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِين) (20)، والأئمة الهداة هم الرسول (صلى الله عليه وآله) ومن يُعَينَه الله تعالى بعد رسوله، فمن أراد الهداية واتبع الإمام الهادي وخطى باتجاهه ووِفقَ هديه، أفاض الله تعالى عليه الهداية، فقد قال سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُم) (21)، وقال: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا) (22)، وبيان ذلك: إن العمل معلول لأربعة علل، الصورية والمادية والفاعلية والغائية، فإن تصور الأمر أولاً مقدمة لتحقيقه خارجاً، فمن أراد السفر يتصور الغاية وحينئذ يتحرك ويركب السيارة مثلاً ليصل إلى هدفه، وعليه فالصورة فيض من الله تعالى لكنها منوطة بإرادتك فمن نوى الخير أو الشر يتصوره أولاً ثم يأتي بباقي المقدمات، وعلى هذا فإن حصول الطاعة منوط بإرادتك، لأنه الله سبحانه وتعالى خلق صورة كربلاء المقدسة عندما أردت وفكرت بزيارة سيد الشهداء (عليه السلام).

هذا وقد ذكر العلماء أن الإرادة والإختيار لها مقدمات بعضها إختيارية، ولذلك النتيجة تكون إختيارية، فقد ذكر المشكيني في حاشية الكفاية أن مقدمات الإختيار والإرادة هي الخطور والتصور أولاً، ثم التصديق بالفائدة أو الضرر، ثم الميل والاشتياق، ثم الجزم وعلامته الشروع بإيجاد المقدمات ورفع الموانع، ثم العزم ثم الإرادة أي الشوق المؤكد ثم تحريك العضلات.

إذن يجب أن نجعل إرادتنا تكون وفقاً للمنهج الصحيح حتى يفيض الله سبحانه وتعالى الهداية علينا، وكذلك في الضلالة فإن ما ظاهره الجبر يحمل على ما ذكرناه سابقاً، قال تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّـهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (23) أي عندما أرادوا الانحراف أثبتهم الله على انحرافهم، وقوله: (نَسُوا اللَّـهَ فَنَسِيَهُمْ) (24)، وقوله: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا) (25).

ثم إن القرآن الكريم قد عَيَنَ من يجب اتباعه بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) فقال سبحانه: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) (26)، وههنا يستقل العقل بتقديم أمير المؤمنين (عليه السلام) على غيره لأنه هو المهتدي والهادي، ويقدم الأفضل على المفضول ببداهة العقل كما صرح به العلامة الحلي على ما سبق.

وهذا ما تشهد له كتب العامة والخاصة، فعن أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام): ( قال: لقد قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) بقضية ما قضى أحد كان قبله، وكانت أول قضية قضى بها بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذلك أنه لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وافضي الامر إلى أبي بكر اتي برجل قد شرب الخمر، فقال له أبو بكر: أشربت الخمر؟ فقال الرجل: نعم فقال: ولم شربتها و هي محرمة؟ فقال: إنني أسلمت ومنزلي بين ظهراني قوم يشربون الخمر ويستحلونها، ولم أعلم أنها حرام فأجتنبها، قال: فالتفت أبو بكر إلى عمر فقال: ما تقول يا با حفص في أمر هذا الرجل؟ فقال: معضلة وأبو الحسن لها، فقال أبو بكر: يا غلام ادع لنا علياً، فقال عمر: بل يؤتى الحكم في منزله، فأتوه ومعه سلمان الفارسي، فأخبره بقصة الرجل، فاقتص عليه قصته، فقال علي (عليه السلام) لابي بكر: ابعث معه من يدور به على مجالس المهاجرين والانصار فمن كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه، فإن لم يكن تلا عليه آية التحريم فلا شئ عليه، ففعل أبو بكر بالرجل ما قال علي (عليه السلام) فلم يشهد عليه أحد، فخلى سبيله، فقال سلمان لعلي (عليه السلام): لقد أرشدتهم، فقال علي (عليه السلام): إنما أردت أن اجدد تأكيد هذه الآية في وفيهم: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون)) (27).

وينقل عن الخليل بن أحمد الفراهيدي-صاحب كتاب العين الذي يعتبر من أهم الكتب اللغوية-عندما سُئل ما الدليل على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) وخلافه قال: (احتياج الكل إليه، واستغناؤه عن الكل، دليل على أنه إمام الكل).

وعن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): (...أفينبغي أن يكون الخليفة على الامة إلا أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه، وقد قال الله عزوجل: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون)) (28).

وعنه (صلى الله عليه وآله): (من أمّ قوماً وفيهم اعلم منه أو افقه منه لم يزل امرهم في سفال إلى يوم القيامة) (29).

وقال (صلى الله عليه وآله): (إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض) (30).

وقال أمير المؤمنين 8: (أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً علينا وحسداً لنا أن رفعنا الله سبحانه ووضعهم، وأعطانا وحرمهم وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى، ويستجلى العمى، لا بهم) (31)، فالإمامة والولاية والخلافة مختصة بهم (عليهم السلام).

وقيل لعمر بن الخطاب: إنك تصنع بعلي شيئاً لا تصنعه مع أحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: إنه مولاي (32).

التقرير الثاني-للجواب عن شبهة الجبر- نمهد له بمقدمة:

هل الكمالات والرذائل النفسية من الأمور الذاتية الخلقية أم تكون كسبية تحصيلية؟ وبعبارة أخرى: هل الإنسان مجبور على التحلي بأخلاق معينة-سواء كانت سيئة أم حسنة-؟، فإننا نرى الناس فيهم الكريم والعادل والمتواضع والمضحي والشجاع، وفيهم البخيل والظالم والمتكبر والأناني والجبان.

ذهب بعض علماء النفس إلى أن هذه الصفات تكون ذاتية خلقية مركوزة في الإنسان، لا يمكنه تغييرها، وقد يؤيد ذلك ما ورد عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة) (33)، وأنّ النطفة والجينات تكون مؤثرة على الشخص وعلة لصفاته وخلقياته، وعن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): (الشقي من شقى في بطن امه، والسعيد من سعد في بطن امه) (34)، فالأمر تكويني خَلقي، وليس بيد الإنسان شيء، كما ينقل عن حاتم الطائي وأخيه حيث قالت له أمه إنك لا تكون كأخيك في الكرم أبداً، فإنه لم يرتضع مني إلا بعد أن اُرضع طفلاً اخراً، وأما أنت فكنت تمنع أي طفل من الاقتراب حين الرضاعة.

وعن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): (يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا ولد زنية أو حيضة) (35)، وليس باختيار الجنين ذلك فهو يولد مبغضاً لأمير المؤمنين (عليه السلام).

وروي عنه (صلى الله عليه وآله): (تخيروا لنطفكم، فإنّ العِرق دسّاس) (36)، فلربما يولد الطفل شجاعاً بسبب أن جده الأكبر كان شجاعاً.

فعلينا ألا نقسر ونجبر الشخص على تغيير طبيعته فإنه لا يتغير باطنه لو أجبرناه، بل سيصبح ذا وجهين منافقاً يُبدي خلاف ما يخفيه، ويظهر خلاف ما يُبطن، كما أن من المؤثرات أيضاً هي البيئة المحيطة فكثيراً ما يولد الشخص ببيئة فاسدة فيكبر فاسداً، وككثير ممن يدخلون السجون فيتعلمون جميع فنون الإجرام من المجرمين فيعتادون على الجريمة والجناية، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إياكم وخضراء الدمن، قيل: يا رسول الله وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء) (37)، فإنها لا ينفع معها التعليم والتربية لأنها تربت في منبت سوء.

ولكن يَرِدُ عليه: أنه مضافاً إلى مخالفته للشرائع التي تحث البشر على التحلي بالعقائد الحقة و الأخلاق الحسنة، وتهذيب النفس، فإن هذه الدعوى مخالفة للوجدان فكم من شخص كان خلقه وعمله وفعله سيئاً وتمكن من تحسينها، كما أن العكس صادق أيضاً فعلى سبيل المثال السامري والشلمغاني وعلي بن أبي حمزة البطائني.

فإن النطفة والبيئة وغيرها من الأمور تكون على نحو المقتضي لا العلة التامة، فالمولود في بيئة طيبة لا تشفعه بيئته ليكون حسناً لو تتلمذ عند أستاذ سيء واختار أن يكون سيئاً، وكذلك للنطفة اقتضاء السوء، فابن الحجاج-المؤمن الموالي الشاعر لأهل البيت(عليهم السلام)- من ذرية رجل لا هَمَّ له إلا قتل الشيعة وبأبشع الطرق، قال تعالى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) (38).

فالعلم والتربية والتزكية والتلقين الإيجابي من المؤثرات على مصير وطبيعة الإنسان، قال سبحانه: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) (39)، وقال جل جلاله: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (40)، فالطريق معبّد للإنسان، فيمكن له أن يتخذ طريق التقوى والخير والفضيلة، أو طريق الفجور والشر والرذيلة.

فالأول طريق السعادة والثاني طريق الشقاء، ولذلك يفسر الإمام الكاظم (عليه السلام) رواية الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): (عن ابن أبي عمير قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر 3 عن معنى قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه ; فقال: الشقي من علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال الاشقياء، والسعيد من علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال السعداء) (41).

ثم إنّ الآيات الشريفة تدل على ما قلناه:

قال تعالى: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِين) (42)، فمحل الضلالة هو الفاسق والخارج عن طاعة الله تعالى، وليس الله سبحانه يضل من لم يكن فاسقاً، وقال سبحانه: (وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين) (43) فمن اختار الظلم لا يشمله الهدي الربوبي، وقال الباري تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا) (44).

وقال عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم) (45)، بخلاف المؤمن بها حيث يتحقق له الهدي الإضافي، قال الله سبحانه وتعالى: (وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِين) (46)، فمن تحقق له موضوع الخيانة، يجري عليه المحمول أي عدم الهداية، والحاصل ان الهداية والضلالة الخاصتين مسبوقتان بعمل الإنسان نفسه.

خلاصة الأدلة:

وعليه فالنتيجة تؤدي إلى القول بالاختيار وذلك عبر النقل والعقل والوجدان، قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير) (47)، أي إما أن نسمع من نبي أو ولي، وكما في قوله عز وجل: (أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَت) (48)، حيث التفكر يوصلك إلى الله ثم النبي ثم الوصي، وعلى أية حال فالأدلة –أولاً- الآيات الكريمة حيث تنفي الظلم عن الله سبحانه وتعالى، وثانياً إن الدليل العقلي قائم على قبح الظلم، فإن قلنا أن الله سبحانه يجبرهم على فعل الأعمال السيئة ومن ثم يعاقبهم عليها فحينئذٍ سيكون ظالماً-والعياذ بالله- وهو منزه عن ذلك-شرعاً بالآيات الكريمة، وعقلاً لأنه حكيم والحكيم لا يفعل القبيح-، فلا شك أن الهداية والضلالة ليست بجبر من الله سبحانه، وإنما بإختيار من الإنسان نفسه.

وعليه فالفطرة والبيئة تكون مقتضية وليست علة تامة، ولذا نجد صالحون في بيئة منحرفة أو العكس كابن نوح، هذا مضافاً إلى الوجدان حيث يجد الإنسان بنفسه امكانية الترقي إلى أعلى درجات الكمال وإنقاذ نفسه من براثن الجهل والظلمة والظلال.

فالذي لم يقبل ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) سبّب الضلال لنفسه، وذلك إما بسبب استكباره وغروره، أو لجهل أو حسد أو لنزعة طائفية أو قومية أو لغيرها من الأمور.

يروى عن أبي عبدالله (عليه السلام): (ما من رجل تكبر أو تجبر إلا لذلة وجدها في نفسه) (49)، فاستحواذ الكبر والغرور يُردي إلى الهلكة كما أن ترويض النفس على مجابهتهما واذلالها والرضوخ إلى الحق يُنجي.

ينقل عن بعض العلماء أنه كان مسافراً إلى بعض المدن، فدخل على عالم تلك المدينة وتناقشوا في مسألة فغلب عالمُ البلد ذلك المسافر، وبعدما انفض الناس نقض العالمُ المسافرُ أدلة عالم المدينة، ففكر عالم المدينة ثم قال: صحيح وكلامك هو الحق ولكن لماذا لم تتكلم حينها؟، فقال: أنت كبير هذه المدينة ولا أريد إفحامك أمام الذين يثقون ويعتقدون بك، وكان سبب نقضي لأدلتك هو خوفي أن تفتي الناس بها وليس همي وهدفي إفحامك والانتصار عليك.

إذن فمَن تربت نفسه على التواضع بسبب إبدائه بالرأي الصحيح، كيف يتجبر على باطل يسلكه لو عرف الحق من الباطل؟، كما نشاهد ذلك جلياً في المئات من العلماء المخالفين الذين استبصروا بعد معرفة الحق وخضعوا له، وقد قال الإمام الكاظم (عليه السلام): (...يا هشام إن الزرع ينبت في السهل، ولا ينبت في الصفا، فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولا تعمر في قلب المتكبر الجبار لان الله جعل التواضع آلة العقل، و جعل التكبر من آلة الجهل، ألم تعلم أن من شمخ إلى السقف برأسه شجه؟ ومن خفض رأسه استظل تحته وأكنه؟ فكذلك من لم يتواضع لله خفضه الله، ومن تواضع لله رفعه) (50).

المصداق الأجلى والأكمل للهداية

المحور الثالث: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يُبَين المصداق الأجلى والأكمل للهداية ويُعَينَه بأنّه أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: (فَهُوَ الَّذي يَهْدي إلَى الْحَقِّ وَيَعْمَلُ بِهِ، وَيُزْهِقُ الْباطِلَ وَيَنْهى عَنْهُ، ويُزْهِقُ الْباطِلَ وَيَنْهى عَنْهُ) (51)، والرسول (صلى الله عليه وآله) في مقام بيان حدود زمن وحال الهداية، وقد أطلق كلامه ولم يحدد في زمان أو حال، فيكون أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الهادي إلى الحق في كل الأحوال والأزمان، سواء في حياة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أم بعد استشهاده، فلا يزيغ ولا ينقلب على عقبيه كما حصل لطلحة والزبير وأضرابهما، حيث كانا من أشد المدافعين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ففي الرواية (ان هذا سيف طالما فرج الكرب عن رسول الله) (52) وقد وقف الزبير مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في السقيفة حتى كسروا سيفه، ولكن كانت عاقبتهم: (فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِين) (53).

وإن علة كونه على هدىً هو أنه مُرَبى على يد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال (صلى الله عليه وآله): (أنا أديب الله وعلي أديبي) (54)، وكان (عليه السلام) لا يخالفه في صغيرة أو كبيرة بل يتبعه اتباع الفصيل إثر امه، ولذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (وَلا تَسْتَنْكِفُوا عَنْ وِلايَتِهِ) (55).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام): (عن أبيه عن جده (عليهم السلام) قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم وهو راكب وخرج علي (عليه السلام) وهو يمشي، فقال له: يا أبا الحسن إما أن تركب إذا ركبت، وتمشي إذا مشيت، وتجلس إذا جلست إلا أن يكون في حد من حدود الله لابد لك من القيام والقعود فيه، وما أكرمني الله بكرامة إلا وأكرمك بمثلها، وخصني الله بالنبوة والرسالة، وجعلك وليي في ذلك تقوم في حدوده وصعب اموره، والذي بعثني بالحق نبياً ما آمن بي من أنكرك، ولا أقربي من جحدك، ولا آمن بالله من كفر بك، وإن فضلك فضلك لمن فضلي، وإن فضلي لفضل الله...) (56).

ومما يدل على سمو مقام أهل البيت(عليهم السلام) وأنهم مهديون هادون ما في الحديث القدسي الذي يُبين أوصاف الإمام العسكري (عليه السلام) (فهو وارث علمي) (57)، وبما أن علم الله عين ذاته ولا يمكن أن يتحمله البشر، فالمقصود كل علم مخلوق يمكن أن يتحمله بشر-وهذه قرينة قطعية عقلية واضحة-، وكل ما يصدر سواء كان في لوح المحو والاثبات، أم اللوح المحفوظ فهو موجود عندهم ويحيطون به، وهذا ما لا يدعيه أحد ممّن تقلد غصباً خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإن إدعاء أنهم أعلم بطرق السماء لا تصدر من غيرهم(عليهم السلام)، بل قال الإمام (عليه السلام) لأحد أصحابه: (أنت أجهل بطرق الأرض من طرق السماء)، فهل يستوي الذين يعلمون طرق السماء والذين لا يعلمون حتى طرق الأرض؟ ومع ذلك كله ومع علمهم بالمصالح والمفاسد كيف يزيغون عن الحق؟ ومن هنا نقول أن الولاية التشريعية ثابتة لهم ولا ريب في ذلك.

يهدي إلى الحق

المحور الرابع: يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) إن أمير المؤمنين (عليه السلام) (يهدي إلى الحق)، وليس هو الحق بالحمل الأولي الذاتي-لاختلاف مفهوميهما كما هو واضح-، ولا بالحمل الشائع الصناعي-بالمعنى الأولي للحق- (58)، لذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنه (عليه السلام) أنه يهدي إلى الحق ولم يقل هو الحق-مع أنه الحق المطلق-، وذلك لبيان نكتة مهمة وهي:

إن الحقانية تنقسم إلى قسمين: حقانية ذاتية، وأخرى غيرية، فالأولى لله سبحانه وتعالى فقط، قال سبحانه: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ) (59)، وقال تعالى: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّـهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ) (60)، فكل حق فهو يرجع إليه تعالى، وينقل في مصادر العامة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (رحم الله علياً ادر الحق معه حيث دار) (61).

أما الثانية-أي الحقانية الغيرية- موجودة في أنبياء الله وأولياءه وهي موجودة في أمير المؤمنين (عليه السلام) قطعاً، فإن هناك تلازم لا ينفك أبداً بين أمير المؤمنين (عليه السلام) والحق، فكلما وجد أمير المؤمنين (عليه السلام) فالحق موجود، وكلما فقد الحق فقد أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، والتلازم غير الهوهوية أو الذوهوية مفهوماً أو مصداقاً، وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) عن طريق أم سلمة أنه قال: (علي مع الحق والحق مع علي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) (62)، وفي رواية أخرى عنها: ( والله إن علي بن أبي طالب لعلى الحق قبل اليوم، عهداً معهوداً وقضاء مقضياً) (63)، وفي ثالثة عنها بعدما دخل عليها أبو ثابت مولى علي عليها: (عن شهر بن حوشب قال: كنت عند أم سلمة فبإذنها دخل البيت أبو ثابت مولى علي فقالت: يا أبا ثابت أين طار قلبك حين طارت القلوب مطائرها؟-تقصد يوم السقيفة-، قال: اتبعت علياً، قالت: وُفقت بالحق، والذي نفسي بيده، لقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: علي مع الحق والقرآن والحق و القرآن مع علي، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض) (64).

ولذلك أصبح أنبياء الله ورسله وأولياءه مظاهر للحق، قال سبحانه: (صِبْغَةَ اللَّـهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ صِبْغَةً) (65)، فكلام الله وصفاته تتجلى وتظهر في رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، ففي دعاء ليلة المبعث النبوي: (اَللّهُمَّ اِنّي اَساَلُكَ بِالتَّجَلِي الاْعْظَمِ في هذِهِ اللَّيْلَةِ مِنَ الشَّهْرِ الْمُعَظَّمِ وَالْمُرْسَلِ الْمُكَرَّمِ اَنْ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ) (66)، فهم(عليهم السلام)أسماء الله الحسنى التي لا يُعرف الله إلا بها.

إذن للوصول إلى رحمة الله سبحانه، ونيل فيوضاته وخيره يجب علينا أن نسلك الطريق المستقيم وهو اتباع أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنه الداعي إلى الحق في كل سكناته وحركاته وأفعاله وأقواله وأهدافه ومنطلقاته، وفي الحديث القدسي عن الرسول (صلى الله عليه وآله): (إن الله يبغض من عباده المائلين عن الحق، والحق مع علي وعلي مع الحق، فمن استبدل بعلي غيره هلك وفاتته الدنيا والآخرة) (67)، كما نرى اليوم كل ظلم فإن سببه هو الابتعاد عن منهج أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وقد أثبتت الأمم المتحدة في سنة (2002) أن الكرة الأرضية لم ترَ حاكماً عادلاً كعلي بن أبي طالب3حيث قضى على الظلم وجميع مظاهر الفقر.

قال (صلى الله عليه وآله) في الخطبة: [فَهُوَ الَّذي يَهْدي إلَى الْحَقِّ وَيَعْمَلُ بِهِ، وَيُزْهِقُ الْباطِلَ وَيَنْهى عَنْهُ، وَلا تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لائِم]

(الحق) معرف بألف ولام الجنس، بمعنى أن أمير المؤمنين (عليه السلام) يدعو إلى كل ما هو حق ومهما كانت النتيجة من دعوته، ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنه: (لاتأخذه لومة لائم).

إن من لطف الله تعالى على عبيده ان وضع علامات مختلفة لهداية الناس كما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) جعل عدة أفراد ليكونوا مظاهر للحق، ولكي يميّز الناس بهم الحق من الباطل، وتتم الحجة عليهم في أمر ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) كعمار وأبي ذر (رضوان الله تعالى عليهما)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعمار: (إن الله تعالى يؤيد بك الدين، ويقطع بك معاذير الغافلين ويوضح بك عن عناد المعاندين إذا قتلتك الفئة الباغية على المحقين) (68)، وقال (صلى الله عليه وآله): (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر) (69)، وجعل (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين (عليه السلام) على رأس أولئك الأفراد، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام)قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): خذوا بحجزة هذا الانزع يعني علياً فإنه الصديق الاكبر، وهو الفاروق يفرق بين الحق والباطل) (70).

وعن عبد الرحمان بن سمرة قال: ( قلت: يا رسول الله أرشدني إلى النجاة، فقال: يا ابن سمرة إذا اختلفت الاهواء وتفرقت الآراء فعليك بعلي بن أبي طالب، فإنه إمام امتي، وخليفتي عليهم من بعدي، وهو الفاروق الذي يميز بين الحق والباطل، من سأله أجابه، ومن استرشده أرشده، ومن طلب الحق من عنده وجده، ومن التمس الهدى لديه صادفه، و من لجأ إليه أمنه، ومن استمسك به نجاه، ومن اقتدى به هداه) (71)، وقد أخبر (صلى الله عليه وآله) أن أم سلمة من أهل الجنة، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وهؤلاء كلهم وقفوا مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في السقيفة، وفي قضية فدك وغيرهما، فعندها تمت الحجة على الجميع ولم يبق عذر لأحد في مخالفة أمير المؤمنين (عليه السلام).

الحق مقابل الباطل والضلال

المحور الخامس: إن الحق تارة يكون في مقابل الباطل وأخرى في مقابل الضلال.

أما الحق المقابل للباطل، فهو بمعنى الشيء الذي يثبت ويستمر ويدوم، والباطل هو الذي ينتهي ويزول بعد فترة من الزمن، قال سبحانه: (أنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّـهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ) (72).

ولنأخذ بريطانيا على سبيل المثال، فإنها حكمت من الشرق إلى الغرب واكتسحت العالم وبالرغم من ذلك زالت ولم تستمر، وذلك لأنها كانت تحكم بالظلم والاستبداد، وكذلك الشيوعيين فقد دخلوا العراق وجَرَفوا الشباب ولكنهم سقطوا بسرعة ما صعدوا.

وكخطاب المتوكل للأمطار قائلاً لها بأن تهبط أينما شاءت فإنها سوف تهطل في ملكه، ولكنه مات ونُسي أثره ولم يستمر ذكره، كل ذلك لأنه كان على الباطل.

وأما الحق الذي يقابل الضلال فهو بمعنى العمل الذي يستتبع نتيجة وأثر، بخلاف الضلال فهو الانحراف والضياع والعمل دون جدوى ونتيجة، قال سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ، ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) (73)، وقد صنع بعض العلماء شيئاً يشبه الحنطة بطعمها وشكلها ورائحتها وغيرها من خصوصياتها إلا أنها عند زرعها لم تنبت ولم تخضر وذلك لعجزهم عن إفاضة الروح النباتية عليها مهما سعوا في ذلك، فعملهم وجهدهم في ضلال بلا أثر ونتيجة.

وإن الشبهة فرع من فروع الباطل فهي تغري ضعفاء العقيدة ولكنها سوف تزول وتمضحل ولا يبقى لها رسم ولا اسم (74)، قال الباري تبارك وتعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً-وهو الباطل-، وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ-أي الحق-فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (75).

وإذا عرفت هذا فنقول إن أمير المؤمنين (عليه السلام) يهدي إلى الحق بكلا قسميه، فإنه يهدي إلى الحق الدائم والمستمر الذي لا يختلف ولا يتخَّلف، والحق المنتج المثمر ذي النتيجة والعاقبة المحمودة في الدنيا والآخرة الموجبة للجنة ولرضا الله ورسوله.

النفاق وعدم مطابقة العمل للعقيدة

المحور السادس: إن من الواجب على العالمِ بحقانية أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يتبعه في كل أموره، ويهيئ نفسه على نصرته والقتل دونه، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل عنه) (76)، ولكن العمل بسيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) يحتاج إلى التفقه والتعلم أولاً، وتقديم المصالح الحقيقية والنوعية على الشخصية ثانياً، وذلك لا يتم إلا باتخاذهم أسوة في سلوكنا بل في فكرنا أيضاً، ومن ثم العمل والسير على خطاهم ثالثاً.

إن مشكلة الكثير من الناس-خصوصاً السياسيين- هي النفاق وعدم مطابقة العمل للعقيدة-كما مرَّ سابقاً-فإنهم يعتقدون بأن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الحق ولكنهم لا يجعلونه منهجاً لهم ليتبعونه في حياتهم، وإنما جعلوه فقط شخصية يَكُنُّون لها الاحترام والتقدير في الظاهر فقط، وذلك لاختلاف منهج وسلوك أمير المؤمنين (عليه السلام) مع مصالحهم وأهوائهم الشخصية، فقد كان (عليه السلام) لا يأتي بالمقدمات الباطلة لتحقيق نتيجة حسنة، ولم يعمل طبق قاعدة (الغاية تبرر الوسيلة)، فكان يمكنه أن يكذب كذبة واحدة ويقول أسير بسيرة الشيخين ليزدحم عليه الناس فتأتي له الخلافة الظاهرية ومن دون المتاعب، ويمكنه بعدما يبايعه الناس أن يُقر معاوية على منصبه إلى أن يستتب الأمر له ومن ثم يعزله، ولكنه لم يتأنى لحظة واحدة وأمر بعزله لأنه كان ظالماً فاسقاً يسيء إلى الإسلام والرسول (صلى الله عليه وآله).

ومن هنا بدأ معاوية بمكره وبغضه والعمل للخروج ومحاربة أمير المؤمنين (عليه السلام) بعنوان الطلب بدم عثمان، وذلك ليغري الناس بأنه كان على حق، ولكنه كان يقول (عليه السلام): أتأمروني أن أطلب النصر بالجور؟، كما رواه أبو مخنف الأزدي: (أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) رهط من الشيعة فقالوا: يا أمير المؤمنين لو أخرجت هذه الاموال ففرقتها في هؤلاء الرؤساء والاشراف وفضلتهم علينا حتى إذا استوسقت الامور عدت إلى أفضل ما عودك الله من القسم بالسوية والعدل في الرعية، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ويحكم أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه من أهل الاسلام؟ لا والله لا يكون ذلك ما سمر السمير وما رأيت في السماء نجما، والله لو كانت أموالهم مالي لساويت بينهم، فكيف وإنما هي أموالهم) (77)، فهذه قيمة يجب أن لا يتخلف عنها مدعي الحب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

وقال (عليه السلام): (...ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الاطعمة ولعل بالحجاز أو باليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع أو أن أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى ! أو أن أكون كما قال القائل: وحسبك داء أن تبيت ببطنة وحولك أكباد تحن إلى القد أأقنع من نفسي بأن يقال لي: أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات...) (78)، ولم يصطنع ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) بل شهد بها له حتى ألد أعدائه، فهذا معاوية يقر بفضائله ومناقبه ويبكي في فَقْد أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ لم يجد عدواً أنبل وأشرف وأعلى من علي بن أبي طالب3، ففي البحار: (دخل ضرار صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) على معاوية بن أبي سفيان بعد وفاته (عليه السلام) فقال له معاوية: يا ضرار صف لي علي بن أبي طالب وأخلاقه المرضية قال ضرار: كان والله بعيد المدى شديد القوى ينفجر الايمان من جوانبه وتنطق الحكمة من لسانه يقول حقا ويحكم فصلا فأقسم لقد شاهدته ليلة في محرابه وقد أرخى الليل سدوله وهو قائم يصلي قابضا على لمته يتململ تململ السليم ويأن أنين الحزين ويقول: يا دنيا أبي تعرضت وإلي تشوفت غري غيري لا حان حينك أجلك قصير وعيشك حقير وقليلك حساب وكثيرك عقاب فقد طلقتك ثلاثا لا رجعة لي إليك آه من بعد الطريق وقلة الزاد. قال معاوية كان والله أمير المؤمنين كذلك وكيف حزنك عليه؟ قال: حزن امرأة ذبح ولدها في حجرها قال فلما سمع ذلك معاوية بكا وبكا الحاضرون) (79).

