q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

كيف يؤدي الطلب الكثيف الى اندلاع الصراعات؟

مفهوم الزهد والاستهلاك في نهج الإمام علي (ع) (4)

الحريص يبقى مجرد أداة للنزاع والصراع، وهدفه أن يغلب الآخرين، إذ ما يوجد في داخله يتحول الى شر، فيريد أن يغلب الناس بأي ثمن كان، حتى لو أقدم على تأسيس مافيا، حيث أصبحت اللصوصية أنظمة حكم في عالم اليوم، المغالبة لا تحقق الربح للإنسان، وإنما الاحترام والتوازن والاعتدال...

كما طرحنا سابقا فإن مفهوم الاستهلاك في عالم اليوم أصبح مفرطا وواسعا ومنتشرا كثقافة بين مختلف الناس، فأدى ذلك إلى أزمات كثيرة ومعقدة، وقد تطرقنا إلى ازدياد الطلب الذي اصبح أكثر من العرض، وهذا الطلب المتزايد هو نتيجة لزيادة الثقافة الاستهلاكية، وتوسع الانماط الاستهلاكية في حياة الناس، وهذا الأمر هو نتيجة لتغوّل الحياة المادية وترسخ الأسلوب المادي في الحياة، والبحث عن اللذات والمتع المادية دون التفكير بالعواقب الناتجة عن هذه الثقافة الإفراطية، بحيث أصبح العالم يعيش مجموعة من المشكلات والأزمات، وقد طرحنا بعض النتائج التي تسببت بها هذه الثقافة الاستهلاكية.

ونصل اليوم إلى نقطة مهمة جدا في هذا البحث وهي، إن ازدياد الطلب الاستهلاكي بشكل كبير من قبل المنتِج والمستهلِك يؤدي إلى ازدياد التنافس السلبي وإلى تصاعد الصراعات وانتشار الحروب، فالكثير من الحروب التي تندلع يكون سببها اقتصاديا، بسبب الصراع على الموارد والأسواق، وبيع المنتجات بأي ثمن كان.

الحرص على امتلاك الأشياء

الحروب التجارية التي تتصاعد فيما بين القوى العظمى، والقوى الإقليمية ومختلف الشركات والتجار من أجل الاستجابة لهذا الطلب المفرط على الأشياء وخصوصا في عصر التكنولوجيا الذي ازدادت فيه الأشياء بشكل كبير، حيث أصبحت الأشياء والحرص على امتلاكها هما كبيرا بالنسبة لكثير من الناس، فزاد الإقبال على الطلب، وغاب الاعتدال في المعيشة. لذلك نلاحظ أنه مع البحث عن المزيد من الأرباح للأنظمة العالمية تزداد النزاعات والصراعات والحروب.

وقد أشار الإمام علي (عليه السلام) إلى ذلك في رواية يقول فيها: (فَخَفِّضْ فِي الطَّلَبِ وَأَجْمِلْ فِي الْمُكْتَسَبِ فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَبٍ قَدْ جَرَّ إِلَى حَرَبٍ)، فخفِّض من طلبك وقلّله، ولتكن أرباحك قليلة ومعتدلة، وليست مفرطة وكثيرة، فإن بعض الطلبات التي يكون فيها اشتداد وفيها تضخم قد تؤدي إلى صراعات وحروب ونزاعات.

الطلب المريض والتوقعات العالية

إن الطلب المريض وغير العقلاني النابع من الحرص على امتلاك الأشياء، أدى إلى الكثير من المشكلات ومنها مشكلات عائلية التي يعود سببها الرئيس إلى تصاعد التوقعات المادية، وليس هناك انخفاض في التوقعات المادية، فالمتزوجون يرغبون بكل شيء ماديّ، ويسعون إلى امتلاكه، من البيت إلى السيارة إلى الأثاث الفاخر، والأكل اللذيذ، والكماليات الفاخرة، كل هذه الأشياء يزداد عليها الطلب.

فالزوجة تضغط على زوجها من أجل أن يحصل على سيارة فارهة، أو على أثاث فاخر، أو الذهاب في سفرات غير مهمة للمتعة والتفرج وصرف المبالغ الخيالية على ذلك، علما أن هذه التوقعات المادية تنتهي، وبعد حين يقع الرجل أو المرأة في ديون كبيرة ثم يؤدي ذلك إلى التنازع الكبير بين الأزواج مما يؤدي إلى انفصالهما، لأن الحياة المادية أصبحت هي التي تربط بين الزوجين، وهي التي تربط بين أفراد الأسرة، وهذا كله يؤدي إلى مشكلات ومشاحنات عائلية في داخل الأسرة، وفيما بين الأسر أيضا.

وكل واحد من هؤلاء ينظر إلى ماذا يمتلك الآخر، وتكون عينه مسلَّطة على ما يمتلكه الآخرون، فيحاول أن يقلد ذلك الإنسان الآخر ليكون في نفس مستواه المادي، وهذا هو سبب الكثير من المشكلات التي تواجهها العائلات بسبب ارتفاع التوقعات العالية.

تخفيض الطلب والحياة السعيدة

لذلك يشير (عليه السلام) الى (فخفِّض بالطلب)، لأن هذا التخفيض مهم جدا في عملية بناء الحياة السعيدة، فالحياة الزوجية يجب أن لا تقوم على الماديات، لأن الماديات هي مجرد أشياء تكميلية لأن الأساس هي الروح المعنوية، وهي الأخلاق الجميلة والتقارب النفسي والروحي والعقلاني والانسجام الثقافي فيما بين الزوجين والسير في مسيرة واحدة نحو الأمام في حياة مستقيمة متقدمة قائمة على المحبة والتراحم والتوصل والتوادد.

حينئذ يحصل الإنسان على السعادة التي يطلبها في حياته، هذا هو معنى السعادة، وليس امتلاك سيارة فارهة، أو امتلاك بيت أو قصر كبير، أو امتلاك أثاث فخم، أو تناول الطعام الغالي الثمن، فهذه الأمور مجرد كماليات ليست مهمة، فهي مجرد أهواء وشهوات تنال من الحياة الزوجية، وتؤدي إلى تحطّمها عندما ترتفع التوقعات المادية.

يمكن أن نلاحظ هذا الشيء عند الخروج من مستوى معين إلى مستوى أعلى، الخروج إلى العشيرة وإلى المجتمع، وإلى المدينة، وإلى الدول، فكلما تزداد التوقعات المادية تزداد الصراعات والنزاعات، ولو أننا لاحظنا المشكلة الكبرى في عالم اليوم والحروب الكبيرة التي تنشأ بين الدول، وكيف تقوم دولة باستعمار دولة أخرى والاستحواذ على الموارد واحتكارها، واستعباد الناس وإفقارهم من أجل الربح الكبير والسيطرة على الأسواق.

الاستعمار وإفقار الشعوب

ولهذا يؤكد (عليه السلام) على (وأجمِل في المكتسَب)، حيث نلاحظ في بعض الأحيان أن بعض التجار لا يفكر بمن حوله، بل يفكر في نفسه فقط، ويفكر كيف يزيد من رصيده، وأمواله، فلا يعرف الحلال، لأن من يرتكب الحرام لا يوجد عنده رحمة بالآخرين، ويبيع بأسعار عالية ويحتكر السلع، أو يتعامل بالأموال الربوية ويحقق الغنى الفاحش، فيحطم الناس ويدمر عوائل كبيرة بسبب تفكيره الضيق بالربح فحسب.

لكن الربح لابد أن يكون منطقيا وقائما على التوازن فيما بين السوق وبين الناس، واحترام الناس والرحمة بهم، لكي تستمر الحياة باستقامة وجمال وتفاهم وتعايش، لذلك نلاحظ في الدول الاستعمارية والدول الكبرى والتي هي في الواقع دول مريضة، بسبب النفس الاستعماري الموجود لديها للسيطرة على الدول الأخرى، وهذا الأمر يؤدي إلى إفقار الناس واستعبادهم ونهب مواردهم الطبيعية. وبالتالي جعلها بلدان مقفرة ليس فيها أي مظهر من مظاهر السلام، ولا الاستقرار.

على سبيل المثال نلاحظ اليوم هؤلاء بصرف المليارات من الدولارات من أجل النزعة الاستعمارية والحروب التي أصبحت هدفا لبعض البلدان، من أجل تحريك المعامل الاقتصادية وتحريك مصانع الأسلحة واللوبيات التي تقف خلف هذه المصانع.

الولايات المتحدة الأمريكية أنفقت لوحدها 6 ترليون دولار على الحرب في أفغانستان والعراق ودول العالم الأخرى، والصراعات التي حدثت ما بعد 11 سبتمر 2001، بمعنى ستة آلاف مليار دولار، كل هذا من أجل تحريك الماكنة الحربية وتوسيع وترسيخ سيطرتها في العالم كقوة كبرى، من خلال ترسيخ المفهوم الرأسمالي لهذه الدولة. نلاحظ هذا النهم وهذه الشراهة التي تهدف إلى الربح وتؤدي بالنتيجة إلى الإنفاق على الحروب والصراعات، حيث تتسبب بالآلاف من القتلى والنازحين والمشردين، والملايين من الفقراء في دول العالم.

صناعة البلدان الاستهلاكية

هذه النزعة الشرِهة للربح، هي بالنتيجة تؤدي إلى مجموعة من القضايا التي تهدف من خلالها الدول إلى فتح أسواق خارجية خاصة بها لبيع منتجاتها، فهي لا تبيع سلعها من خلال عملية تجارية طبيعية، وإنما تبيعها من خلال الاستعمار والسيطرة على تلك البلدان وجعلها بلدان استهلاكية، هذا هو معنى الاستعمار، وهو مفهوم نشأ منذ 300 سنة بعد ظهور الثورة الصناعية، فكان يهدف الاستعمار إلى شيئين:

الشيء الأول: الحصول على الموارد الأولية من تلك البلدان المستعمَرة، التي تمتلك موارد مثل المعادن والنفط والغاز، وحتى الموارد البشرية أيضا، أي استخدام البشر كقوة عاملة لتحريك المعامل الصناعية، وكذلك من أهداف الاستعمار فتح الدول المستعمَرة لتكون سوقا لمنتوجاتها، فتأخذ موارد هذه البلدان، وتبيع لها منتجاتها بأسعار خيالية، بمعنى تأخذ الموارد مجانا كونها دول استعمارية مهيمنة، وتبيعها بأسعار باهظة لنفس الناس الذين تنهب مواردهم.

ربح فاحش بلا سقف

لاحظ هذه المعادلة غير العادلة، وهذا يسمى بالربح الفاحش والشراهة الفاحشة والحرص والطمع من أجل ارتفاع المكاسب والأرباح، وهذه النتائج تقف وراءها مجموعة من اللوبيات القوية المتنفذة التي تسيطر على مختلف الاقتصادات، وبالتالي تصبح المصانع الكبيرة بأيدي أغنياء محدودين، هم المسيطرون على شركات الصناعة وعلى والمصارف والبنوك الدولية، وتجارة السلاح أيضا والمنتوجات الأخرى كافة.

هذه اللوبيات تدفع تلك الدول من أجل المزيد من الاستعمار، والمزيد من الحروب التجارية، والمزيد من الحروب المباشرة من أجل تأمين أرباحها وتوسيعها بشكل كبير، دون الوقوف عند سقف معين، فالربح من دون تحديد سقف معين، يؤدي بالنتيجة إلى مزيد من الصراعات والنزاعات، ولكن السؤال المهم جدا الذي نسأله في عالم اليوم، نوجهه إلى هؤلاء الذين يتلاعبون بالأموال والموارد الطبيعية، ويتلاعبون بالدول، هل تتحقق الآمال بالحرص والشراهة في الطلب والربح؟ وعندما يربح الإنسان كثيرا وتزداد أمواله وتزداد موارده فعلا، هل حقا يمكن أن تتحقق الآمال من خلال القوة والحرب؟

في الإجابة عن هذا السؤال، يقول الإمام علي (عليه السلام): (الأرزاق لا تُنال بالحرص والمغالبة)، المغالبة أي الحصول على الأرباح بأي ثمن، وباي وسيلة، بالقوة والاكراه والإغراء والتضليل. الرزق لا يُستحصَل بالمغالبة، فالرزق مضمون للإنسان لأن كل شخص له رزقه، لذلك فإن الرزق يأتي من خلال العمل الشريف والمنافسة السليمة، وبالأخلاق التجارية الطيبة، باحترام الإنسان وحفظ كرامته والاجمال في الطلب والاجمال في المكتسَب.

