q
الاستعمار الغربي أدخل المال والدين، استعمر أفريقيا من أجل بسط نفوذه، وتعميم أنماطه في السياسة والاقتصاد، أحدث شرخا في السلوك والذهنيات، انقسمت الجماعة وتصدعت القبيلة، وفي صراع مرير مع الذات والآخر استيقظ الإفريقي وأحس بالضياع والتشتت والتغريب، أصبح يناضل من أجل الحرية والمساواة، اكتشف خيوط اللعبة، لاحت بوادر...

أدرك الأفارقة بعد مدة طويلة من التجربة والاحتكاك مع الاستعمار وأذياله أن الشعوب لا تموت، ذاكرة الشعوب حية بتاريخها العريق، أصالة الثقافة الزنجية مقابل الحضارة الغربية المادية، يستمد الإفريقي وجوده من الأرض وقيم الجماعة، وجود أصيل في مكان طبيعي لا يشكو الإنسان من الرتابة والملل، ولم يطلب الإفريقي الحداثة الغربية وتعاليم المسيحية، تحول من سيد على أرضه إلى عبد معتقل في الأراضي البعيدة، إنه تاريخ مرير من العبودية والاستعباد، صراع شرس من أجل الحرية والكرامة ضد الرجل الأبيض وثقافته.

فالاستعمار الغربي أدخل المال والدين، استعمر أفريقيا من أجل بسط نفوذه، وتعميم أنماطه في السياسة والاقتصاد، أحدث شرخا في السلوك والذهنيات، انقسمت الجماعة وتصدعت القبيلة، وفي صراع مرير مع الذات والآخر استيقظ الإفريقي وأحس بالضياع والتشتت والتغريب، أصبح يناضل من أجل الحرية والمساواة، اكتشف خيوط اللعبة، لاحت بوادر الأمل من الأصوات المنددة والمتمردة ضد الاستعمار وأدواته.

من هنا تتشكل اليقظة العادية، من الانتباه والإدراك والشعور، صدمة فكرية واعية تتحول إلى يقظة إستراتيجية تعيد الاعتبار للذات في تأملات معقولة نحو استباق المستقبل، ونسيان الماضي، يقظة ايجابية بعد سبات عميق في التخلف والانحطاط، صحوة ذاتية وجماعية يحملها الجيل الجديد من الشباب الطموح والمتعلم، أفريقيا المريضة بأمراض التسلط والفساد السياسي والتخلف الفكري.

إفريقيا التي تعاني تبعات الاستعمار الاقتصادي والثقافي تبحث عن ذاتها من جديد، عين الصواب أن تكون أفريقيا برغماتية الرؤية، ديمقراطية الهوى، إنسانية المعاملة على أساس التقدير والكرامة، جغرافية إفريقيا ممتدة وغنية بمواردها وتراثها المادي واللامادي، اختيارات مفيدة في التنافس والشراكة بدون التقليل من تاريخها وقيمها، قارة شاسعة ومتنوعة بمناخها وتضاريسها وسوائلها الطبيعية، فهل يقظة إفريقية حقيقة أم مجرد أحلام وأوهام؟ هل تتحمل أفريقيا المسؤولية عن تخلفها وتبعية حكامها للاستعمار؟ أسئلة تحتاج للتحليل واستنطاق الأسباب والعوامل المركبة.

اليقظة المحمودة تعني الاعتراف بالذات والانفتاح على الآخر، المهارة والخبرة في الحكم، والدفاع عن المصالح الحيوية من المعطيات المهمة في البناء للوعي الفردي والجماعي، لا مناص من الفهم للعقلية الاستعمارية وإدراك خفايا الانجرار نحو الصراعات التي أنهكت القارة السمراء وساهمت في استفحال أزماتها، إفريقيا أرض الخيرات، أرض التبر والغاز والكاكاو والفوسفاط واليورانيوم، أرض الأنهار والسهول والغابات والجبال، تمثل 18% من سكان العالم لكنها موجودة على هامش النظام العالمي، منزوعة الإرادة والسيادة، تحكمها أنظمة عسكرية، وتعرف نشاطا للحركات الراديكالية، ومقسمة بين المناطق الغنية والفقيرة، تحاول انتشال نفسها من براثن الاستعمار والتدخلات الأجنبية.