فهذه القيم التي تمثلت بأمير المؤمنين (عليه السلام) هي التي يجب اتباعها والتأسي به، وإن أدت إلى سخط الناس وتهجمهم ومن ثم تفرقهم، فإن الحق يجب أن يتبع وإن أدّت إلى الوحدة والوحشة، حيث أغلب الأفراد يتأثرون بالبيئة المحيطة بهم، إما لأنه ترعرع منذ الصغر في بيئة فاسدة، أو يعرف الحق ولكنه يرضخ للضغوطات من قبل الأكثرية فيميل إليهم، فكم من عالم ومخترع وفطن ولكنه يعبد بقرة أو فأرة أو غيرها من السخافات والترهات لأنه نشأ في محيط كان كذلك أو خوَّفته الوحدة والانفراد وخلو الناس عنه، فإن ضريبة الخروج عن العادات والتقاليد كبيرة جداً لا يتحملها إلا من امتحن الله قلبه للإيمان، فلذا مدح رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا ذر لأجل ذلك إذ قال: (يا أبا ذر رحمك الله تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك، وتدخل الجنة وحدك، يسعد بك قوم من أهل العراق، يتولون غسلك وتجهيزك والصلاة عليك ودفنك) (80).

فقد كان أبو ذر يظهر ويذيع كلمة الحق ولو أدى ذلك إلى تهجيره وتعذيبه وقتله، ففي خطاب له لمعاوية قال: (ما أنا بعدو الله ولا لرسوله، بل أنت وأبوك عدوان الله ولرسوله، أظهرتما الاسلام، وأبطنتما الكفر، ولقد لعنك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودعا عليك مرات أن لا تشبع، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إذا ولى الامة الاعين الواسع البلعون الذي يأكل ولا يشبع فلتأخذ الامة حذرها منه، فقال معاوية: ما أنا ذلك الرجل، قال أبو ذر: أنت ذلك الرجل أخبرني بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسمعته يقول وقد مررت به: اللهم العنه ولا تشبعه إلا بالتراب، وسمعته يقول: ألست معاوية في النار، فضحك معاوية وأمر بحبسه، وكتب إلى عثمان فيه، فكتب عثمان إلى معاوية: أن احمل جنيدبا إلي على أغلظ مركب وأوعره، فوجه به من سار به الليل والنهار، وحمله على شارف ليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة، وقد سقط لحم فخذيه من الجهد فلما قدم بعث إليه عثمان: أن الحق بأي ارض شئت، قال بمكة، قال: لا، قال: ببيت المقدس قال: لا، قال: بأحد المصرين، قال: لا، قال: ولكني مسيرك إلى الربذة فسيرة إليها، فلم يزل بها حتى مات) (81).

إذن يجب أن يكون الحق هو الهدف والغاية، ولا يزيحها كلام الناس وتهجمهم مهما كانت النتائج، ولكنه أمر صعب يحتاج إلى محاربة النفس، فقد تتغير القناعات والعقائد بسبب المال والسلطة والجاه.

يُنقل أن أحد الحكام ذهب إلى عالم وطلب منه أن يصبح قاضي المدينة ولكنه رفض ذلك، فطلب الملك منه أن يربي ويعلم أبنائه فرفض ذلك، فقال له الملك: يجب عليك على الأقل أن تقبل دعوتي وتجلس على مائدتي، فقبل ذلك، وقد كانت مملوءة بمختلف الأطعمة والأشربة، وعند انتهائهم من الطعام تغيرت آراء العالم وقَبِل أن يصبح قاضياً له ومربياً لأولاده وذلك لأن الدنيا قد طابت وحليت في عينه، قال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (82)، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (رضا الناس غاية لا تدرك فتحر الخير بجهدك ولا تبال بسخط من يرضيه الباطل) (83)، وقد قال علقمة: (فقلت للصادق (عليه السلام): يا ابن رسول الله إن الناس ينسبوننا إلى عظائم الامور، وقد ضاقت بذلك صدورنا، فقال (عليه السلام): يا علقمة إن رضا الناس لا يملك، وألسنتهم لا تضبط، وكيف تسلمون مما لم يسلم منه أنبياء الله ورسله وحجج الله عليهم السلام ألم ينسبوا يوسف عليه السلام إلى أنه هم بالزنا؟ ألم ينسبوا أيوب عليه السلام إلى أنه ابتلى بذنوبه...) (84).

وأمير المؤمنين (عليه السلام) أبرز مَنْ وقف مع الحق ولا تأخذه في الله لومة لائم ولذلك وَتَرَ صناديد العرب مع أنه سبب بُعد الناس عنه، وقد أراد (عليه السلام) أن يحدّ أسدياً فجائته عشيرته متوسطين بالإمام الحسن (عليه السلام) ليخفف عنه: (وأخذ عليه السلام رجلاً من بني أسد في حد، فاجتمعوا قومه ليكلموا فيه، وطلبوا إلى الحسن عليه السلام أن يصحبهم، فقال: ائتوه فهو أعلى بكم عيناً، فدخلوا عليه وسألوه، فقال: لا تسألوني شيئاً أملكه إلا أعطيتكم، فخرجوا يرون أنهم قد أنجحوا فسألهم الحسن عليه السلام فقالوا: أتينا خير مأتي، وحكوا له قوله، فقال: ما كنتم فاعلين إذا جلد صاحبكم؟ فأصغوه، فأخرجه علي عليه السلام فحده، ثم قال: هذا والله لست أملكه) (85).

أمران نسبيان متغيران أم متأصلان ثابتان

المحور السابع: هل الحق والباطل أمران نسبيان متغيران بتغير الأحوال والأزمان والأمكنة أم هما متأصلان ثابتان؟

ذهب البعض إلى أنهما من الأمور النسبية، فلا يوجد هناك حق مطلق بل قد يكون هناك أمراً واحداً حقاً محضاً عند شخص، وباطلاً عند آخر، وحق مشوب بالباطل عند ثالث، إذن هما أمران إضافيان نسبيان، كالسقف فهو فوق بالنسبة للجالسين تحته، وفي نفس الوقت تحت للواقف عليه.

وعليه فكل الشرائع والآراء والأفكار لها جزء من الحقيقة سواء كانت أفكار الشيوعية أو الرأسمالية أو الاشتراكية أو غيرها من الآراء والأفكار-السليمة منها والسقيمة-.

ولكنه يرد عليه: أولاً: إن النسبية والتشكيك (86) للأمور تكون في الجملة لا بالجملة، فالنور مثلاً أمر مشكك يختلف في الشدة والضعف، والمعرفة بالله سبحانه أيضاً من هذا القبيل فقد تكون عالية (87) عند شخص ودانية عند شخص آخر، فمعرفته تعالى حقيقة مشككة، فللإدراك درجات وإن كان الواقع لا يتغير بل هو شيء واحد كحقيقة الله عز وجل، وهناك أمور متواطئة ذات مرتبة واحدة، فإما موجودة أو لا، وذلك كالموت والحياة، فعند خروج الروح من البدن لا يقولون أن هذا الشخص ميت قليلاً، فإنها قضية بسيطة.

والحق والباطل من هذا القبيل-أي الأمور المتواطئة-الحق والواقع لا يتغير مهما كانت المؤثرات الخارجية، فالجاهل يتصور الظل من بعيد إنساناً أسوداً ولكنه عندما يقترب يرى أنها صخرة صماء!!

