q

شباب في عمر الورد، يتفجرون طاقة وحيوية، مع شعور عارم بالمسؤولية إزاء ما يجري، وإيمان عميق بالقيم والمفاهيم، وفوق ذلك، لا يختلفون عن أقرانهم في جانب الاعتزاز والفخر بين أهلهم وأقاربهم، فضلاً عن خيمة الأبوة على أطفال صغار، مع كل ذلك نراهم يواصلون القتال منذ عامين ضد عناصر "داعش"، رغم انقلاب المعادلة لصالحهم، ويسترخصون أرواحهم، ليس للدفاع عن المقدسات وصد الهجمات الارهابية، إنما لتحرير مدن وقرى لا يختلف اثنان على أنها كانت بمعظمها تمثل الحواظن للجماعات الارهابية، بصرف النظر عن الجانب الانساني في القضية، ووجود الآلاف من المدنيين من نساء وأطفال، وهذا ما يدفع الكثير في اوساطنا الى التساؤل عن السبب في الاستمرار بتقديم الشهداء في ساحات القتال، وهم يضافون الى ما قدمناه من قوافل للشهداء داخل مدننا بسبب السيارات المفخخة والاحزمة الناسفة، وما نزال؟!

صفحة جديدة من التاريخ

لو طالعنا تاريخنا وتوقفنا متأملين المواقف والتوجهات والرؤى الصانعة للاحداث الجسام، لوجدنا أن ظاهرة استمرار تقديمنا الشهداء من المؤمنين الصالحين، والضحايا المدنيين من النساء والاطفال وخسائر مادية لا تُعد، تمثل امتداداً طبيعياً مع ذلك التاريخ؛ فالعراق – تحديداً- من بين الامصار الاسلامية الاخرى، كان يُزج دائماً في حروب خاسرة تحقيقاً لاهداف سياسية يربح فيها الحاكم، ويخسر هو ابنائه كما يخسر ايضاً القيم والمفاهيم التي يستهدفها ذلك الحاكم لابعاد شبحها عن كرسيه ومصالحه وامتيازاته.

والسبب في استمرار العراقيين على خط الحرب والقتال طيلة فترات التاريخ، أنهم لم يتمكنوا من الأخذ بزمام المبادرة من الحكام، رغم الدعوات من قياداته الدينية باتخاذ المواقف الرافضة للسياسات الديكتاتورية والوقوف بوجه الانحراف ومختلف اشكال الانتهاكات لحقوق الانسان، وكانت النتيجة؛ ان الخشية من مواجهة تحديات السلطة، تحول الى زجّ عنيف في أتون الحروب المرفوضة، الواحدة تلو الأخرى.

وجاءت الحرب الجديدة من نوعها في تاريخ العراق تحت عنوان "الحرب على الارهاب" أو "التحدي الارهابي"، فكان الموقف الجديد ايضاً والنوعي من الشعب العراقي، فرغم قساوة التحدي ودمويته، لن ينزلق هذه المرة في حرب خاسرة جديدة، فهو ليس فقط خيّب ظن أعدائه بأن وطأ جمرة الحرب الطائفية برجله، إنما انطلق في حرب جديدة من صنع نفسه كشف فيها زيف الجماعات الارهابية وشعاراتها امام العالم الاسلامي والعالم بأسره، وأنه يدافع في هذه الحرب عن أرضه ومقدساته، كما يعطي من خلالها دروساً في الانسانية والبطولة.

القدرة على صنع المستقبل

ان الشعوب التي صنعت حاضرها وضمنت مستقبلها، إنما أسست بداية لقيم التقدم في مجالات طلب العلم والانتاج والبناء والتصنيع وغيرها؛ فالنجاحات في الانتاج الباهر والنافذ في العالم، لم يكن ليتحقق إلا باطمئنان الشعوب الاخرى باخلاص العمال المنتجين في ذلك البلد، وهذا على سبيل المثال وحسب.

أما بالنسبة للعراق المثقل بتجارب الحروب قديماً وحديثاً، بامكانه التطلّع الى آفاق المستقبل من خلال انجازاته على ارض الواقع، عندما يأطر الحرب التي يقودها بنفسه ، بأطر ثقافية وحضارية، ويبين للعالم بأن اذا كانت الحروب الكارثية والخاسرة التي مرت عليه، امتداداً لكارثية الحكام وتجاربهم الفاشلة في الحكم، فان خطابه السلمي والانساني امتداد لتجارب حضارية سامية تتصل بعهد رسول الله، والامام علي، وسائر الأئمة المعصومين، عليهم السلام.

وهذا سيجعل العراقيين متميزين عن كثير من الشعوب الناجحة في خلق فرص التقدم والتطور بشكل ذاتي بنسبة عالية دون تدخل من عوامل خارجية، بمعنى أن هذه الفرص ستكون من نوع خاص؛ فالشعب العراقي – وهذه من خصاله- في ذات الوقت الذي ينتج ويبدع، فانه معطاء، وفي لحظة الحزم والتصدّي العنيف، يحمل في نفسه روح السلام والتعايش، فما أن تنجلي الغبرة، حتى يمد يد الأخوة والتعاون، فهو لا يضمر الحقد والضغينة على أحد، ولا يفكر بالتعالي والتعصّب عنصرياً او قومياً، كما هو حال بعض الشعوب.

وفي الختام؛ ليس من السهل المرور على التضحيات الجسام والمواقف البطولية التي يسطرها ابناء القوات المسلحة العراقية في هذه الحرب التي يراقبها العالم بغير قليل من الغرابة والدهشة، في كيفية انطلاقها وطريقة التعامل معها، لان شعوب العالم، لاسيما تلك التي تخوض حكوماتها في لعبة "الإرهاب" تجد أنها تنفق وتخسر اكثر مما تربح، بينما الشعب العراقي هو الذي ينتصر في الوقت الحاضر على جماعة عجزت عواصم كبرى من قمعها ومواجهتها، بل حصل العكس، بأن وصلت النار الى هذه العواصم الكبرى واحرقت الناس هناك.

اضف تعليق