المعنى هو المهم وليس المادة

هكذا يأتي الرزق، ولا يأتي من خلال الحرص الشديد، فكم من حريص ينجح في تحقيق مآربه؟، الحريص لا ينجح، حتى لو جمع المليارات، فإنه يبقى يعيش في ذلك البؤس، ولا تُشبعه تلك المليارات، وكم من إنسان ليس عنده حرص وطمع نجح في حياته وكان سعيدا في حياته، هذا هو المطلوب فالمعنى هو المهم وليس المادة، وليس المال، المعنى هو الراحة والسعادة والاطمئنان واليقين النفسي عند الإنسان.

الإنسان الحريص يبقى مجرد أداة للنزاع والصراع، وهدفه أن يغلب الآخرين لأنه حريص، إذ ما يوجد في داخله يتحول الى شر، وهناك شراهة وطمع في داخله، فيريد أن يغلب الناس بأي ثمن كان، حتى لو أقدم على تأسيس مافيا، أو لصوصية، ونلاحظ اللصوص الموجودين في عالم اليوم في مختلف الدول، حيث أصبحت اللصوصية أنظمة حكم في عالم اليوم، بسبب الحرص والطمع، ومن خلال هذه اللصوصية قاموا بتدمير البلدان والناس ولكنهم لن يحصلوا على شيء الا التدمير الذاتي والغيري.

المغالبة لا تحقق الربح للإنسان، وإنما الاحترام والتوازن والاعتدال هو الذي يجعل الإنسان رابحا في حياته، فالحصول على الأرباح بطريقة المغالبة وإجبار الآخرين وإكراههم بسياسات الابتزاز، هذا الأمر لا يثمر تلك الإنسانية الجميلة، ولا ذلك السمو المعنوي عند الإنسان، وذلك الضمير المرتاح وتلك النفس الطيبة المطمئنة.

إحصائيات صادمة عن التفاوت الطبقي

وأقدم هنا بعض الاحصاءات لكي نلاحظ ذلك التفاوت الفاحش فيما بين البشر، عندما يتغلب الحرص على نفوس الناس، ويصبح الحصول على المادة والأموال بأي ثمن كان حتى لو أدى ذلك إلى سحق الناس، وتدمير الشعوب من خلال الحروب، وأذكر هنا إحصائية واردة من منظمة دولية رسمية اسمها أوكسفام، هذه المنظمة معنية بقراءة الأغنياء والفقراء في العالم، تقول هذه الإحصائية الجديدة التي ذكرتها المنظمة في مطلع 2023:

(إن أغنى واحد 1% من البشر قد استحوذوا على ما يقرب من ثلثي جميع الثروات الجديدة التي تبلغ قيمتها 42 تريليون دولار والتي جُمعِت منذ عام 2020. وهي تبلغ ضعف الأموال التي كسبها سبعة 7 مليارات شخص، يشكلون 99% من سكان العالم، يعني 60% من كل ثروات العالم يملكها 1% من البشرية، وهذه النسبة ربما تساوي سبعة ملايين شخص من البشرية كلها، أما السبب في ذلك فهو ارتفاع الأسهم في أسعار البورصة أدت إلى ازدياد الثروات خلال العشر سنوات الماضية. فمن أصل كل مئة دولار جديدة تم تحقيقها ذهب 54% أو ما يقارب 55% إلى جيوب أكبر الأغنياء الذين يمثلون 1% من البشر. بينما ذهب 70 سنت فقط، أي أقل من دولار إلى الفئات الأفقر التي تشكل 50% من البشرية، فالأغنياء حصلوا على 55% والباقي حصل عليه الناس الموجودين في الوسط.

لاحظ لماذا أكد الإمام علي (عليه السلام) على الإجمال في الطلب والمكتسب، ولاحظ مقدار الأرباح الفاحشة التي يحققها هؤلاء بما يفوق التصوّر، أرباح هائلة خيالية، يمكنك أن تتأمل هذه الأرقام، فأي ثراء فاحش هذا وماذا يعني وإلى ماذا يؤدي، ولك أن تتصور كيف يعيش الناس بهذه الطريقة، هذا التفاوت الفاحش بين الطبقات يؤدي إلى تدمير النسيج الاجتماعي والإنساني.

فيصبح الإنسان لا قيمة له، والقيمة في هذه الحياة لهؤلاء الذين نسبتهم 1% من البشر، أي سبعة ملايين هؤلاء هم الذين يعيشون متنعمين، أما الباقين ليسوا ببشر، لأن هذا التباين الطبقي الفاحش يؤدي إلى تدمير الإنسان، ويخلخل المجتمعات ويجعل منها مجتمعات قلقة مضطربة لا تشعر بالراحة والاطمئنان، وتجعلها شعوبا تعيش الانقسام الكبير والصراع الكبير مع فقدان تكافؤ الفرص وعدم قدرة الإنسان على العيش بكرامة، وفقدان كرامة الإنسان وحقه الطبيعي في الحياة، فالحق الطبيعي في الحياة أصبح لهؤلاء الـ 7 ملايين من البشرية الذين يشكلون 1% من الـ 7 مليارات إنسان أو ربما أكثر من ذلك.

انفجار الفقاعات الاقتصادية

هذه النتيجة، أي عندما يكون الربح هو المسيطر، يصبح هؤلاء الذين يمتلكون الأموال يتلاعبون بالاقتصاد العالمي، ويتلاعبون بالأرباح وهذا يؤدي إلى تصاعد الفقاعات الاقتصادية، الفقاعة الاقتصادية تعني وجود المراهنات والمضاربات الكبيرة التي يقوم بها هؤلاء الأغنياء ويربحون ويستمرون بتراكم الأرباح إلى أن تنفجر هذه الفقاعة لأنها ليست حقيقية، لكنهم لا يتضرّرون، فحتى لو خسر فإنه يبقى غنيا ويمتلك المليارات.

لكن بالنتيجة فإن من يتضرّر هم الفقراء، حيث تتسبب هذه الفقاعات بالانهيارات المالية وافلاس الشركات واندلاع الازمات المالية الكبرى، بما يؤدي الى التضخم والركود وتدخل البنوك المركزية ورفع أسعار الفائدة وانتشار البطالة، وهذا يؤدي إلى انسحاق المزيد من الفقراء واندلاع الحروب نتيجة للطمع والحرص المتزايد، وهذه الحروب يخسر فيها الجميع بما فيهم الأغنياء.

التلاعب الشرّاني بالناس

كيف يستطيع الملياردير التنعم بالاستقرار في ظل الحروب، فهو نفسه يشعر بالقلق، فهو يصنع الحرب ويصنع المشكلات لأنه يفكر بنفسه وربحه فقط ويتعامل بطريقة أنانية، طماعة، شرهة، لكنه عندما تندلع الحرب فإنه يربح ماديا لكن بالنتيجة يخسر الجميع في الحروب حتى الأغنياء، فلا رابح عندما تشتد الأزمات في العالم، إلا بعض الأشخاص من ذوي النفوس المريضة، وأصحاب الأفكار والفلسفات المريضة، فهؤلاء يعيشون صناعة الحروب والتلاعب الشرّاني بالناس من أجل تحقيق الأفكار الشريرة.

من يحقق السلام هو الرابح

وعندما نقول إن الحرب يخسر فيها الجميع، فإن الإمام علي (عليه السلام) يشير إلى هذا المعنى حيث يقول: (مَا ظَفِرَ مَنْ ظَفِرَ الْإِثْمُ بِهِ، وَالْغَالِبُ بِالشَّرِّ مَغْلُوبٌ)، فهل يربح من يسيطر عليه الإثم والذنب والمعصية والشر؟، لا يربح، لأنه ليس بإنسان، فمن يتصف بالشر يسلب المليارات من أصحابها الشرعيين، من أجل تحقيق أرباحه وغاياته، فهو لا يربح بل يخسر، فمن يؤجّج الحروب هو خاسر، والذي يحقق السلام هو الرابح، الذي يحقق التكافؤ في الفرص هو الرابح، والذي يحقق الأمان للناس ويحترمهم، ويدافع عن الفقراء ويحميهم ويحمي حقوق الإنسان، هذا هو الذي يربح.

فمن يسير في طريق الله وفي طريق الحلال هو الإنسان الرابح، أما الذي يربح من خلال الطمع والذنوب والمعاصي فهذا هو الخاسر في كل الأرباح حتى لو ربح مليارات المليارات، لأنه هذه حتمية الواقع لله سبحانه وتعالى، ويشير الإمام علي (عليه السلام) إلى ذلك في قوله: (وَلَنْ يَسْبِقَكَ إِلَى رِزْقِكَ طَالِبٌ وَلَنْ يَغْلِبَكَ عَلَيْهِ غَالِبٌ وَلَنْ يُبْطِئَ عَنْكَ مَا قَدْ قُدِّرَ لَكَ)، فالرزق مضمون لك فلا تكن قلقا فتذهب إلى الحرام، ولا تكن شرها وطماعا حتى لا تذهب في طريق السرقة واللصوصية من الآخرين، ولا الرشوة ولا الفساد.

الرزق مضمون فلا تخف، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعطي الأرزاق وهو الذي يقدرها، وهو الذي يعطيك الحياة الطيبة اللذيذة، فلا تكن شرها ولا طماعا، وكن سائرا في طريق الحلال، وفي طريق احترام الأموال المشروعة، وفي طريق النزاهة حتى تستطيع أن تعيش حياة طيبة لذيذة وجميلة.

الطلب الكثيف من نتائج الطمع

هنا نصل إلى قضية مهمة جدا وهي قضية الشرَه الذي نسميه في عنوان بحثنا هذه هو الطلب الكثيف، الطلب المشتدّ، يعني هناك طمع يولّد الحرص على الدنيا، على المال، على السلطة، على الأشياء، ولكن هذا الحرص سوف يكبر باستمرار، إذا الإنسان لا يوقف الطمع، ويقع في غائلة الحرص ومستنقع الحرص، فإنه يغرق تدريجيا إلى يصبح شرها نهما وليس له حدود في حياته، يتضخّم طلبه ويشتد، هذه التربية دخلت إلى الإنسان من نفسه، ربى نفسه على الطلب الشديد، والربح الشديد، وعلى الفوز بالأشياء بأي ثمن كان.

إن الشره على سبيل المثال يمكن أن نجده عند الإنسان أثناء الأكل، فبعض الناس المعتدلين في حياتهم يأكلون الطعام بتوازن، أي بحسب حاجة جسمه، وبعض الناس يأكلون بإسراف ويتناولون الطعام أكثر من حاجة الجسم، فيؤذي نفسه ويمرض، وهناك بعض الناس يأكلون الطعام بشراهة ونهم، وهذا ليس له علاقة بالشبع، إنه لا يشبع بسبب الشراهة والنهم، فيأكل كل شيء ويتناول عدة وجبات، فلديه شراهة للأكل وهذا يعني اشتداد الطلب.

الشَرَه هو اشتداد الطلب

هذا الطلب الكثيف على امتلاك الأشياء، لا تكفيه سيارة واحدة بل يجب أن يكون عنده سيارتين، أو ثلاث أو أربع سيارات، ويريد سيارات حديثة أو موديل حديث، ويجب أن يكون عنده بيتين أو ثلاثة وأربعة وخمسة وعشرة، فيذهب وراء الحرام، هذا يسمى الشرَه وهو اشتداد الطلب، الشره يعني اشتدَّ طلبه للشيء وازداد حرصه عليه، أي أنه نهم دون حدود، وبالنتيجة الشره هو الذي يسبب المشكلات والحروب والنزاعات.

لأن الإنسان المصاب بالشره يفقد حدوده الإنسانية، ويتجاوز اعتداله، ويدخل في عالم الطغيان الشديد والدخول في عالم الشر، فيغلّفه الشر من جميع جوانبه.

لذلك يقول الإمام علي (عليه السلام): (الشره مركب الحرص والهوى مركب الفتنة)، فعندما يكون الإنسان حريصا فإنه يكون قد ركب الشر، وأصبح شرِها ونهما في الحصول على الأشياء وامتلاكها، (والهوى مركب الفتنة)، أي أن الأهواء تؤدي إلى الوقوع في الفتنة والنزاعات والمشكلات وانزلاق الإنسان في الفساد والإفساد والشر والحرص والطمع.

أسباب الغضب المكبوت

كيف يؤدي اشتداد الطلب إلى الصراعات والحروب، (الشره يُكثر الغضب)، الغضب يعني وجود همّ وغم وغضب فيما بين الناس لعدم وجود تكافؤ في الفرص، وبسبب الاستهتار لبعض الناس الذين يستولون على الأراضي، وعلى أموال الدولة كل أرض يراها خالية يقوم بالاستيلاء عليها، من خلال قوته وأسلحته، وهذا بالنتيجة يؤدي إلى حنق الناس، وغضب الناس، ويؤدي إلى غنى القلة القليلة من الناس، وينتشر الفقر الكثير بين الناس فيؤدي ذلك إلى الغضب وعدم التفاهم وعدم التعايش، فيؤدي هذا الغضب إلى النزاع والصراع والحروب.

ونلاحظ اليوم هناك حروب تنشأ حتى على المياه، فقد يحدث صراع ما بين عشيرتين على مجرى المياه، فليس هناك تقاسم عادل ومنصف بين الناس لسقي المزروعات، وهناك الكثير من القضايا التي تؤدي إلى الصراعات بسبب التنازع على السلطة، أو على الأراضي، أو على الأملاك، والتنازع على الإرث بين الورثة.

الطلب الكثيف بين الخير والشر

كل هذا يُكثر من الغضب ومن الحقد والكراهية، وهذا يؤدي بالنتيجة إلى الشر، حيث يقول الإمام علي (عليه السلام): (يُستدَل على شر الرجل بكثرة شرهه وشدة طمعه)، فالشراهة شر في الإنسان، في داخله ونفسه حيث يتغلب عليه هذا الشر ويسيطر عليه ويؤدي إلى إنتاج هذا الشر، فـ(الشره أس كل شر، العفة رأس كل خير).

لذا نلاحظ أن الرذائل والمساوئ تنبعث من هذا الطلب الكثيف، نحن نؤكد بأن هدفنا من هذا البحث هو تقديم رؤية الإمام علي (عليه السلام) في الزهد والإجمال في الطلب وفي المكتسب، وبالنتيجة فإن العفة والكفاف ومواجهة الحرص والطمع تؤدي إلى بناء مجتمعات مستقرة مطمئنة متسالمة، متعايشة.

لكن على العكس من ذلك يؤدي الحرص على الدنيا والاستهلاك المفرط والاشتداد على الطلب والاشتداد في الربح، يؤدي إلى مجتمعات متنازعة، فهل نريد الحرب أم نريد السلام، نريد الكراهية أم نريد التعايش، فلابد أن نفكر في هذا الأمر، ونجيب عن هذه الأسئلة لكل واحد منّا، لأن كل واحد منا قد يسلك طريق الخير أو يسلك طريق الشر.

وسوف نكمل بحثنا هذا ونتطرق لمفهوم العفاف، وكيف يؤدي إلى بناء الزهد والبساطة والاعتدال الاقتصادي والاجتماعي، وبناء نمط الحياة الجيد المستقر والمطمئن في حياة الناس عبر مقالنا القادم.

وللبحث تتمة...

اضف تعليق


التعليقات

huda hameed alabbody
Iraq
بوركتم... مقالة نافعة وقيمه2023-05-01