وعلى سبيل المثال: إنّ من يرفع شعار الوحدة، إن قصد من ذلك التعايش السلمي فلا إشكال في ذلك، وأما إن قصد أن جميع المذاهب على حق، فكلامه باطل، قال تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (88) -على نحو اللف والنشر المرتب-فلا يمكن أن يكون كلا الطرفين على حق وباطل، وليس للحق مراتب متعددة قد تكون متداخلة مع الباطل، ولو تداخلت بحسب تغير واختلاف المدركات، فكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يدعو للحق وغيره يدعو للحق أيضاً مع أن الرسول (صلى الله عليه وآله) يحصر طريق الحق فيه (عليه السلام) حيث قال: (فهو الذي يهدي إلى الحق).

وقال جل جلاله: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (89)، فلا معنى لأن يقال أن التعبد بأي شريعة كان يُدخل الجنة ويُنجي من الهلاك، وقال تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (90)، فالحق موجود والباطل مرفوع لا أن الحق مختلط بالباطل، وقال تبارك وتعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (91)، فالذي يُلبس الحق ثوب الباطل غاش، والمال المغشوش يكسر ويلقى بل قد يسجن حامله فكذلك في الحق المغشوش.

إذن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) عندما يقول عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (فهو الذي يهدي إلى الحق) يعني بذلك أنه كلما وجد أمير المؤمنين (عليه السلام) وجد الحق وبالعكس، كما قال ذلك في مواطن عديدة، كقوله (صلى الله عليه وآله): (علي مع الحق والحق مع علي، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) (92)، فلقد بيّن الرسول (صلى الله عليه وآله) المظهر الجلي للحق، وجعله المقياس لمعرفة الحق من الباطل، فهو البوصلة لمعرفة الطريق والصراط المستقيم والمقياس والمسطرة لقياس الهدى من الضلال، وهل يمكن الجمع بين الله تعالى والأصنام؟!، فإن كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) نفيٌ للأصنام ثم اثباتٌ لله تعالى، وعليه فمظهر احقاق الله الحق وابطال الله الباطل هو أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلا يكون علي (عليه السلام) في مكان فسترى الباطل ولّى هارباً و مدبرا، كما ورد (وناوش ذؤبانهم) (93).

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في خطبته الشريفة: [أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، لَمْ يَسْبِقْهُ إلَى الاْيمانِ بي أَحَدٌ]

هل الإيمان يضاد الحقيقة والواقع؟

المحور الثامن: إن هناك تَوَجُه من بعض الغربيين لإثبات أن الإيمان يضاد الحقيقة والواقع، وذلك لأن العلم هو مقياس الحقائق، وبما أن الإيمان قضية باطنية فلا يقاس بالعلم، فالإيمان لا واقع له وإنما هو مجموعة من تصورات وخيالات وأوهام يصنعها الإنسان كي يعزز ويُسند نفسه وضميره بأن هناك عقاب أو ثواب ينتظره بعد هذه الحياة، والإنسان في معترك الحياة يشعر بالضعف تجاه الأعداء والأمراض والحروب وغيرها، فلذلك يخلق تلك التصورات ليعزز وضعه ويعتمد على ركن وثيق يتخيله، فالإيمان نزعة داخلية غريزية، فمع الضعف تخور قوى الإنسان فيعتمد على المال أو القبيلة والعشيرة أو الحزب والفئة أو الطائفة والقومية كما قال: (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ) (94) (95)، ولذلك يخلق لنفسه تصورات وأوهام ويقول له بعض العلماء أنها هي الإيمان!!.

ويرد عليه: أولاً: إن العلم مقياس للأشياء في الجملة لا بالجملة، فالقضايا التجريبية لا براهين علمية وقطعية عليها، وكذلك الوجدانية والفطرية وغيرها، فالكثير من الأمور نشعر بها ولكن العلم لا يمكنه أن يقيسها كالحب والبغض، ودليلهما هو الإحساس الباطني للإنسان، وفي الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): (فمن أراد أن يعلم حبنا فليمتحن قلبه فإن شارك في حبنا عدونا فليس منا ولسنا منه، والله عدوه وجبرئيل وميكائيل والله عدو للكافرين) (96)، ولا يمكن إقامة برهان إني ولا لمي على ذلك وإنما هي قضية وجدانية، فننفي كلام السوفسطائي القائل بوهمية كل شيء بالوجدانيات والأحاسيس، فلذا قال أحد العلماء: أنا أفكر إذن أنا موجود.

ثانياً: إن الإيمان على قسمين، تارة يخالف العقل-النوعي القطعي لا الشخصي-والعلم والبرهان، فهذا هو التخيل والوهم، وأخرى لا يخالف العقل، بل يدعو العقل والفطرة والوجدان إليه، كما في كثير من قضايا العالم، فما هو الدليل العلمي والبرهان العقلي على أن الشمس غداً تشرق من المشرق وتغيب في المغرب؟ وما الدليل على وجود النظم في الكون وكيف نستطيع معرفة الكسوف مثلاً بعد ألف عام لولا حتمية دوران الأفلاك التي لا ضابطة برهانية عليها، ولكنها قضية حسابية واضحة، وهكذا وهلم جرا، فإن إعتقادنا بصحة هذه القضايا تكون عبر الإيمان بها وليس عبر العلم وما شابه ذلك.

ثالثاً: نحن لا تهمنا الدوافع بل تهمنا الآثار فسواء الدافع للإيمان كان الضعف أو غيره، فالذي يذهب ويقاتل ويجاهد للدفاع عن وطنه لإيمانه بشعبه وبلده وقضيته، فعلى ذلك الإيمان ترتبت تلك الآثار، وكذلك الذين بنوا الحضارات وجدوا واجتهدوا في تطويرها وتقويتها كل ذلك لأجل أنهم مؤمنون بهدف فاهتموا به وبنوا الحضارة من أجله.

إذن لهذا السبب قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أول من آمن بالله ورسوله)، فإنْ كان الإيمان أمراً خيالياً ومتوهماً ويخالف الحقيقة فكيف كان الشخص الذي يهدي إلى الحق والحقيقة-وهو أمير المؤمنين (عليه السلام) - متلبساً بالإيمان الذي تقولون أنه وهم وخيال؟

وعلى ضوء هذه السمة التي وصف رسول الله (صلى الله عليه وآله) بها أمير المؤمنين (عليه السلام) نقول:

إن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يقل إنه أول من أسلم بل قال أول من آمن بالله وبرسوله، وذلك لنكتة مهمة وهي أن الإيمان قضية عقدية قلبية-كما مر- فتارة الشخص يبرز الحب لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكنه يبطن له البغض والكراهية، وهذا قد يكون مؤمناً بالمعنى الأعم-أي مسلماً-ولكنه منافق، وأخرى يطابق قوله وعمله إيمانه القلبي وهذا هو المؤمن بالمعنى الأخص، فالإيمان يكون بعد التصديق والإلتزام بالشيء، فالمؤمن بفكرة ما يكون قد صدقها والتزم بها.

وفي الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: الإيمان قول باللسان، ومعرفة بالقلب، وعمل بالأركان) (97)، فقد تحب شخصاً وتظهر له حبك ولكن هذا لا يدل على تصديق المحبوب لكلامك، لذلك فالأهم من ذلك هو اعتقاد المحبوب وشهادته بأنك تحبه، ولقد شهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن أمير المؤمنين (عليه السلام) أول من آمن به وأنه يعتقد به عقيدة قلبية جازمة وأنه اتبعه بجنانه ولسانه وأركانه وهي شهادة صدق من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم نرَ أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد شهد للأول أو الثاني بل حتى الثالث بأنهم مؤمنون، فإدعاء هؤلاء الثلاثة وغيرهم كالحكام العباسيين أنهم قد اتبعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وساروا على نهجه أمر سهل، ولكن التنفيذ صعب، ولكن تصديق رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصعب حيث لا شهادة لهم من قِبله (صلى الله عليه وآله).

السبق إلى الخير خير آخر

المحور التاسع: إن للسبق فضيله كما هو واضح لنوع البشر، قال تعالى: (فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ) (98) حيث السبق إلى الخير خير آخر غير الخير المترتب على أصل عمل الخير، وقال تبارك وتعالى: (فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون) (99).

والرسول (صلى الله عليه وآله) أقرَّ لأمير المؤمنين (عليه السلام) بفضيلة السبق والأولية في الإيمان، ومعنى السبق إلى الإيمان في تلك الظروف هو السبق إلى العزلة عن قريش واتهامهم إياه بالخروج عن العادات والتقاليد والظلم والإضطهاد والنفي إلى شعب أبي طالب (عليه السلام) وغيره من مصاعب ومتاعب فلذلك يكون السبق أولى وأفضل من كل سبق إلى خير غيره، وعليه فالسبق إلى زيارة سيد الشهداء (عليه السلام) في هذه الأيام وإنْ كان له فضلاً عظيماً، لكنه ليس بمثل الزيارة في زمن صدام حيث السبق آنذاك له فضيلة أعظم من هذه الأيام.

وأما ما ذكره بعض أهل الخلاف من إنكار فضل السبق لأمير المؤمنين (عليه السلام) لأنه كان صبياً ولم يكن مكلفاً فهو مجرد اداعاءات باطلة، وذلك لعدم الدليل على كونه غير مكلف، ولو سلم ذلك إلا أن للصغير المميز حكم الكبير في عبادته وفي قبول إسلامه، فلو نطق الطفل بالشهادتين وأبويه كافرين يحكم بإسلامه ويعامل معاملة المسلم، قال السيد الوالد6: (ويؤيد ما ذكرناه مركوزية أذهان المتشرعة على أن طفل الكافر لو أسلم يعامل معاملة الكافر، فلو أن صبياً قارب الحلم كفر بالله عقيدةً ولفظاً وعملاً، فهل يعامل المسلمون معه معاملة المسلم باعتبار دليل الرفع وما أشبه...) (100)، ويؤيده ذهاب الكثير من الفقهاء إلى قبول العبادات عن الطفل المميز، فيفتون بإمكان استئجار الصبي لأداء الصلوات الفائتة.

ينقل عن الشيخ حبيب الله الكلبايكاني أنه كان يقف ويصلي كل يوم في وقت السحر أمام أبواب حرم الإمام الرضا (عليه السلام) قبل أن تفتح الأبواب وذلك لكي يكون أول من يدخل ويزور الإمام الرضا (عليه السلام)، واستمر على هذه الحالة قرابة الأربعين سنة، ففي إحدى الليالي التي كان مريضاً ولم يكن بإمكانه الذهاب للزيارة، التفت إلى جهة حرم الإمام الرضا (عليه السلام) معتذراً منه بأنه لا يمكنه الزيارة بسبب مرضه، وفي تلك الليلة رأي الإمام (عليه السلام) في حالة اليقظة -وليس في المنام وإنما نقل من عالم إلى عالم آخر- وأعطاه الإمام (عليه السلام) باقة ورد، وبمجرد أن أخذ الباقة رجع إلى عالمه القديم، وتشافى من مرضه وأصبحت يده شفاءً بمجرد أن يضعها على المريض، وهذه نتيجة أسبقيته إلى حرم الإمام الرضا (عليه السلام).

لقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في خطبته الشريفة: [وَالَّذي فَدى رَسُولَ اللهِ بِنَفْسِهِ]

قيمة التضحية

المحور العاشر: إن التضحية من القيم الإنسانية وتزداد قيمة لو اقترنت بهدف سامي أو حفاظاً على شخص غالي كما أنها قيمة فطرية، وجميع الأديان والشرائع يُقَدِرُون الشخص المضحي، وأبرز من تجلت فيه هذه القيمة هم أهل البيت (عليهم السلام)، ففي زيارة المولى سيد الشهداء (عليه السلام): (وبذل مهجته فيك، ليستنقذ عبادك من الضلالة والجهالة والعمى والشك والارتياب إلى باب الهدى من الردى) (101)، وعنه (عليه السلام): (وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر) (102).

ومن المهم أن يكون الفرد مضحياً مجاهداً طوال حياته، لا أن تغيره الأموال أو السلطة لتجعله ظالماً عاتياً كما حصل للكثير من الحكام والسلاطين، فهذا (كاسترو) يحمل قيماً في شبابه مجاهداً ضد الامبرالية إلى أن وصل إلى سدة الحكم فأصبح مجرماً ديكتاتوراً، فالإمتحان أن تمتلك الأموال وتكون السلطة بين يديك ولكنك لا تتغير كما لم يتغير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقد قال: (والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيره ما فعلته، وإن دنياكم عندي لاهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ونعيم يفنى ولذة لا تبقى، نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين) (103)، وقد أوسمه الله وسام التضحية إذ قال: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) (104) فإنه من أصعب الأمور أن ترى أطفالك جياع ولكنك تؤثر بأكلهم لرضى الله عز وجل، هذا وقد أوسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين (عليه السلام) وسام التضحية والفداء أيضاً فقال (صلى الله عليه وآله): (الذي فدى رسوله بنفسه)، وفي العديد من المواقف كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يذبّ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه مثل ليلة المبيت وغيرها من غزوات ومواقف، ومن كان كذلك أي فانياً في رسول الله (صلى الله عليه وآله) مدافعاً مضحياً عنه كان الأحق بالاتباع وليس من كان يرسله الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى الجبهة فيرجع يجبِّن أصحابه ويجبنونه.

ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في خطبته الشريفة: [وَالَّذي كانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ وَلا أَحَدَ يَعْبُدُ اللهَ مَعَ رَسُولِهِ مِنَ الرِّجالِ غَيْرُهُ]

الكون مع رسول الله

المحور الأخير: الكون مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يقصد به الكون المكاني فحسب، وإن كان لذلك فضيلة عظيمة حيث رباه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في حجره وأطعمه بنفسه، بل إنما المقصود الوقوف مع الرسول (صلى الله عليه وآله) في كل الأحيان والأزمان والأماكن، وفي الصعاب والشدائد لا في وقت الغنيمة والراحة والمصلحة فحسب، لذلك قال له (إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي) (105)، ولا يشفع القرب المكاني مع البعد الروحاني فهذا فرعون قد تربى موسى في قصره وذاك هارون دُفن بجوار الإمام الرضا (عليه السلام) وبينهما البون الشاسع من الناحية المعنوية والروحية والمكانة الأخروية.

ولنعم من قال (106):

قبرانِ في طُـــــــــــوسَ: خيرُ الناسِ كلِّهُم.......وقَــــــــــــــــــبْرُ شرِّهُم، هــــــــــذا مِن الْعِبَرِ

ما ينفعُ الرجسَ منْ قربِ الزكيَّ، وما.......على الزكيَّ بقربِ الرجسِ منْ ضررِ

هيهاتَ كلُّ امرىء ٍ رهنٌ بما كسبــــــــــتْ.......لـــــــــــــه يَدَاهُ، فَـــخُذْ مَا شِـــئْتَ أَو فَـذَرِ

* من أبحاث (على ضفاف الإحتجاج) سماحة السيد محمد علي الحسيني الشيرازي
تقرير: الشيخ حسين الخضري والشيخ عبدالله الخضري

.......................................
(1) غافر 26.
(2) بحار الأنوار الجزء 44 ص391.
(3) طه 50.
(4) الإنسان 3.
(5) الروم 30.
(6) الشمس 7-10.
(7) القصص 56.
(8) الزمر 22.
(9) العنكبوت 69.
(10) الأنعام 75.
(11) النحل 93.
(12) التكاثر 5-6.
(13) بحار الأنوار الجزء 64 ص315.
(14) الصافات 96.
(15) الأنعام 125.
(16) القصص 56.
(17) الصافات 96.
(18) محمد 17.
(19) العنكبوت 69.
(20) الأنبياء 73.
(21) محمد 17.
(22) الإسراء 18-19.
(23) الصف 5.
(24) التوبة 67.
(25) الإسراء 18.
(26) بحار الأنوار الجزء 40 ص299-300.
(27) بحار الأنوار الجزء 40 ص299-300.
(28) بحار الأنوار الجزء 31 ص417.
(29) بحار الأنوار الجزء 25 ص115.
(30) بحار الأنوار الجزء الثاني ص100.
(31) بحار الأنوار الجزء 23 ص205.
(32) المناقب للخوارزمي: 160 باب 14 ح190، الرياض النضرة الجزء 3، 128، الصواعق المحرقة 44، شرح المواهب اللدنية 13، الروض الأزهر 366، فتح المبين هامش السيرة النبوية لزيني دحلان 1: 171-178 و 2: 162.
(33) بحار الأنوار الجزء 58 ص68.
(34) بحار الأنوار الجزء الخامس ص9.
(35) بحار الأنوار الجزء103 ص32.
(36) المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني، الجزء الثالث ص93، ط3 دار التعارف 1401.
(37) بحار الأنوار الجزء 100 ص232.
(38) الروم 19.
(39) فاطر 28.
(40) الشمس 7-8.
(41) بحار الأنوار الجزء الخامس ص157.
(42) البقرة 26.
(43) البقرة 258.
(44) النساء 168.
(45) النحل 104
(46) يوسف 52.
(47) المك 10.
(48) الغاشية 17.
(49) بحار الأنوار الجزء 70 ص225.
(50) بحار الأنوار الجزء الأول ص153.
(51) خطبة الغدير.
(52) بحار الأنوار الجزء 50 ص168.
(53) الحشر 17.
(54) بحار الأنوار الجزء 16 ص231.
(55) خطبة الغدير.
(56) بحار الأنوار الجزء 24 ص64.
(57) بحار الأنوار الجزء 36 ص196.
(58) الحمل الأولي الذاتي: هو اتحاد الموضوع والمحمول في المفهوم واختلافهما بالإجمال والتفصيل، كقولنا: الإنسان حيوان ناطق.
الحمل الشائع الصناعي: هو اختلاف الموضوع والمحمول مفهوماً وإتحادهما مصداقاً، كقولنا: الإنسان ضاحك.
(59) الحج 6.
(60) الأنعام 62.
(61) البحر الزخار ج2 ص491، فيض القدير الجزء الثاني ص236.
(62) بحار الأنوار الجزء 34 ص32.
(63) بحار الأنوار الجزء38 ص33.
(64) ينابيع المودة الجزء الأول ص269.
(65) البقرة 138.
(66) مفاتيح الجنان.
(67) بحار الأنوار الجزء 34 ص36.
(68) بحار الأنوار الجزء 22 ص340.
(69) بحار الأنوار الجزء 15 ص109.
(70) بحار الأنوار الجزء23 ص129.
(71) بحار الأنوار الجزء36 ص226.
(72) الرعد 17.
(73) محمد 8-9.
(74) وكقول أمير المؤمنين (عليه السلام) لمروان بن الحكم عندما استشفع بالإمامين الحسن والحسين3 (...فكلماه فيه فخلى سبيله فقالا له: يبايعك يا أمير المؤمنين فقال (عليه السلام): أو لم يبايعني بعد قتل عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته إنها كف يهودية لو بايعني بيده لغدر بسبته أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه وهو أبو الأكبش الاربعة وستلقى الامة منه ومن ولده يوما أحمر)، إيضاح: (والغرض قصر مدة إمارته وكانت تسعة أشهر. وقيل: ستةأشهر. وقيل: أربعة أشهر وعشرة أيام). بحار الأنوار ج32 ص235.
(75) الرعد 17.
(76) بحار الأنوار الجزء الثاني ص33.
(77) بحار الأنوار الجزء 41 ص122.
(78) بحار الأنوار الجزء 33 ص474.
(79) بحار الأنوار الجزء33 ص250-251.
(80) بحار الأنوار الجزء21 ص216.
(81) بحار الأنوار الجزء22 ص416.
(82) البقرة 168.
(83) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد الجزء20 ص305.
(84) بحار الأنوار الجزء67 ص2.
(85) بحار الأنوار الجزء41 ص9.
(86) المقصود من التشكيك هو النسبة المشككة مقابل المتواطئة. (المقرر).
(87) كالرسول9وأهل بيته(عليهم السلام)، ففي روضة المتقين عن رسول الله9: (ياعلي ما عرف الله حق معرفته غيري وغيرك، وماعرفك حق معرفتك غير الله وغيري) بحار الأنوار الجزء39 ص83، وكالعالم الرباني طبعاً في مرحلة أدنى من معرفة الرسول وعترته(عليهم السلام)-.
(88) سبأ 24.
(89) آل عمران 85.
(90) الإسراء 81.
(91) آل عمران 71.
(92) بحار الأنوار الجزء 29 ص343.
(93) بحار الأنوار الجزء99 ص123.
(94) هود 80.
(95) حدثنا جعفر بن محمدبن مسرور رضي الله عنه قال: حدثنا الحسين بن محمد ابن عامر، عن عمه عبدالله بن عامر، عن محمدبن أبي عمير، عن ابن أبي حمزة، عن أبى بصير قال: قال أبوعبدالله عليه السلام: ماكان قول لوط عليه السلام لقومه " لو أن لي بكم قوة أو آوي إلي ركن شديد" إلا تمنيا لقوة القائم عليه السلام ولاذكر إلا شدة أصحابه وإن الرجل منهم ليعطي قوة أربعين رجلا، وإن قلبه لاشد من زبر الحديد، ولو مروا بجبال الحديد لقلعوها، ولايكفون سيوفهم حتي يرضي الله عزوجل. (كمال الدين، باب في نوادر الكتاب الحديث26).
(96) بحار الأنوار الجزء24 ص318.
(97) بحار الأنوار الجزء66 ص68.
(98) البقرة 148.
(99) المططفين 26.
(100) الفقه ج82 ص59.
(101) بحار الأنوار الجزء 98 ص177، كامل الزيارا 369..
(102) بحار الأنوار الجزء44 ص329.
(103) بحار الأنوار الجزء 41 ص162.
(104) الإنسان 8.
(105) بحار الأنوار الجزء 14 ص476.
(106) دعبل الخزاعي (رضوان الله تعالى عليه).

اضف تعليق