q
أدرك الباحثون على الاقل بعد النصف الثاني من القرن العشرين والربع الاول من القرن الحادي والعشرين هذا الامر وانشأوا منظمات وهيئات تقيس درجة حضارية وحداثة الدولة بناء على معايير او مؤشرات معينة مثل سيادة القانون، والحرية، والانفاق على العلم، والاختراعات العلمية، وحقوق الانسان، والشعور بالسعادة، والديمقراطية، والصحة والتعليم وغير ذلك...

في كتب العلوم السياسية والقانون الدستوري يصنفون الدول والانظمة والدساتير الى انواع واصناف. فهناك الدولة الاتحادية والدولة البسيطة، وهناك النظام الجمهوري والنظام الملكي وهناك الدستور المرن والدستور الجامد.

وكان ارسطو (384 ق.م - 322 ق.م) من أوائل الفلاسفة او المفكرين الذين كتبوا في انواع الدول، وقبله فعل استاذه افلاطون. واضاف ليبهارت نوعا جديدا للديمقراطية هو الديمقراطية التوافقية. وهكذا.

ويسلك المنهج في التصنيف أحد طريقين: اما ان يصنف المفكر الدول او الانظمة او الدساتير بناء على ما هو موجود في الواقع بأطلاق مسميات معينة عليها، او ان يقترح المفكر نوعا جديدا وقد يكون مبتكرا من الدول او الانظمة او الدساتير مثلما فعل ماركس وانجلز ولينين الذين اقترحوا ونظّروا للنظام الاشتراكي او الدولة الاشتراكية مقابل النظام الرأسمالي او الدولة الرأسمالية.

أطرف ما اقرأه من ردود على اسم "الدولة الحضارية الحديثة" الذي اروّج له قول بعضهم ان هذا الاسم غير موجود في كتب القانون الدستوري والنظم السياسية التي تدرس في الجامعات. ونقرأ في هذه الكتب عنوان "اشكال الدول" الذي يتفرع منه عناوين الدولة الموحدة، والدولة المركبة، ونجد عنوان "اشكال الحكومات" الذي يتفرع الى الحكومة الاستبدادية والحكومة القانونية، والحكومة المطلقة والحكومة المقيدة، والحكومة الملكية والحكومة الجمهورية، كما فعل د. عبد الغني بسيوني عبد الله في كتابه التدريسي "النظم السياسية" الصادر عام ١٩٨٤.

وكل هذه العناوين والتصنيفات منتزعة من الواقع المشهود والمعاش ولا ابتكار بيها. غاية ما في الامر ان الكاتب او المفكر يضع معيارا في ذهنه ويصنف الدول او الانظمة القائمة على اساس هذا المعيار.

ولا يسد هذا المنهجُ البابَ امام المفكرين الاخرين في ابتداع تصنيفات او عناوين جديدة للدولة القائمة بناء على معايير وقياسات اخرى. فيأتي من يصنف الدول الى غنية او فقيرة، نفطية او غير نفطية، متقدمة او متخلفة، وغير ذلك، ولا معنى لغلق هذا الباب، والاقتصار على ما تم تأليفه من كتب القانون الدستوري والانظمة السياسية، كما فعل بعض المسلمين حين اغلقوا باب الاجتهاد الفقهي.

من أطرف ما اقرأه من ردود او مناقشات لفكرة الدولة الحضارية الحديثة انهم لا يجدون هذا العنوان في كتب القانون الدستوري. وكأن هذه الكتب قران منزل مهيمن على ما بين يديه وما خلفه، يختم على ما قبله، ويمنع ما بعده.

وينسون ان ما في هذه الكتب من مصطلحات وعناوين انما هو من انتاج بشر وضعوها لتسهيل دراسة انواع الدول والانظمة والحكومات القائمة. وهو باب مفتوح لمزيد من العناوين كلما توصل كاتب او مفكر الى معايير او مقاييس جديدة لتصنيف الدول القائمة فعلا في اغلب الاحيان، او لاقتراح انواع جديدة قد تظهر بعد جهد وسعي ونضال.

من هذا عنوان "الدولة الحضارية الحديثة"، مقابل الدولة المتخلفة التقليدية، وهو عنوان "قيمي" ينتزع من منظومة القيم التي تستند اليها وتسترشد بها الدولة، والتي تحدد درجة نجاحها في تفعيل المركب الحضاري للمجتمع والدولة بذاك الشكل القادر على تعظيم انتاجية المجتمع وتحقيق الرخاء (العلاقة بين الانسان والارض عبر الزمن والعلم والعمل)، ومن ثم تحقيق السعادة والعدالة بين الناس (العلاقة بين الانسان واخيه الانسان).

وبالنظر الى الدول القائمة حاليا، او على الاقل بعد معاهدات ويستفاليا عام ١٦٤٨ سوف نجد ان هذه الدول تحتل مراتب مختلفة ومتفاوتة في "السلّم الحضاري"، ما يمكن ان نقول معه ان عنوان الدولة الحضارية الحديثة يعبر عن مصاديق مختلفة ومتنوعة. وقد أدرك الباحثون على الاقل بعد النصف الثاني من القرن العشرين والربع الاول من القرن الحادي والعشرين هذا الامر وانشأوا منظمات وهيئات تقيس درجة حضارية وحداثة الدولة بناء على معايير او مؤشرات معينة مثل سيادة القانون، والحرية، والانفاق على العلم، والاختراعات العلمية، وحقوق الانسان، والشعور بالسعادة، والديمقراطية، والصحة والتعليم وغير ذلك. واليوم أصبح بالإمكان قياس موقع اية دولة في سلم او مفهوم "الدولة الحضارية الحديثة". وهذا ما تقوم به هذه المؤسسات عبر نشر مؤشراتها كل عام.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق