q
ميزة الفكر الفلسفي أنه يحاول فك مفاتيح المغلق عندك في الفكر النظري والعملي، لذلك هي فكر ممدوح في ذاته، مذموم في مجتمعنا في الأغلب الأعم في معطياته، لأنه فكر يصطدم ويصدم الراكد والسائد في المعرفة على أنه حقيقي، ليفكك مقولاته ويحلل المركب فيه، ليكشف لنا عن مقدار ما هو حقيقي فيه مما هو زائف...

تكمن أهمية الفلسفة في ما يُظهره خصومها، ويربطون بينها وبين الزندقة، ولكن أغلبهم يدعي وصلًا بها، حينما يؤكد العقائديون بأن لهم فلسفة!، فهناك من قدح الفلسفة، ولكنه في نقده لها قيل عنه إنه فيلسوف، مثل نيتشه الذي قال بتهافت الفلسفة التأملية والمثالية، والماركسية في نقدها للفلسفة التصورية ودفاعها عن المادية، التي تمثلت في الممارسة بـ «دكتاتورية البروليتاريا»، التي تحولت إلى أيديولوجيا صلدة.

ذات مرة رغب إعلامي أن يلتقي بي للحديث عن فلسفة الصلاة، ورفضت، ولكنني استغربت من دعوته لي، فأجبته قيمة الصلاة تعبدية، وهي علاقة روحية بين المخلوق والخالق ولا تحتاج لفلسفة، ولكن الإعلامي فاجأني بجوابه لي، فقال لي؟ وما تقوله هذا رأي فلسفي! وقد كان مُحقًا، لأن هناك كتابا ألفه الكوراني بعنوان «فلسفة الصلاة».

كل الدكتاتوريات بنيت على رؤية فلسفية تحولت إلى أيديولوجيا صلدة، لا مجال فيها لحرية التعبير وحرية المعتقد!، لكن أتباع هذه الأيديولوجيات الصلدة يدعون وصلًا بالفلسفة ويتغنون بها، على الرغم من أنهم يستعملونها وظيفيًا لخدمة أيديولوجيا العقيدة.

في كثير من منظومات الفقهاء تكفير للفلسفة والعاملين بها، وقد كان الغزالي في مقدمتهم في التكفير، وصولًا للشهرزوري الذي أفتى بتحريم الفلسفة المنطق، الذي قبله الغزالي وسماه «معيار العلم».

هناك مفكرون عرب معاصرون عدوا الفلسفة من العلوم الدخيلة، وهي غريبة على جسد الثقافة العربية والإسلامية، لأن نتاج الفكر الإسلامي العقلي يكمن في علم الكلام وعلوم اللغة العربية والفقه وأصوله، وكان من بينهم مصطفى عبدالرازق وعلي سامي النشار وآخرون، وهذا ما ذهب إليه بعض المستشرقين أمثال (رينان) و (مونك) في رفضهم القول بوجود فلسفة عربية، لأنها فلسفة يونانية كتبت بحروف عربية.

بل وصل الحال بالمفكر المغربي طه عبدالرحمن، أن يعد الفلسفة ذات أصول يهودية لا تصلح لتوظيفها في ثقافتنا العربية والإسلامية، الذي أبدع في علم الكلام والتصوف.

بمراجعة بسيطة لتاريخ الفكر العربي والإسلامي، نجد أن أفول الحضارة العربية والإسلامية يحكمه مفصل معرفي أساس، ألا وهو حرق كتب ابن رشد ونكبته، الأمر الذي جعل هذا الحدث يُمثل بداية اليقظة في الوعي الأوربي، بعد أن تمكن بعض من يعرفون فلسفة ابن رشد من نقلها للغرب، لتبدأ نهضة فلسفية لاتينية اقترنت بفلسفة ابن رشد بشقيها الإيماني الديني، والمادي العلمي، بعد أن تأسست مدرستان رشديتان لاتينيتان مثلتا بداية الوعي بالفلسفة الإسلامية ببعده العقلاني وروحها الأرسطية، التي كانت لغة العلم آنذاك. وقد شكلت في الوقت ذاته لحظة أفول العقل العربي، وغياب فاعليته الحضارية والثقافية والعلمية في الداخل العربي والإسلامي.

مشكلة العرب والمسلمين أنه منذ دخول التتر إلى بغداد وغياب فعلها الحضاري وإلى يومنا هذا ما زالوا لا يعرفون النافع المفيد لهم.

ذكر هنتر ميد في كتابه «الفلسفة أنواعها ومشكلاتها» أن البشر بطبيعتهم يتفلسفون، وكل إنسان بسيط لو سألته عن متبنياته في الحياة، لتمكنت من الحكم عليه بأنه قد يكون ماديًا أو روحيًا، أو مثاليًا أو واقعيًا، فهناك ما أسماه «الفلسفة الشعبية»، وهنا يكون الاستغراب إذا كان الإنسان بطبيعة وجوده يتفلسف، فلماذا يخشى العامة الفلسفة المفاهيمية؟، وهي في مضمونها ليس سوى توضيح لتوجهات هؤلاء الناس بلغة إصطلاحية تخدمهم في «منهجة» تفكيرهم الساذج؟!

لا جواب سوى أن الناس البسطاء أعداء ما جهلوا، ولأن الفلسفة والفلاسفة يسعون لتبويب أفكارهم وفق بينة استدلالية عقلية، ولأن عامة الناس يعانون من شدة التماسك المنطقي في أفكار الفلاسفة، التي في الغالب الأعم لا تأتي منسجمة مع الوعي الجمعي أو «الحس المشترك»، العلم الذي يُدغدغ به رجالات العقائد والأيديولوجيات عواطفهم واللعب على أوتار مشاعرهم الجياشة وتحفيزها لصالح مشاريعهم الحزبية والمذهبية، نجدهم يميلون لهؤلاء ويبتعدون عن الخطاب الفلسفي، الذي ينشغل أصحابه بنقد وكشف وتعرية فساد العقل العقائدي والعقل الأيديولوجي، الذي من مستلزمات استمراره خداع العامة وتعميتهم.

بينما يسعى العقل الفلسفي إلى الأخذ بهؤلاء إلى جادة المعرفة، بالكشف عن زيف هذه الخطابات وتعريتها، والعمل على مساعدة الناس البسطاء للتخلص من جعل عقولهم رهينة بيد آخر يُفكر بالنيابة عنهم ويجعلهم مجرد أدوات أو وسائل لتحقيق مراميه الذاتية أو العقائدية أو الحزبية.

ميزة الفكر الفلسفي أنه يحاول فك مفاتيح المغلق عندك في الفكر النظري والعملي، لذلك هي فكر ممدوح في ذاته، مذموم في مجتمعنا في الأغلب الأعم في معطياته، لأنه فكر يصطدم ويصدم الراكد والسائد في المعرفة على أنه حقيقي، ليفكك مقولاته ويحلل المركب فيه، ليكشف لنا عن مقدار ما هو حقيقي فيه مما هو زائف.

الفلسفة بحسب (كارل بوبر) فكر مفتوح نحو التعددية، وضد الحتميات التاريخية، يساعدنا على تعلم ممارسة التفنيد على ما نعتقده أنها فرضيات غير قابلة للتكذيب.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق