q

جمعتنا الغربة في مكان واحد.. هو اقدم مني في مكابدة لوعتها وجراحاتها.. ربما غادر العراق ومدينته قبل ان تخشن لحيته، وأقول غادر، لكنه الاضطرار، فهو واحد من الالاف الذين هجّروا قسرا في الثمانينات، بعد ان صودر كل ما لديهم.. وانا غادرت بكامل اختياري، وما تبقى من قدرة على ممارسة الحرية.. وهو يفخر بتجربته رغم شدة بؤسها عليه، وعلى ذويه.. جمعتنا الغربة في مكان واحد..، انا اقدم منه في تواجدي، وهو جاء بعد ذلك، بعد ان ضاقت به الأرض وما رحبت.. اتذكر اول لقاء لنا، هو القادم من حرية نسبية، وانا الخارج من عنق الزجاجة في عراق صدام حسين في التسعينات.

كان قادما للدخول في تجربة ثقافية جديدة، وهي تجربة فرضتها عليه المسؤولية التي كلف بها..

كان وقتها ينتشر الحديث بين النخب الثقافية عن العولمة وعن صدام الحضارات، وهو الذي (تعولم) حتى قبل اجتياحنا من قبل ما فاض على القرية الكونية الصغيرة والكبرى، كانت تلك موضتنا الفكرية وغيرها من أفكار انشغلنا بها طيلة ما تبقى من التسعينات.. تنقلت به (عولمته) بين عدة بلدان، واستقر أخيرا في سوريا، متفائلا بانه في يوم ما سيعود الى العراق، وسوريا يومها هي اقرب الطرق للعودة اليه.

اعجب كثيرا لتفاؤله، حتى في اشد الظروف انغلاقا على المخارج، لكنه تعلّم من خبرته في الحياة، ومن معلمه ومرجع تقليده.. وكثيرا ما كانت تثيرني هذه (التفاؤلية) في واقع شديد الوطأة والبؤس، حيث لا منفذ لغد افضل.. هكذا اعتقد انا، لكنه يخالفني في اعتقادي.

هو يرأسني في العمل، لكنك لا تراه رئيسا الا بمقدار ان يدور العمل بشكل سلس وبسيط وطبيعي، يكره مثلي كل شيء يرتبط بالسلطويات والاستبداد، لهذا (لا يستطيل ظله) رغم تعدد مسؤولياته التي يكلف بها.. يحاول ان يعلم الاخرين من خلال سلوكه الاستماع الى اراء غيرهم واحترامها، حتى لو كانت مرفوضة وسلبية.

لا تستطيع ان تمسك به متلبسا بالغضب، انه يكتم غضبه ولا يظهر الا احمرارا على الوجه والجبين.. ويتشارك احمرار الغضب مع حمرة الارتباك والخجل اذا وجد نفسه مرتبكا لموقف ما او حادثة معينة.. لا يتحدث عن الاخرين بسوء في غيابهم، ولا يرفع صوته على أي موظف لديه، يمتص كل سوء وتوتر بضحكته المرحة.. وهو في ضحكه لا يدّعي المرح، او يغتصبها اغتصابا، يهتز كل جسده حين يضحك، ولا يملك الاخرون الا ان يشاركوه تلك اللحظة.. فالضحك يطهّر القلوب.

يقرب الجميع اليه، رغم الاختلافات الكبيرة بينهم، لكنه يعتبر اختلافهم مصدر قوة له وللمؤسسة التي يرأسها.. لا يتذمر من ضغط العمل، ولا يمل او يكل منه، تجده منشغلا طوال الوقت بمشاكل موظفيه ومتاعبهم ومشاغل اعماله المتعددة.. لا يستنكف ان يخدم موظفيه او ضيوفه، فهم عائلة واحدة باعتقاده.. وكل خادم للأخر، صغر او كبر هذا الاخر.

وهو احترام لا يخضع للسن او للطبقة الاجتماعية او لغير ذلك، فمن امامه انسان اولا وأخيرا..

انه جزء من شخصيته واخلاقه التي تربى عليها، وهو يقتدي بما تأثر به من معلمه ومرجعه.. لا يقدم على عمل الا بعد تفكير ومشاورة للاخرين، فهو يحب ان يستمع لا راء من يهمه الاستماع اليه.. وهو يفكر في ابعد من تحقيق النجاح لعمله او لخطوته القادمة، انه يوازن جميع النتائج، ولا يتردد من التراجع عن خطوة معينة، اذا وجد انها قد تسيء الى الاخرين.

لا يتعجل النجاح، ولا يقفز خطوات واسعة في عمله، فالقفز قد يسبب التعثر والسقوط، انه يريد ان يسير على مهله، فالوصول واحد في كل الأحوال.. تشهد لقاءاتنا الكثير من الصخب، لأننا نتبادل استفزاز بعضنا، عبر ما نطرحه من أفكار نعبر عنها بكل صراحة.. حتى تصل بنا في مرات كثيرة الى الانتقاد الشخصي بيننا، لكنه انتقاد ليس موجها الى شخصينا بل ما نمثله في العمل وما نحتله من مواقع.

ربما طول صداقتنا يسمح لنا بتلك الصراحة، فثمانية عشر عاما ليست بالقليلة في عمرينا المتقاربين، فنحن من تولّد نفس السنة.. ربما هو الان يقرأ تلك السطور، وربما تذكره باشياء كثيرة كان قد طواها النسيان، او لم يكن ملتفتا اليها.. ربما هو الان يبتسم لما يقرأه، او ربما يشعر بالحزن على تلك السنوات التي انطوت كلمح البصر، ونحن في رحلة دؤوبة للبحث عن معنى اكثر من بحثنا عن السعادة.

اضف تعليق