q
ممارسة عملية الاحياء للمجتمعات الإنسانية تتطلب استلهام ثقافة إنسانية واخلاقية ذات قيم اصيلة وحقيقية، كثقافة مدرسة اهل البيت، التي أسست لهذى المفهوم بصورة عملية من خلال سيرة الرسول الأعظم والائمة الاطهار، ودائبهم طوال مسيرتهم على الدفع باتجاه حركة التصحيح الاجتماعية اطلاقاً من نفس الفرد وضمير المجتمع والإنسانية جمعاء...

القدرة على إعادة احياء النفوس التي تعاني من امراض معنوية خطيرة تسبب اختلال قيمها الإنسانية والأخلاقية، يحتاج الى قدر عالي من الصفات الذاتية المؤهلة الى إنجاح عملية التصحيح، وبالتالي الوصول الى إعادة احياء النفس التي وصلت الى مرحلة الموت المعنوي الشبيه بالموت الحقيقي وانعدام الحياة.

ان الاختلاف بين القادة المصلحين وغيرهم من الحكام المستبدين يكمن في سعي قادة الإصلاح مواجهة الدكتاتورية لإعادة احياء المجتمعات الإنسانية التي اغتالتها سلطة الاستبداد وعمدت الى تجهيلها وتخلفها واستعبادها، والإصرار على اذلالها وسلب كرامتها، وانغماسها في ملذاتها المادية وبالنتيجة اغتيالها معنوياً، من اجل السيطرة على حكمها بعيداً عن الاخلاق والفضائل والفطرة السليمة.

وهذه العملية تهدف بحد ذاتها الى انتشار الفساد والرذائل في الأرض كما أشار اليها القران الكريم في قوله تعالى: (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة/32).

لذلك كانت القدرة على ايقاف هذا الانحدار نحو المادية مهمة صعبة في ذاتها، كون عملية الاحياء تتطلب مجهود فوق العادة، من رجال فوق العادة ايضاً، لهم رسالة محددة واهداف واضحة يسعون من خلالها لإنقاذ المجتمعات واحياء النفوس، وهو هدف نبيل سعى لتحقيقه كل الأنبياء والرسل والاوصياء والمصلحين، لذلك تجدهم في كل الأحوال والاوقات مستهدفين من قبل السلطة الحاكمة والاشرار والظالمين، في محاولة منهم لإسكات أصواتهم طمس معالم افكارهم وتأثيرهم في النفس الانسانية.

ان ممارسة عملية الاحياء للمجتمعات الإنسانية تتطلب استلهام ثقافة إنسانية واخلاقية ذات قيم اصيلة وحقيقية، كثقافة مدرسة اهل البيت (عليهم السلام)، التي أسست لهذى المفهوم بصورة عملية من خلال سيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله) والائمة الاطهار (عليهم السلام)، ودائبهم طوال مسيرتهم على الدفع باتجاه حركة التصحيح الاجتماعية اطلاقاً من نفس الفرد وضمير المجتمع والإنسانية جمعاء من خلال جملة من الخطوات:

1. نشر الفضائل وقيم التقدم التي ترتقي بالفرد او المجتمع الى مراتب الكمال وتحافظ على سلامة المجتمع وتحصنه من الانحدار نحو هاوية الرذائل والقيم السالبة للإنسانية.

2. حرية الانسان في التعبير عن الرأي والتحرر من قيود التبعية والاستعباد المادي والمعنوي باعتبار ان الانسان قيمة عليا لا يمكن اهدارها.

3. الوقوف في وجه الاستبداد والظلم باعتباره البيئة الحاضنة لمظاهر التخلف وتجهيل المجتمع واستعباده للسيطرة عليه وضمان عدم معارضة النظام الحاكم.

4. محاربة الرذائل التي تتسبب في تضرر المجتمع المعنوي وانحداره نحو هاوية الضياع والانحلال، وبالتالي خلق عالم خالي من القيم والحضارة والأخلاق.

5. صون كرامة الانسان وتعزيزها هو المحور الأساسي في خلق فرد خالي من العقد النفسية او مسلوب الإرادة، وبالتالي خلق مجتمع يتمتع بقدر عالي من الثقة والتحرر والقدرة على الثبات.

6. مواجهة الأفكار المنحرفة والمادية بالحجة والبرهان والفكر، وهذا ما ميز مدرسة اهل البيت (عليهم السلام) في التعامل بواقعية مع المشكلات والأزمات، عن غيرها من المدارس والاتجاهات الأخرى.

7. اعتماد مبدأ اللاعنف والتسامح والعفو مع الجميع، فالإحياء لا يتم عبر استخدام أساليب عنيفة او قاسية تعتمد الاكراه والاجبار والقسوة.

ان "القتل المعنوي" خطر يهدد الافراد والمجتمعات والأمم على حد سواء، خطر يعني جمود الفرد وانكسار المجتمع وموت الأمم، ومع انعدام منظومة قيمية يمكن الاستناد عليها في منع التراجع او الانكسار المعنوي، فالمسألة مجرد وقت حتى يقع المحذور، وهذا بالضبط ما يحدث للفرد والمجتمع في عصرنا الحالي، مع الترويج لأفكار وتيارات واتجاهات خالية من القيم الإنسانية او الفطرة السليمة، لتسحب الانسان الى خانة "الشك" والـ"لاادرية" و"العدم"، من اجل خلق الفوضى والضياع، وهي من اخطر الرسائل التي قد تهدد وجود الانسان المعنوي والمادي.

اما "الاحياء المعنوي" فهو خلاصة ما يمكن الوصول اليه من اجل النجاح في خلق مجتمع ينعم بالسعادة والامن والرفاهية والتصالح المعنوي، نتيجة للقيم الإنسانية، والمقومات الأخلاقية والحضارية التي يملكها، وبالتالي انعكاسها الإيجابي على الفرد والمجتمع.

والخلاصة التي يمكن ادراكها اننا اليوم بحاجة فعلية وواقعية الى استلهام العبرة والفائدة من مدرسة اهل البيت (عليهم السلام) التي رسخت مفاهيم الإنسانية والأخلاق والبناء الحضاري، وسعت الى تطبيق قيم التقدم، وزرع الفضائل في المجتمعات الإنسانية، لأنها السبيل الوحيد نحو النجاح في خلق مجتمع متوازن وسعيد، كما ان النجاح في خلق هذا المجتمع يعني النجاح في انتاج افراد صالحين لا يعانون من عقد مادية او نفسية ولا يخضعون لها، لهم القدرة على مجابهة التحديات والمساهمة في تطوير الحضارة الإنسانية.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2023
http://shrsc.com

اضف تعليق