تعاني القارة من شراسة العولمة الاقتصادية والثقافية، من التبعية المالية للمستعمر الفرنسي والانجليزي، بعدما عانت من تجارة الرقيق والاستعباد لأهلها وتهجيرهم قسرا نحو أمريكا، الإفريقي لم يطلب الأنوار والعقلانية الغربية، ولم يكن يوما يرغب أن يحمل إليه الرجل الأبيض المسيحية وترانيم الكنيسة، وتعليمها بالإكراه والتمويه أو التقليل من قيمه وتقاليده، الأفارقة كيانات ومجموعات ثقافية متنوعة، فسيفساء من القوميات والشعوب ظلت منسجمة مع بيئتها، سعيدة بوجودها دون مركب نقص، لما دخل الاستعمار الغربي جاء مدججا بالسلاح والمال والتبشير، رسخ أنماط جديدة للتعليم واستمال النحب المحلية، نتج عن ذلك شرخا كبيرا في مكونات المجتمع، ولما خرج ترك فكره وأنظمة تحمي مصالحه.

إن خطاب ما بعد الاستعمار يقر بالمسؤولية المزدوجة، التخلف واستشراء الفساد للاستعمار الداعم للقوى الفاسدة والأنظمة العسكرية وناهبي الخيرات الطبيعية، وعامل مهم يتعلق بالمسؤولية الذاتية في التنمية والإصلاح، خطاب يعيد قراءة العلاقة بين الأنا والآخر، يفكك النزعة المركزية الغربية، ويقيم التقابل بين العقليات، نيلسون مانديلا في الجنوب أفريقيا أدرك الأسباب والعوائق المساهمة في الركود وضعف أفريقيا، نادى بطي الماضي الأليم وبداية عهد جديد قوامه الصفح والعمل من أجل نهضة دولته بعيدا عن الانتقام وتصفية الحساب.

ومن هنا يمكن اعتبار يقظة إفريقيا وصحوة نخبها بداية الانقلاب على السياسة الاستعمارية، دعوات الأفارقة لفك الارتباط عن المستعمر الغربي والحذر من القادمين الجدد، ما يؤرق فرنسا كمثال هي اليقظة الإفريقية ورغبة الشعوب في الانفصال عنها، جولة الرئيس ماكرون الأخيرة لأفريقيا كشفت عمق الأزمة بين الشعوب الأفريقية وقادتها ضد فرنسا وسياستها، سجلها الاستعماري وتحالفها مع النخب الفاسدة، وتدخلاتها المتكررة في اغتيال القادة، وتنصيب العملاء، والإطاحة بكل زعيم يرغب في الاستقلال الفعلي عن السياسة الاستعمارية.

برغماتية افريقية بدأت تلوح في الأفق، تدخلات جديدة لأطراف تتصارع على خيرات أفريقيا، الدعاية الروسية ضد الاستعمار الفرنسي في دول الساحل الإفريقي، من مالي وبوركينا فاسو وتشاد والنيجر، وفي دول أخرى كالكونغو الديمقراطية وإفريقيا الوسطى وغيرها من الدول الرافضة للهيمنة والاستعمار في صورته القديمة والجديدة معا، الصين تقدم نفسها شريكا أمينا من خلال تمويل بعض المشاريع ونقل التكنولوجيا الحيوية وبيع الأسلحة والقروض، اختبار مدى صدق العلاقات رهين بالنتائج البعيدة المدى ونوايا الشريك حتى لا تتحول المساعدات والقروض الممنوحة إلى فخ لاستنزاف خيرات القارة السمراء، إفريقيا للأفارقة والشراكة الحقيقية تبدأ بالنوايا الحسنة وتعميم المنفعة للجميع.

الاستعمار جريمة ضد الإنسانية، استعمار واحد سواء في الجزائر أو المارتينيك كما قال فرانز فانون، مضمونه الاستغلال والاستخفاف بالشعوب واحتقار أهلها، شخصيات إفريقية مناضلة دفعت حياتها وجزء من التضحيات في سبيل أن تحيا إفريقيا حرة غير مكبلة بقيود الاستعمار، وأخرى ناضلت بالقلم والتعبير والجهر بالقول السديد في تعرية مخططات الاستعمار.

لازالت فرنسا مهيمنة على السياسة النقدية في مجموعة من البلدان الإفريقية من خلال الفرنك الإفريقي وارتباطه باليورو، العلاقات المتشعبة والمتشابكة وليدة سياسة الأمس من التوغل والتورط، خطط "جاك فوكار" مستمرة، خطاب جديد في قالب ناعم وسلس يقدم فرنسا كصديق وشريك معبرا عن نهاية زمن فرنسا في إفريقيا كمستعمر وعدو لكل صحوة ذاتية، خطاب علني يعلي من الشراكة وتسويق فكرة المحاور المحايد والشريك الجديد بلغة القرن الواحد والعشرين.

عصر فرنسا الإفريقي انتهى، يعني نهاية التورط والتدخل في السياسة، وتنصيب الحكام، والتحريض على الانقلاب بالتوغل، والانخراط المباشر، بدون إفريقيا تنحدر فرنسا إلى صفوف دول العالم الثالث، موقف للرئيس جاك شيراك عن التاريخ الطويل من الوجود الفرنسي في غرب ووسط إفريقيا، الوجود الذي أمن لفرنسا تعدد مصادر الخيرات الطبيعية والسيطرة على الموارد، نظامها الاستعماري يوازي بين الاقتصادي والسياسي والثقافي، تؤمن الحاجيات الأساسية لأسواقها من خلال انتشار الشركات العاملة في حقول الغاز والبترول وموارد أخرى، تنصب ما تشاء من نخبة، وتلمع صورتها من خلال خطاب ما بعد الاستعمار، وتلقي اللوم على الزمن الذي سادت فيه فكرة الاستعمار.

لم تتغير سياسة فرنسا في إفريقيا منذ 1962، نظام جاك فوكار المهندس الفعلي للسياسة الاستعمارية وعلاقة فرنسا بمستعمراتها لازال قائما، تقديم المصالح العليا لفرنسا على تنمية إفريقيا، ضمان الولاء الخفي والظاهر للنخب المتحكمة، الزيادة في الانقلابات وإشعال التوتر بين الفرقاء، الاستعمار الفرنسي ثقافي الهوية، استعمار مدجج بالسلاح والتبشير بالقيم المسيحية، استعمار نال الكثير من ثقافة الأفارقة ورموزهم وأساطيرهم، وما يتعلق بالمخيال الاجتماعي.

فالشباب الإفريقي والجماهير الواسعة أدركت بالفعل خفايا السياسة الاستعلائية، وتطاول الاستعمار في النهب والاستغلال، أسباب موضوعية للتحول نحو شراكات أكثر معقولية من قبل دول غير استعمارية، وماضيها ليس كذلك، الصين وروسيا دخلت على الخط، أصبح هناك تنافس كبير بين هذه الدول، أدرك الإفريقي ما تقدمه الشراكة المتنوعة من فرص وإمكانيات جمة في مجالات عدة، من الفلاحة والصناعة، والخدمات والاستثمار من منطلق المنفعة والربح للجميع، لكن بالمقابل تثار المخاوف من جديد أن تكون إفريقيا ضحية للصراع الدولي والتوتر بين الأقطاب المختلفة، الكل يخاطب ورد الأفارقة، الكل يلعب على وتر المصلحة لأفريقيا وشعار "المستقبل والشراكة".

فرنسا بدورها حاولت صياغة سياستها وما يتلاءم والظرفية العالمية، وكل ما هو مستجد من صعود قوى عالمية واشتداد التنافس بينها وبين روسيا والصين، انسحابها من بعض الدول، وبرودة الاستقبال في حق ماكرون دليل آخر على بداية النهاية لفرنسا كشريك مركزي يحظى بالثقة والهيبة، وغالبا ما تتهم روسيا أنها تغذي مشاعر الأفارقة، وتوقظ فيهم نزعة التحرر وفك الارتباط من التبعية للمستعمر القديم، تقدم القوى الجديدة نماذج مغايرة من المعاملات والمبادلات من خلال القوة الناعمة والاستثمارات والدعم المالي.

فالشعور المعادي لفرنسا والاستعمار عموما ازداد في إفريقيا، لا يمكن أن تكون دواعيه التحريض ضد الاستعمار القديم لكن جملة من الأسباب جعلت النخبة الإفريقية المتمرسة في السياسية والتي خبرت العقلية الغربية وفلسفتها أن تنهض من سباتها في سبيل حماية دولها والمطالبة بالاعتراف والمساواة وحقها في بناء نماذج ديمقراطية بعيدا عن هيمنة الغرب واستعلائه.

بدون إفريقيا لن يكون لفرنسا تاريخ خلال القرن الواحد والعشرين حسب فرانسوا ميتران أما الصراع الدائر في أوروبا حاليا بين أوكرانيا وروسيا فهو يزيد في تأجيل الصراع على القارة، بالمقابل يمكن أن يشمل الصراع إفريقيا عندما لا تتقاطع المصالح بين الغرب وروسيا والصين، ويزيد الصراع قوة وتعميما، يعود الاستعمار في شكل استثمارات وشركات متعددة الجنسيات، يعود بشكل أقوى وأسرع في حالة تراجع اليقظة والتوجس من المخططات على المدى البعيد.

الصين ومبادرة الحزام والطريق ومشاركة 40 دولة افريقية، الصين هنا فاعلة في مجال تعبيد الطرقات وبناء الموانئ والسكك الحديدية، وفي مجال تنوع المبادلات، أخذ وعطاء بدون التقليل أو الانتقاص من مكانة الأفارقة وقيمهم، المبادلات في طبيعتها التجارية والاقتصادية دون شروط وقيود، التوجس هنا يتعلق بفهم التفكير الصيني في ظاهره وباطنه، إن كانت إستراتيجية الصين تعني الموارد الطبيعية مقابل الاستثمار في البنية التحتية فإن المخاوف تكبر وتتسع من سيادة علاقة لا متكافئة تبتلع الصين خيرات إفريقيا وتصبح القارة سوقا استهلاكية، روسيا كذلك مساندة إفريقيا ضد المعسكر الغربي.

طريق التنمية طويل وشاق يبدأ من الذات أولا ويعبر هذا المسار نحو المؤسسات وإرساء أنظمة ديمقراطية تتماشى والهويات المحلية والنظرة العالمية باعتبار إفريقيا جزء من العالم تتأثر بالمستجدات في عالم السياسة والاقتصاد والثقافة، فلا يمكن بناء تنمية حقيقية إلا من خلال معطيات ذاتية تتعلق بالاستثمار في الإنسان، إفريقيا أرض الخير، ومنبع الموارد الطبيعة، وأهلها يفرون من أوطانهم، أصبحوا لاجئين وعابرين للحدود، يعيشون الصراعات العرقية والدينية والسياسية.

تحديات الأفارقة تتعلق بالإرادة في القضاء على الفساد، ومنح الثقة للمواطن في بناء دولته، يقظة إفريقيا تبدأ بالوعي الاجتماعي، وتنتهي نحو بناء المجتمع والدولة على أساس الإجماع والمواطنة، أي إرساء الدولة الحديثة التي تتسع لكل المواطنين.

إن إفريقيا كما قال ماكرون ليست قارة ضائعة ولا ناجية، إنها قارة مركزية تلتقي فيها كافة التحديات المعاصرة، كلام ماكرون في سياق الزيارات الأخيرة لأفريقيا، إحساسا من فرنسا بالحاجة لميثاق جديد يتجاوز الممارسات القديمة، ويرسي شراكة متينة على أساس الاحترام والثقة، وفي نفس الوقت يقر ماكرون أن جرائم الاستعمار الغربي لا جدال فيها، إنه يخاطب الأفارقة ويتمنى كسب ودهم بعدما دخلت قوى جديد على الخط بوعود مغرية، ومهما كان تقرب القوى القديمة والجديدة من أفريقيا على الأفارقة الحذر من النوايا والمواقف الصامتة حتى يتمكن أهلها من بناء نهضة مفقودة.

اضف تعليق