q
لقد انطلقت المجتمعات البشرية من نقاط شروع متعددة في طريقها الطويل، لكنها سوف تلتقي في نقطة واحدة هي الدولة الحضارية الحديثة، وبذا اصبحنا نعرف بداية او بدايات خط السير، ونعرف من جهة نهايته، وهذا هو الذي سمح لنا بطرح فرضية ان الدولة الحضارية سياق تاريخي، بمعنى ان السعي الى اقامة الدولة الحضارية الحديثة اتجاه تاريخي عام...

حفزني مقال قيم للصديق امجد طليع في صحيفة الزمان نشر بتاريخ 7 نيسان الجاري على العودة الى الكتابة رغم انقطاعي عنها بسبب ما اعانيه من الالم في ذراعي واصابعي. وردت في مقال الاخ امجد الكثير من الافكار والملاحظات مما تستحق التوضيح والمناقشة مثل اسقاط تعريفات غير متبناة من قبلي على مصطلحي الحضارية والحديثة، ومثل: ”تبرئة احزاب الاسلام السياسي من كل خطاياها” و “وتاتي فرضيته (الدولة الحضارية الحديثة) وكل حلقاتها في سياق الدفاع عن الاسلام السياسي ورجالاته (رفاق الدرب)”، ومثل “التعكز على الدين”، ومثل “ميكافيلية الدولة هي الشخص المعنوي الذي تبرر لمؤسساتها القيام بأي عمل لتبقى قوية ونظامها قائم وهويتها محفوظة حتى لو كان ذلك العمل مخالفاً للاخلاق ما دام يفرض القانون.”، وغير ذلك.

وتفرض علي هذه المناقشة اعادة طرح اصول فكرتي عن الدولة الحضارية الحديثة، او ما يمكن تسميته بفلسفة الدولة الحضارية الحديثة. وهنا سوف اتحدث عن نقطتين فقط هما السياق التاريخي للدولة الحضارية الحديثة، والاساس المركزي لفلسفة الدولة الحضارية الحديثة.

فيما يتعلق بالسياق التاريخي، فإنني ارى الدولة التاريخية تشكل احد الاتجاهات المهمة في حركة التاريخ البشري. و”الاتجاهات” وهي قوانين تحكم التاريخ، اضافة الى عنصرين اخرين هما القوانين الشرطية والقوانين الحتمية تمثل “السنن التاريخية” حسب نظرية محمد باقر الصدر المنتزعة من القران، والتي تلتقي مع الكثير من الكتابات الفلسفية والاجتماعية.. والاتجاهات التاريخية هي حركات مرنة تقبل الصعود والهبوط، وتقبل التقدم والتأخر، لكن يمكن توقع محصلتها النهائية من خلال الاستقراء التاريخي والملاحظة الدقيقة وحسابات استشراف المستقبل. وبناء على هذا يمكن للباحث في تاريخ تطور الدول ان يقول ان الدول باعتبارها ظاهرة تاريخية انسانية تتصف بإمكانية التطور حتى تصل الى درجات من الكمال التي يمكن قياسها. ونحن نعلم بالملاحظة الشخصية والعلم التاريخي ان الانسان سعى منذ عصر نشوء دول المدن في وادي الرافدين قبل اكثر من خمسة الاف سنة الى اليوم الى الارتقاء بهذه الظاهرة وتحسين ادائها، وهو السعي الذي جعلنا نصوغ العبارة التركيبية “الدولة الحضارية الحديثة” بالمعنى الذي سوف اورده الان: فالدولة هي ذلك الكيان المركب من ثلاثة عناصر على الاقل وهي: الارض والشعب والسلطة. والحضارية هي الدولة القيمية المستندة الى منظومة معينة من القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري، والحديثة هي الدولة التي توظف حداثة عصرها في وضعها البنيوية والوظيفي. وسوف يلاحظ القاريء ان التعريفين الثاني والثالث يختلفان عما اورده الصديق امجد من تعاريف متداولة لهما. وهما لا يتطابقان مع تعريف زهانك وي وي للدولة الحضارية في كتابة “الموجة الصينية” الصادر عام 2011.

وحين اقول ان الدولة الحضارية الحديثة سياق تاريخي فانني اعني ان البشرية وعبر تاريخها الطويل تسير في خط تقدمي تراكمي تصاعدي فيما يتعلق بالدولة.

خط تاريخي

وهذه الخط التاريخي التقدمي لا يتعلق بمجتمع او اخر لأن كل المجتمعات قادرة ان تنخرط في هذا السياق التاريخي الذي سوف يسود في نهاية المطاف. وقد تنبأ بذلك كارل ماركس قبلي، كما تنبأ القران. طبعا تستطيع المجتمعات ان تخرج من هذا السياق بإرادتها او بسبب ظروف قاهرة، فاذا ما حدث ذلك فسوف يتجاوزها قطار التقدم البشري ليطلق عليها علماء الانثروبولوجيا وصف “المجتمعات البدائية”، اي المجتمعات التي مازالت في بداية السياق التاريخي. ولا غضاضة في ان اجد نصوصا قرانية او ماركسية او غيرها تتفق مع هذا الاستنتاج. ولا يكون استخدامي لمثل هذه النصوص تعكزا على الدين او على الماركسية او غيرهما، لان الفكرة صحيحة تاريخيا بالنسبة لي سواء وردت في القران او في رأس المال او لم ترد.

لقد انطلقت المجتمعات البشرية من نقاط شروع متعددة في طريقها الطويل، لكنها سوف تلتقي في نقطة واحدة هي الدولة الحضارية الحديثة، وبذا اصبحنا نعرف بداية او بدايات خط السير، ونعرف من جهة نهايته، وهذا هو الذي سمح لنا بطرح فرضية ان الدولة الحضارية سياق تاريخي، بمعنى ان السعي الى اقامة الدولة الحضارية الحديثة اتجاه تاريخي عام.

واوضح هنا انه يوجد في التاريخ اتجاهات تاريخية او سياقات تاريخية عامة اخرى وليس فقط الدولة الحضارية الحديثة. ومن هذه الاتجاهات العامة: الدين، بمعنى المعرفة الاولية الفطرية وربما الجينية كما يرى بعض العلماء بوجود صانع لهذا الكون. ولكن هذا بحث خارج موضوع انشغال هذه المقالة.

فلسفة الدولة الحضارية الحديثة

من المفيد ان تتضح للجمهور فلسفة الدولة التي يجري الدعوة اليها. ينطبق هذا على جمهورية افلاطون وسياسة ارسطو وعقد جان جان روسو وشيوعية كارل ماركس وصولا الى عدالة جون راولز، وانتهاءً بالدولة الحضارية الحديثة. وفي هذا الصدد اقول ان المحور المركزي لفلسفة الدولة الحضارية الحديثة التي ادعو اليها هو منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري المؤلف من العناصر الخمسة اي الانسان والارض والزمن والعلم والعمل.

منظومة القيم هي محددات السلوك ومؤشراته على مستوى الفرد والمجتمع والدولة.

ويمكن افتراض عدة دوائر لهذه القيم مثل القيم العامة المشتركة، والقيم الخاصة بعناصر المركب الحضاري، والقيم القطاعية الخاصة بقطاعات الحياة المختلفة.

ولهذه القيم العليا مصادر مختلفة، مثل الدين، والتجربة البشرية، وغيرهما. وليس لهذا الحديث علاقة بالنقاش حول علمانية الدولة او دينيتها، فهذا ليس من شروط ولا خصائص الدولة الحــــــضارية الحديثة.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق