q

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين.

تمهيد

تكاثرت في الفترة الأخيرة اتهامات التضليل وازداد عدد أولئك الذين يستخدمون سلاح التهمة بالبدعة والابتداع أو الضلال والانحراف لتسقيط العلماء والرموز الدينية بأدهى وجه أو بأدنى شبهة، وهذا البحث يقوم بدراسة علمية موضوعية لهذا المنهج الخطير على مستوى الأفراد والأمة على حد سواء.

في عصر الغيبة الكبرى أوكل الأئمة (عليهم السلام) إلى الفقهاء حصراً دون غيرهم، أمرين:

الأول: الفتوى، وذلك لأنه لا يكفي لاستنباط الحكم الشرعي مجرد المعرفة باللغة العربية أو مجرد مطالعة الآيات والروايات أو الثقافة الدينية العامة، بل لابد من التخصص ومن الحصول على ملكة الاستنباط التي لا تتوفر إلا بعد دراسة طويلة للعلوم الشرعية المرتبطة بالاستنباط، كعلم الأصول والفقه والرجال وغيرها، حتى يصل الإنسان إلى درجة القدرة على تمييز الأدلة الصحيحة من السقيمة ومعرفة تعارض الأدلة، والترجيح بينها، ثم تطبيقها على الموارد، ومعرفة قواعد التزاحم بين الأحكام والملاكات كل ذلك عن استنباط لا عن تقليد.

ثم بعد استنباط المجتهد للأحكام الشرعية وافتائه بها، يمكن للمقلد العمل بها.

الثاني: بيان الموضوعات المستنبطة الشرعية، وهي الموضوعات التي اخترعها الشرع، وذلك لأن الموضوعات على قسمين:

1- الموضوعات الصرفة وهي التي لم يحدد الشرع مفهومها ولا مصداقها، فهنا لا شأن للفقيه في تحديدها بل تؤخذ مفاهيمها من العرف، وكذلك مصاديقها بشرط عدم تسامح العرف، لأن المسامحات العرفية غير حجة، مثلاً لو قال الشارع: الدم نجس، فمعنى (الدم) ومصاديقه تؤخذ من العرف، حيث إنه لم يكن للشارع اصطلاح خاص في كلمة (الدم).

2- الموضوعات المستنبطة الشرعية(1): وهي المواضيع التي اخترعها الشارع، مثل ـ الصلاة والصوم، ولا فرق في ذلك بين ذهابنا إلى الحقيقة الشرعية أو المتشرعية أو عدمهما، فهنا نجد أن تشخيص مفهوم الصلاة لا يرتبط بالعرف، بل هو أمر مرتبط بالاستنباط الشرعي والتي هي وظيفة الفقيه حصراً دون غيره، مثلاً: تعيين مفهوم الصلاة (أجزاؤها وشرائطها وقواطعها وموانعها... إلخ) وظيفة الفقيه حصراً، فلو تصدى لذلك غير فقيه، فقد ارتكب كبيرة من أكبر الكبائر الموبقة.

بعد هذه المقدمة نأتي إلى صلب الموضوع:

معنى الضلال وحقيقته

إن الضلال من المواضيع المستنبطة شرعاً، وليس من الموضوعات الصرفة التي تم إرجاع تشخيصها إلى العرف، وذلك لأن (الدين) يحدده الله تعالى حصراً، ثم التعدي عن الدين أيضاً على درجات أربع: فقد يصل إلى حد 1- الكفر 2- أو النفاق 3- أو الضلال 4- أو الفسق، هذا كله من جهة.

ومن جهة أخرى: قد يكون الخطأ معفواً عنه وقد لا يكون معفواً عنه، وكل ذلك يؤخذ من الشرع حصراً.

ومن جهة ثالثة: فإن بعض المسائل –سواء أكانت عقدية أم فرعية- غير اتفاقية بين الفقهاء فقد تكون خاضعة للإجتهادات أو يكون تجاوزها مجرد خطأ.

ومن جهة رابعة: قد يكون للشيء الواحد أكثر من وجه، فيتغير العنوان وحكمه بتغير الوجه، مثل الضرب تأديباً لمن يستحق التأديب (كالمجرم) بشروطه أمر مشروع، أما الضرب تشفياً فغير مشروع، فمع أن الصورة واحدة والعمل واحد، لكن عنوان التأديب جعل الضرب حسناً وعدلاً في الأول، وعنوان التشفي جعل الضرب قبيحاً وظلماً في الثاني، وغالب الأعمال حسنها أو قبحها يرتبط بالعناوين التي تنطبق عليها. وتوضيح ذلك:

حسن الأعمال وقبحها

إن الأفعال من حيث الحسن والقبح تنقسم إلى ثلاثة أنواع:

النوع الأول: ما كان حسنها أو قبحها ذاتياً، كالعدل والظلم، وهذه يستحيل تغير حكمها، فلا يوجد عدل قبيح ولا ظلم حسن، وبتعبير مجازي هي: علة تامة للحسن أو القبح، ويستحيل انفكاك المعلول عن علّته التامة.

النوع الثاني: ما كان لها اقتضاء الحسن أو اقتضاء القبح، كالصدق والكذب، والمقتضي يؤثر أثره إن لم يكن مانع، لكن قد يمنع مانع فلا يؤثر، فلذا يكون الكذب في الإصلاح جائزاً، والصدق الموجب لقتل الناس حراماً.

النوع الثالث: ما ليس فيه اقتضاء للحسن ولا للقبح، كشرب الماء مثلاً، فحكم هذا تابع للوجوه والاعتبارات، فالشرب الذي فيه انقاذ النفس من الموت واجب، والشرب من الماء المغصوب حرام مثلاً.

وأكثر الأفعال أو الأقوال التي قد تكون سبباً للضلال أو الكفر من قبيل النوع الثاني أو الثالث مثلاً النطق بكلمة الكفر قبيح ومحرم ويوجب الكفر في نفسه، لكن قد تكون التقية مانعاً عن القبح والحرمة والكفر، بل قد تجب أحياناً.

وكذا التولي اللساني لخلفاء الجور والتبري من الأئمة (عليهم السلام) قبيح وحرام في نفسه، لكن قد يجب أو يجوز في حالة التقية ـ بشروطها ـ، لأن التقية منعت المقتضي للحرمة.

وقد تتزاحم العناوين المختلفة أو تتعارض الأدلة، فهنا لابد من إعمال القواعد الأصولية وترجيح الأهم على المهم مثلاً، وغير ذلك مما يعرفه الفقهاء ويجهله الآخرون.

والحاصل هنا:

أولاً: لابد من تشخيص الفقيه حصراً للموضوع المستنبط، أي: ما هو الضلال؟ وما هي أسبابه؟ فلا يحق لغير الفقيه التدخل في ذلك أو إبداء الرأي فيه، لأن ذلك من التدخل في أمور الدين من غير علم، قال الله تعالی: {قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ}(2) إضافة إلى أن ذلك يُدينه العقلاء إذ إنهم يقبحون تدخل غير المتخصص في الحقول التخصصية.

وثانياً: لابد من تشخيص الفقيه للمصداق الخارجي، أي: تطبيق الكلي الذي استنبطه على المصداق الجزئي والحكم بضلال فلان وفلان، لأن ذلك يدخل في دائرة (الحكم) وهو منصب خاص بالفقيه؛ وتوضيح ذلك:

منصب القضاء والإفتاء والحكم، خاص بالفقهاء

إن الله تعالى جعل من مناصب الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) الحكم بين الناس، وهذا المنصب خاص بهم، فقال تعالى: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ}(3)، والحكم يشمل الحكم حين تنازع الناس أي القضاء، وفي المواضيع العامة كالحكم بالهلال والجهاد، وفي المواضيع الخاصة أيضاً إذا كانت من أمور الحسبة، بل هم أولى بالمؤمنين من أنفسهم حتى في الأمور الشخصية.

وقد ذكر الفقهاء في كتبهم الفقهية -خاصةً في كتاب التقليد والقضاء والبيع- أن مناصب الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) لا يجوز أن يتبوأها أحد، إلا بالإذن الخاص، أو الإذن العام منهم (عليهم السلام)، فالإذن الخاص كالولاة والقضاة الذين نصبهم الرسول (صلى الله عليه وآله) مثلاً، والإذن العام كتفويض القضاء والأمور الحسبية إلى الفقهاء بدلالة الأدلة المعتبرة، مع خلاف بين الفقهاء في دلالة الأدلة على تفويض الولاية العامة، ثم الخلاف في حدود ذلك التفويض بين القائلين بالولاية العامة، مع اتفاقهم على عدم التفويض الشامل التام.

وعلى ذلك فإن الحكم بالضلال في عصر الغيبة لا يصح ولا يجوز إلا من الفقيه الجامع للشرائط.

صعوبة تشخيص الضالين

قد ترجع صعوبة التشخيص إلى أمرين:

الأمر الأول: إن غالب موجبات الضلال ليست من الأمور الواضحة للناس.

فالأمور العقدية أقسام وأصناف، ولكل صنف حكم يختلف عن حكم الصنف الآخر، وقد تختلف الحالة بالنسبة إلى الأشخاص فقد تكون ضلالاً لشخص وشبهة لشخص آخر وعذراً لشخص ثالث!!

فحتى إنكار الضروري لا يكون سبباً للكفر أو الضلال إلا إذا رجع إلى تكذيب الله والرسول والأئمة عليهم السلام، أو رد قولهم من غير عذر.

وغالب المخالفات لا توجب الضلال لإحتمال حصول الشبهة فتكون معفواً عنها غالباً، أو مجرد معصية عملية لا ترتبط بالعقيدة، فالضلال إنما هو في العقائد أو الأعمال التي ترجع إليها، دون الأعمال التي لا ترجع إلى الأمور العقائدية فإن تلك المخالفات قد تكون فسقاً لا ضلالاً.

فكون المورد أو الكلام من أي الأصناف، وهل يعذر فيها الإنسان لشبهة وخطأ، أم لا يعذر!! تشخيص كل ذلك لا يكفي فيه مجرد الثقافة الدينية العامة، بل لابد من ملكة الاستنباط وعلوم الاجتهاد، وذلك لكثرة تعارض الأدلة، واختلاط روايات فيها تقية بغيرها، وأيضاً وجود أدلة معتبرة مجملة.

مثلاً: لم يذهب أحد إلى ضلال الشيخ الصدوق "رضوان الله عليه" لأنه ذهب إلى سهو النبي (صلى الله عليه وآله)، وذلك لأنه اعتمد على رواية أو روايات وجدها معتبرة سنداً ظاهرة الدلالة في كتاب الكافي وغيره، وتوهم أنها صادرة لبيان الواقع، ولم يحملها على التقية أو وجه آخر مما ذكرها سائر العلماء.

كما لم يذهب أحد إلى ضلاله! لأنه اعتبر الشهادة الثالثة في الأذان بدعة ومن زيادات المفوضة (لعنهم الله تعالى)، وذلك لأنه لم يجد دليلاً عليها، وزعم أن لا وجه شرعي لها!! مع أن المشهور بينوا وجه جواز ذكرها في الأذان، واعتبروا كلام الصدوق اجتهاداً قد اخطأ فيه فحسب لا أكثر.

وإنما ذكرنا هذين المثالين لإشتهارهما ولمعلوميتهما، والأمثلة كثيرة في هذا الجانب.

الأمر الثاني: إن غالب موجبات الضلال هي من الأفعال أو الأقوال التي لها أكثر من وجه، فبوجه تكون ضلالاً، وبوجه آخر لا تكون ضلالاً، بل قد تكون عين الإيمان.

مثلاً: الترضي على خلفاء الجور إذا كان عن اعتقاد بهم فهو يكشف عن ضلال، وإن كان في تقية فله أحكام التقية من جواز أو وجوب أو سائر الأحكام، وإن لم يكن عن اعتقاد ولا عن تقية ولا عذر آخر فهو معصية عملية لا ضلال عقدي!!.

ومع عدم علمنا بوجه الفعل، يعني لم نعلم أن داعي الشخص الفلاني من ذلك الفعل هو أية جهة من الجهات، هل الجهة الجائزة ام المحرمة؟، فحينئذ يجري دليل حمل فعل المسلم على الصحة، فلابد من حمل فعله على أحسن محمل!!.

وعليه: فتشخيص انطباق الضلال على المصداق الجزئي أي: على الشخص الفلاني، أمر متعسر، إذ لا يتمكن منه إلا من تمرس في الشرع وصارت له ملكة الاستنباط، فعلم أن المورد هل له وجوه متعددة أم لا، وهل ينطبق على هذا الشخص الوجه الذي يكون سبباً للضلال أم لا، وهل يجري دليل حمل فعل المسلم على الصحة أم لا، وهل هو من موارد تزاحم الأدلة أم لا... إلخ.

الخلاصة

ومع كل ما تقدم، قد لا يتمكن الفقيه من العلم بالانطباق، لكثرة احتمالات الوجوه المختلفة، ولذلك قلما نجد الفقهاء يحكمون بضلال أحد، إلا لو تجمعت القرائن الكثيرة بحيث لا يبقى مجال شرعاً للحمل على الصحة ولا إعذار ذلك الشخص.

ولو فرضنا أن غير الفقيه تمكن في مورد من الموارد من تشخيص الضلال وتشخيص الشخص الضال بالقطع، فإنه لا يجوز له الحكم بذلك، لما ذكرناه من أنّ الحكم خاص بالفقيه.

الحوار

س1: أليس تعريف الضلال يكون دائراً بين الجهل التقصيري بما يكون به الإيمان متحققاً أو إنكار الضروري لشبهة في غير أصل التوحيد أو النبوة؟

ج1: مسائل العقيدة على أقسام:

منها: أساسيات أصول الدين، كالتوحيد والنبوة والإمامة والمعاد.

وهذه لا فرق فيها في الكفر أو النفاق أو الضلال بين الجاهل والعامد، فمنكر التوحيد مشرك حتى لو كان عن جهل قصوري، ومنكر نبوة رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) كافر حتى لو كان قاصراً، ومبغض الإمام علي (عليه السلام) منافق حتى لو كان عن شبهة.

نعم الجاهل القاصر قد يكون معذوراً، لكن عذره يرفع العقاب عنه ولا يرفع الكفر.

وبعبارة أخرى: هنا موضوعان: الكفر والعقاب، والجهل القصوري يرفع العقاب لقبح العقاب بلا بيان، ولكنه لا يرفع الكفر أو الضلال.

ومنها: بعض مسائل أصول الدين التي يتحقق بها الكفر أو النفاق أو الضلال للعامد دون الجاهل، ـ على بعض الأقوال ـ كإنكار الضروري فإنه كفر إذا استلزم تكذيب الله تعالى أو الرسول (صلى الله عليه وآله) عن علم وعمد، وكإنكار بعض العقائد من غير دليل وبرهان ولا شبهة.

وأما إذا لم تكن من الأساسيات ولم تستلزم تكذيب الله أو الرسول وكانت لشبهة وكان معذوراً في تلك الشبهة فلا، مثل مسالة الإسهاء.

وهناك أصناف اخرى من مسائل العقائد قد ذكرناها في بعض البحوث.

ولا يخفى أن التمييز بين الأصناف أمر لا يعرفه إلا من تمرس في العلوم الشرعية وخاصة في الحديث والمعارف، ولا يتسنى ذلك عادة إلا لمن كان فقيهاً ذا ملكة الاستنباط.

س2: ما تعريفكم للضال، أهو المنكر للضروري عمداً لا للجهل التقصيري مثلاً، وذلك أنكم قلتم «للعامد دون الجاهل» والحال أننا نرى أن الروايات كثيراً ما نسبت الضلال للجاهل دون العارف؟

ج2: الجهل قد يكون قصورياً وقد يكون تقصيرياً. والجهل القصوري يرفع المؤاخذة قطعاً، لكنه قد يرفع الآثار التكليفية أو الوضعية وقد لا يرفعها، والحكم بالضلال أمر وضعي فقد يرفعه الجهل القصوري وقد لا يرفعه.

والمتّبَع هو الدليل فليس كل إنكار للضروري يوجب الضلال. وحين الشك فالإستصحاب للحالة السابقة للشخص، ولو الإستصحاب المسببي لو فرض عدم جريان الإستصحاب السببي.

س3: جاء في الرواية: (فإذا ظهر لك منه مثل الذي تقول به أنت، حقت ولايته وأخوته إلا أن يجيء منه نقض للذي وصف من نفسه وأظهره لك، فإن جاء منه ما تستدل به على نقض الذي أظهر لك، خرج عندك مما وصف لك وأظهر، وكان لما أظهر لك ناقضاً، إلا أن يدعي أنه إنما عمل ذلك تقية، ومع ذلك ينظر فيه: فإن كان ليس مما يمكن أن تكون التقية في مثله، لم يقبل منه ذلك، لأن للتقية مواضع، من أزالها عن مواضعها لم تستقم له...) وعند تطبيق هذه الرواية على موضوع الترضي على ظالمي أهل البيت (عليهم السلام) نجد لدينا أن المترضي إن ثبتت عدالته ابتداءً يُسأل عن عمله ويُتبين منه لا أن يُتجه إلى حمل فعله على أحسن الوجوه موضوعاً أو حكماً هذا إن كان الحمل مستساغاً أما إذا لم تثبت عدالته فهو خارج عن موضوع الحمل بأحسن تلك الوجوه أصلاً؟

ج3: أولاً: الرواية لم تذكر العدالة، بل ذكرت الإيمان بمعنى صحة المعتقد، وإطلاقها يشمل المؤمن غير العادل أيضاً، فراجع صدر الرواية (وسئل عن إيمان من يلزمنا حقه وأخوته كيف هو وبما يثبت وبما يبطل؟ فقال: إن الإيمان قد يتخذ على وجهين أما أحدهما فهو الذي يظهر لك من صاحبك فإذا ظهر لك منه.. إلخ).

وثانياً: حمل فعل المسلم على الصحة هو أصل عملي، والأصل العملي لا يعارض القطع أو الأمارات، بل هي واردة عليه (الورود بالمصطلح الأصولي)، فمع علمنا بكذب دعواه أو قيام الأمارة على كذبه فلا مجال للأصل العملي الذي هو أصل الصحة، ومن المعلوم أنه لا قطع ولا أمارة عادة في هؤلاء وخاصة الفقهاء منهم، فلا مورد لهذه الرواية فيهم.

بل على مبنى بعض الفقهاء الحمل على الصحة في الأقوال قد يشمل صورة العلم بالخلاف إذ بعض روايات حمل قول المسلم على الصحة عامة تشمل حتى صورة القطع بالخلاف، وعليه فإذا برر المترضي ترضيه بأنه كان للتقية فلابد من قبول قوله حتى مع العلم بالخلاف، فراجع كلام الشيخ الأنصاري (قدس سره) حيث يذكر في كتاب القضاء والشهادات صفحة 77-78 روايةً في تصديق المؤمنين، ثم يقول: (مع أن الرواية معارضة برواية أظنها عن أبي بصير وفيها: «يا أبا محمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسامة أنه قال قولا، وقال لم أقله، فصدقه وكذبهم».

فإن تكذيب السمع كالصريح في مخالفة ما دلت عليه الصحيحة.

فالظاهر لزوم الجمع بينهما بتكذيب السمع عنه في عدم سوء الظن به، والمراد من تصديق المؤمنين إذا شهدوا عليه: أن لا يكذبهم ولا يعتني بقولهم وينزل خبرهم منزلة المعدوم، بل يجب عليه أن لا يسيء الظن بالقائل ولا بالمقول فيه، وحاصله الأخذ في أفعاله في مجامع الاحتياط ليسلم على كل من تقديري صدق القول وكذبه.

وثالثاً: للحديث تتمة حيث يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (وتفسير ما يتقي مثل [أن يكون] قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنه جائز).

فلو كان المترضي في بلاد العامة، أو كان الحاكم عامياً ونحو ذلك فلو كان المترضي في بلاد العامة، أو كان الحاكم عامياً ونحو ذلك شمله هذا المقطع.

ورابعاً: يلزم أن لا ننظر إلى رواية بنظرة تجزيئية، بل لا بد من الجمع بين الأدلة، ومع مراجعة روايات التقية نجد شمولها للتقية المداراتية أيضاً ـ على مباني بعض الفقهاء ـ وعادةً المترضين ممن يقولون بها، وهذا المبنى الفقهي ساقهم عادة إلى ذلك.

س4: لكن الرواية في سؤالنا تبين بشكل واضح وصريح بأن مجرد ادعاء التقية لا يكفي من مدعيها بل يجب التحقق والتأكد والتبين عن صدق دعواه لا أن نخالف علمنا وقطْعَنا بانحرافه على خلاف المعمول به من سيرة العقلاء وخلاف المعمول به في أغلب الأنظمة القضائية العالمية في إثبات خيانة الخائن وعمالة العميل بعد صدور فعل الخيانة منه وعدم وجود ما يرفع جهة صدور فعل الخيانة، وهذه السيرة متبعة لحفظ النظام في المجتمع، وعدم اتباعها يؤدي لوقوع المجتمع الإسلامي بالسذاجة المفرطة في تبرير أفعال الظلمة والمنحرفين كما أن تركها يؤدي لضعف الوعي بالمعادلات الاجتماعية؟

ج4: الحمل على الصحة أصل عملي، ولا تجري الأصول العملية مع العلم أو مع قيام الحجة الشرعية، ومن المعلوم أن أجراء الأصول العملية إنما هو بعد الفحص عن الدليل الإجتهادي وعدم الظفر به ولذا ذكرت الرواية: (ومع ذلك ينظر فيه: فإن كان ليس مما يمكن أن تكون التقية في مثله، لم يقبل منه ذلك)، ويری بعض الفقهاء أنها أمارة، ولا تجري الأمارة إلاّ بعد عدم المعارض الأقوی، بل قد ذكرنا أن البعض يرى أجراء أصالة الصحة حتى العلم بالخلاف وحينئذ لا ينظر إلى رواية واحدة بل لابد من الجمع بين الروايات وعلى فرض تعارضها لابد من إعمال قواعد التراجيح.

س5: نرجع مرة أخرى إلى تتمة الرواية (عن قوم السوء، فقد يفهم منها هو ظلم وطغيان القوم وليس مجرد كونهم من مذهب العامة كما في بعض المجتمعات غير الشيعية العلمانية، وأمثلة الكافر العادل كالنجاشي ملك الحبشة، وبعض المجتمعات الغربية الحالية، وإمكان وجود العدالة الاجتماعية في مجتمعات الكافرين ممكن، فما تقولون حول ذلك؟

ج5: قوله عليه السلام (لمكان التقية) أي مع تحقق موضوعها، وما ذكرتم من أمثلة قد لا تتحقق فيها موضوع التقية، فعند عدم التحقق يكون من السالبة بانتفاء الموضوع.

س6: نلاحظ دقة شديدة في تطبيق أحكام الفسق والانحراف والضلال على الأشخاص، ويتبين ذلك في الشروط، إذ أن بعضها يتناول الجوانب النفسية للمطبق عليه الحكم، كالإشتباه والتعمد وأن يكون ضرورياً عند نفس الشخص، وإثبات مثل هذه الأمور عملياً ليست متيسرة لأي أحد، فهي أقرب لمحاسبة النوايا بمعرفة ما في الضمائر وكوامن الشخصية ومثل هذه الأمور ليست متوفرة عند كل الفقهاء، فما هي المواصفات والشروط التي ينبغي توفرها في الفقيه المتصدي لتطبيق هذه الأحكام؟

ج6: كما أن الحس قد يكون حجة، كذلك قد يكون الحدس حجة.

والحدس قسمان:

1. حدس قريب من الحس، وهو حدس لا يتوقف على مقدمات نظرية كالحدس بعدالة شخص ما، حيث أن العدالة تتشكل من جزئين أحدهما ملكة نفسانية والآخر الإلتزام بالواجبات وترك المحرمات، فكثيراً ما يحصل العلم بالملكة عبر المعاشرة أو حسن الظاهر، وهذا العلم حدس قريب من الحس، وهو كما أنه حجة على الحادس نفسه، كذلك تشمله أدلة حجية خبر الثقة.

2. حدس بعيد عن الحس، وهو الذي يتوقف على مقدمات نظرية، وهذا إذا أورث الإطمئنان فهو حجة للحادس، ولكنه ليس بحجة على غيره، إلا في حالتين:

الأولى: إذا كان الحادس من أهل الخبرة ولم يكن ذلك الغير من أهل الخبرة، لذلك فإجتهاد الفقيه ليس بحجة على فقيه آخر، وهو حجة على العوام ممن يقلدونه.

الثانية: إذا حكم الفقيه الجامع للشرائط في القضاء، فهنا حكمه حجة على غيره حتى المجتهدين، وكذلك في غير القضاء من الموضوعات غير الصِرفة، بشرط عدم العلم بخطئه أو خطأ مستنده.

وبناءً على ذلك، فقد تجتمع قرائن تورث العلم ببعض الأمور النفسية أو تورث العلم بالنية، فلذا يمكن للقضاء عبر طرق مختلفة ومنها تجميع القرائن التمييز بين قتل الخطأ وقتل العمد، وكذلك في الجنايات العمدية، نعم لو شككنا فالحدود تدرأ بالشبهات.

وهكذا الأمر بما يرتبط بالفسق والكفر والضلال، فقد تجتمع قرائن عليها بحيث يحدس الفقيه حدساً اطمئنانياً بهذه الأمور فيحكم بالفسق أو الضلال أو الكفر، ومع الشك فالأصل هو الحمل على الصحة.

س7: الكلام في نوع خبروية الفقيه الحادس أهي مرتبطة في مقدرة نفس الفقيه بالفرع التطبيقي والتشخيصي من علم نفس الشخصية فيكون قادرا على تمييز شخصيات الناس بحيث يساعده هذا العلم في فهم شخصية المتهم وكوامنه النفسية من جهة كونه متعمداً أو مشتبها أو كون المسألة ضرورية عند المتهم فيكون الموضوع عند الفقيه واضحاً لتضلعه بعلم نفس الشخصية، أم يكفي في الفقيه مجرد المعرفة النظرية في الأحكام الفقهية، وذلك لأن الحديث عن الملكة النفسانية أقرب ما يكون للحديث عن نوايا المتهم وكشفها عملياً من الصعوبة بمحل، كما أن معاشرة المتهم (الذي هو من الشخصيات الإجتماعية) والمشكوك في أمره وعقائده وملاحظة حسن ظاهره ليست متوفرة للفقيه غالباً لأن دائرته الاجتماعية مقصورة غالباً في الحوزة التي يقطن فيها؟

ج 7: الكلام في التشخيص الجزئي مضافا إلى الحكم الكلي، فالحكم الكلي خاص بالفقيه الجامع للشرائط، وأما التطبيق فهو إن كان حكماً فيرتبط أيضاً بالفقيه ويجب أن يكون خبيراً فيه أيضاً ولا تكفي خبرويته بالكليات.

والحكم بالكفر والضلال حكم، فيكون مختصاً بالفقيه من كلتا الناحيتين.

ولو فرض عدم تمكن الفقيه من الحكم الجزئي لعدم تمكنه من التشخيص فهذا لا يسوغ الحكم لغير الفقيه، بل تستصحب الحالة السابقة للشخص.

س8: يتميز الشيعة عن بقية المذاهب من ناحية نظرية بأن انتخاب المرجع العادل ينطلق من القاعدة الشعبية فإذا لم يكن تشخيص مصاديق العدالة والفسق الظاهر بيد العوام بنحو جزئي وكانت بكاملها بيد الفقهاء وأهل الخبرة حصراً وقعنا بإشكاليات كإشكالية الدور والمسألة ليست مرتبطة بالبعد العملي فقط فقد جاء في رواية الإمام العسكري (عليه السلام) التي تتكلم عن عوام اليهود وعوام الشيعة في موضوع التقليد ما مضمونه: فإن عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح، وأكل الحرام، والرشاء، وتغيير الأحكام، واضطروا بقلوبهم إلى أن من فعل ذلك فهو فاسق، لا يجوز أن يصدق على الله، ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله، فلذلك ذمهم، وكذلك عوامنا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر، والعصبية الشديدة، والتكالب على الدنيا وحرامها، فمن قلد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمهم الله بالتقليد لفسقة علمائهم... إلى أن قال... وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا كلهم، فان من ركب من القبايح والفواحش مراكب علماء العامة، فلا تقبلوا منهم عنا شيئا، ولا كرامة.

فما تقييمكم لمثل هذا الكلام؟

ج8: العلم حجة ذاتية، والعلم بالعدالة أو الفسق قد يحصل للعامي أيضاً فهو حجة له، ويجوز له الشهادة بما علمه إن توفرت فيه شروط الشهادة، إنما لا يجوز للعامي الحكم بذلك، لا أنه ليس بحجة له، وبين الأمرين فرق واضح.

والحديث يؤيد ما ذكرناه، فإن عوام اليهود عرفوا أحبارهم بارتكاب المحرمات ومع ذلك اتبعوهم، وكذلك عوامنا إذا عرفوا من أحد الفسق فلا يحق لهم اتباعه وتقليده، وإلا كانوا كعوام اليهود.

وارتكاب الحرام قد يكون واضحاً من غير احتمال الخلاف، كما في ارتكاب المحرمات الضرورية كشرب الخمر والزنا، فلو علم أحد من العوام أن فلاناً ارتكب الكبيرة من غير شبهة وعذر فقد علم بفسقه، وخاصة إذا تكرر ذلك منه.

وقد تكون خاضعة للإجتهادات، فمن كان يعتقد بشي انه كبيرة من الكبائر ومع ذلك ارتكبها، أو صغيرة ومع ذلك أصر عليها، من غير شبهة، ثم علم العامي بكل ذلك، فقد ثبت عنده فسقه.

وهكذا موجبات الكفر أو الضلال، إذا كانت من الأمور الضرورية وارتكبها أحد من غير شبهة أو احتمال العذر، أو كانت من الأمور الضرورية التي يثبت بها الكفر أو الضلال حتى مع الشبهة، كإنكار التوحيد، فحينئذ، لو علم العامي بها كان علمه حجة عليه.

س9: من المنسوب للمرجئة وأمثالهم أنهم يترضون عن الظالمين وأفعالهم ويرجؤون الحكم عليهم إلى الله في يوم القيامة لكي لا يتقولوا على الله أو يوجبوا عليه حُكماً ولكي لا ينسبوا لله العجز في قدرته، فيتجنبون ذكرهم بأشخاصهم، فإذا تجنب العامي عن تطبيق أحكام الانحراف على من يقطع بإنحرافه لمخالفة الضروريات ألا يقع ضمن دائرة عبادة العلماء أو المرجئة وأمثالهم؟

ج9: أما المرجئة فهم فرق، والمعروف عنهم أنهم يرجئون العمل عن الاعتقاد أي يؤخرونه، ويقولون إنه لا يضر العمل أياً كان مع صحة الاعتقاد، لا فرق في ذلك بين الحكام الظالمين وبين فسقة العوام من المسلمين.

كما أن مخالفة الضروري لا توجب الكفر إلا مع تكذيب الله تعالى أو الرسول (صلى الله عليه وآله) أو الأئمة (عليهم السلام)، و أما مع احتمال الشبهة فلا.

أما العامي فلا يتمكن من تشخيص الضلال العقدي إلا في بعض الأمور البديهية كأصل التوحيد ونبوة رسول الله محمد وإمامة الأئمة الاثني عشر والمعاد الجسماني، وأما سائر العقائد حتى بعض الضروريات فلا يتمكن العامي من تشخيص الضلال فيها، بل أحياناً حتى الفقيه لا يتمكن من ذلك لاحتمال الشبهة أو لغير ذلك، فعلى العامي أن يتبع الفقيه الجامع للشرائط في تشخيص الضلال أو الضال حصراً، كما ذكرناه في الأجوبة السابقة.

.................................

 (1) الموضوعات المستنبطة على أقسام: إما مستنبطة شرعية أو عرفية أو لغوية، على ما ذكره عدد من الأعلام.
(2) سورة يونس: آية 59-60.
(3) سورة المائدة: 49. 

اضف تعليق