q
حل العراق في قمة الدول التي يعاني شعبها من ظاهرة سلوكية اقتصادية تسمى التحيز للحاضر present bias. وبحسب الاستطلاع فقد تم سؤال عينات ممثلة من تلك الدول هل يفضلون الحصول اليوم وفوراً على مكافأة تساوي دخل أضافي يعادل دخلهم الشهري أم يحصلون بعد سنة على مكافأة تعادل ضعف دخلهم الشهري...

نشرت مؤسسة غالوب الدولية اليوم نتائج آخر استطلاعاتها بخصوص سلوك شعوب العالم المختلفة. من بين 56 دولة جرى استطلاع آراؤها حل العراق في قمة الدول التي يعاني شعبها من ظاهرة سلوكية اقتصادية تسمى التحيز للحاضر present bias. وبحسب الاستطلاع فقد تم سؤال عينات ممثلة من تلك الدول هل يفضلون الحصول اليوم وفوراً على مكافأة تساوي دخل أضافي يعادل دخلهم الشهري أم يحصلون بعد سنة على مكافأة تعادل ضعف دخلهم الشهري! أجاب 46 بالمئة من شعوب العالم التي تم استطلاع رأيها أنهم يفضلون مكافأة اليوم “القليلة” على مكافأة الغد “الكبيرة”.

لكن النسبة قفزت بين العراقيين لتصل الى 75 بالمئة يفضلون مكافأة اليوم على الغد! بذلك حل العراقيون في المرتبة الثانية عالمياً، بعد نيجيريا، من حيث التأثر بنزعة الانحياز للحاضر، في حين لم تتجاوز نسبة من يفضلون الحاضر على المستقبل 16 بالمئة في السويد و24 بالمئة في هولندا و31 بالمئة في اليابان! وبشكل عام كانت شعوب أوربا الغربية هي الأكثر تفضيلاً للمستقبل في حين جاءت شعوب الشرق الأوسط في القمة من حيث تفضيل الحاضر على المستقبل.

اشباع الفوائد

يقصد بالتحيز للحاضر النزوع لتفضيل اشباع الفوائد للحاضرة الأقل على المكافآت المستقبلية الأكبر. يمتلىء الأدب الشعبي العراقي بأمثلة تجسد هذه النزعة السلوكية الشائعة مثل: عصفور باليد خير من عشرة على الشجرة، وأحييني اليوم وموتني باجر، وأصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب، وخلي نصلي عالحاضر، وغيرها من الأمثال التي تحث الناس على تفضيل الحاضر على المستقبل. وعلى الرغم من بعض الفوائد للحاضرة التي يمكن جنيها من هذا السلوك لكنه خطير على مستقبل الفرد والأسرة والمجتمع لأنه يجعل من الناس صائدي جوائز بدلا من أن يكونوا بناةً للمستقبل. أنه يحولنا الى نهّازي فرص بدل من أن نكون صانعي فرص.

لقد أثبتت الأبحاث العلمية ارتباط كثير من الظواهر السلوكية السلبية، بخاصة اقتصادياً، بنزعة الانحياز للحاضر.

فالشعوب المصابة بهذه النزعة-كالعراق- أكثر ميلاً للاستهلاك وأقل ميلاً للادخار. كما أن هذه الشعوب أكثر تسويفاً للأحداث والأفكار والمشاريع. فالآنيون لا يتسمون فقط بأستعجال الحاضر بل بالمماطلة والتسويف بالمستقبل.

فلطالما عانينا كأساتذة وطلاب من أولئك الذين يفعلون كل شيء كي يؤجلوا الامتحان على الرغم من أن المادة الدراسية ستتراكم عليهم وتجعل الامتحان أكثر صعوبة. هل لاحظتم مثلا نسبة من يفضلون اللجوء للحلول السريعة في مجالات التعليم والصحة حتى وأن كانت غير مجدية أو قليلة التأثير مقابل الحلول الطويلة الفعالة؟ كم منا، وبخاصة الشباب، يفضلون اللجوء الى حلول سريعة لتخفيف الوزن أو بناء عضلات حتى وأن كانت مضرة على المدى الطويل مقابل أتباع نمط حياة صحية مستمر يمكن أن يعطيهم نتائج أفضل وأكثر صحيةً لكن بوقت أطول؟! كم منا يفضل اللجوء للاقتراض بفوائد عالية لشراء سيارة مثلا أو أي سلعة أخرى مقابل الانتظار لفترة ما لتجميع المبلغ اللازم للشراء وبدون الاضطرار للاستدانة؟

كم منا يشعر بضغط نفسي يدفعه لشراء أشياء قد لا يحتاجها كثيراً لكي لا يفوت (العرض) أو فرصة تخفيض سعر تلك السلعة الذي سينتهي قريباً؟! كم منا يفرح بأخذ عطلة أو اجازة على الرغم من أدراكه أن العمل سيتراكم وأنه سيتأثر اقتصادياً؟!

لذلك ليس مستغرباً أن العراق هو أكثر دولة في العالم لديها عطل رسمية وغير رسمية! من جانب آخر هل لاحظتم ميل حكوماتنا المستمر للحلول الترقيعية مقابل الحلول الاصلاحية؟ ولعل المثال الأبرز هو اللجوء لتوظيف مزيد من الموظفين مثلاً لحل مشاكل الناس الاقتصادية على الرغم من أدراك الجميع لمدى خطورة ذلك على الاقتصاد مستقبلاً وأنه سيجعل الأمور أكثر سوءً؟!

ان هذه الأمثلة هي غيض من فيض من الممارسات السلوكية التي أدمنت عليها كثير من شعوب العالم، لكنها تزداد كثيراً في العراق نتيجة هذا الأفراط في النزعة للحاضرة السلوكية. هذا الادمان على الحاضر المنظور مقابل المستقبل المأمول هو ما يجعل المعلنين مثلاً يستثمرون أكثر لدفع الناس نحو الاستهلاك بدلا من الادخار.

كما انه يدفع السياسيين للاستثمار أكثر في القرارات الشعبوية للحاضرة مقابل القرارات العقلانية طويلة المدى. لكن ما الذي يجعل الناس وبخاصة العراقيين أكثر تأثراً بهذا العارض السلوكي؟ ما الذي يجعلنا آنيين وتسويفيين؟ هل ذلك ينبع من عامل جيني وراثي أو من طارىء ظرفي طالما عانى منه العراقيون؟ ذاك ما سأحاول الاجابة عنه في المقال القادم.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق