q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

المسلم بين العبث والغاية

من هو المسلم؟ (6)

العبث معناه فقدان الغاية في الحياة، سواء كان ذلك بصورة مباشرة أن الإنسان نفسه يشعر أنه ضائع في هذه الحياة، أما الصورة غير المباشرة، فإنه لا يشعر بأهميته في الحياة. فالأول العبث من ناحية الفعل، والثاني العبث من ناحية الترك. بمعنى فقدان الغاية، والفراغ المعنوي عند الإنسان، والاشتغال باللاشيء...

تطرقنا في مقال سابق إلى الفرق بين المسلم الظاهري والمسلم الجوهري، وفي هذا المقال سوف نسعى الى استكمال استكشاف هذا الفرق من خلال الغاية التي يتحرك اليها المسلم.

نحاول أن نعرف وظيفة المسلم في هذا العصر، لكي يستطيع هذا المسلم أن يبني حياته ودنياه وآخرته في ثقة واستقامة وهدى وبصيرة، فهذا العصر خطير فيه الكثير من المغريات والملهيات، وهناك انفتاح كبير من ناحية المعلومات والثقافات والقيم والسلع، ومكدس بشبكات التواصل الاجتماعي، وأدوات الاعلام والاتصال، لذلك فهو متفجر بالاحتكاك الثقافي المعلوماتي.

وأهم قضية يواجهها المسلم في عالم اليوم هي قضية حياته بين العبث والغاية، فكيف يعرف أن حياته تسير في إطار الغايات الصحيحة، أم هي إلا مجرّد عبث، وهذا العبث يعد قضية مصيرية في عالم اليوم، فالأسئلة الناتجة من القلق الوجودي كثيرة جدا، نتيجة للمشكلات والأزمات الثقافية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها الإنسان اليوم.

وقد أدى ذلك إلى حدوث إشكالات وشكوك واوهام في ذهن الإنسان جعلته يعيش حالة العبث في حياته، أما المسلم الجوهري كما ذكرنا في مقال سابق هو الذي يعرف معنى الوجود، وهدفيته في الحياة، ويتفاعل مع وظيفته من المبدأ إلى المنتهى، دون الانحراف نحو الأهواء والمصالح والإغراءات، فيستثمر الدنيا لربح الآخرة، والابتعاد عن العبث واللهو واللغو.

في مفهوم العبث ومصاديقه

سوف يتركّز بحثنا هذا على معنى العبث، ومعنى اللهو، ومعنى اللغو، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) المؤمنون 115. فالعبث معناه فقدان الغاية في الحياة، سواء كان ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة، الصورة المباشرة أن الإنسان نفسه يشعر أنه ضائع في هذه الحياة، أما الصورة غير المباشرة، فإنه لا يشعر بأهميته في الحياة. فالأول العبث من ناحية الفعل، والثاني العبث من ناحية الترك.

هذا العبث قد يأتي بمعنى فقدان الغاية، والفراغ المعنوي عند الإنسان، والاشتغال باللاشيء، أو لا يوجد عنده شعور بوجوده في الحياة، أو بهدفيته في الحياة، فيشعر بأنه ضائع تائه لا يعلم إلى أين يذهب ولا إلى أين سينتهي، وهذا الامر يتحقق من خلال اختيار الإنسان نفسه.

العبث بهذا المعنى ينقسم إلى قسمين:

العبث هو فقدان الغاية

لماذا المسلم الذي يعيش شكلانية الإسلام، أو ظاهرية المسلم، يفقد معنى الغاية في داخله؟، لقد أجبنا عن هذا السؤال في المقال السابق وذكرنا أن السبب هو لافتقاده للتفكير الإسلامي والصبغة الإسلامية التي تعطيه اللون الخاص، وهو اللون الإسلامي من ناحية العقيدة والأفكار، والثقافة، والأخلاق، والفضائل، ومن ناحية الإيمان بالآخرة والمعاد، كل هذه الأمور تؤثر على طريقة تفكير الإنسان.

فعندما لا توجد هذه الأشياء في طريقة تفكيره، فإن هذا التفكير يجعله يعتقد بأنه إنسان عصري، ولا يحتاج للدين، وقد يكون هو مسلم شكلاني فلا يعتقد بأهمية هذه القضايا العقائدية التي طرحناها، فيكون تفكيره غير إسلامي، وعندما يفقد الإنسان تفكيره وطابعه الإسلامي، فما هي الغاية الموجودة في نفسه؟، وفي معنوياته، وروحه، إنه سوف يصبح بلا غاية، وهذا هو العبث بعينه.

كيف يشعر الإنسان باللاوجود؟

يقول الإمام علي (عليه السلام): (إن لكم علما فاهتدوا بعلمكم، وإن للإسلام غاية فانتهوا إلى غايته)، وهذا يعني الإحساس بالوجود، فإذا لم ينتهِ الإنسان إلى غاية الإسلام، يصبح لديه فراغ في داخله، وهو الفراغ المعنوي والفراغ الوجودي. لذلك تراه عابثا لاهيا ساهيا وبلا هدف في الحياة، ضائعا تائها يشعر بالاكتئاب، ويتساءل لماذا أنا موجود؟، هذا السؤال يُطرَح كثيرا في عالم اليوم؟، فهو يتساءل عن الغاية من وجوده، السبب في ذلك لأنه يفتقد غاية الإسلام. ولكن كيف يصل الإنسان إلى هذه المرحلة؟

ذكرنا سابقا أنه لابد على الإنسان أن يركّز على رسم خارطة طريق لحياته، وحين لا تكون لدى الإنسان خارطة في الحياة من حيث المبدأ إلى المنتهى، استنادا إلى السنن والقواعد الإلهية، فإنه يعيش حياة العبث ويفتقد الغاية، كالإنسان الذي يسير في شارع ولا يعلم من أين بدأ وإلى أين سينتهي، فيصبح كالتائه في الصحراء، لأنه ليس لديه مبدأ ولا منتهى، فماذا يوصَف وضعه هذا؟، إنه تائه، وهو الذي أوصل نفسه إلى هذا التيه حين افتقد للوجود الإسلامي في داخله.

بالعودة إلى موضوعنا، العبث هو فقدان الغاية في عمقه من جهة، والخلل الروحي في داخله، فيشعر أن في داخله فراغ كبير جدا.

الاشتغال باللاشيء

ما الفرق بين الشيء واللاشيء؟، الأمر واضح، فاللاشيء يعني اللهو واللعب وعدم وجود مضامين وجدوائية في أعماله وأفعاله، فإذا أراد كل إنسان أن يعرف ما هي جدوائية أي عمل يقوم به وما هي نتائجه، فهو يعرف أن هذا هو اللاشيء الذي هو مجرد لهو وعبث، والعبث يُقسَم إلى قسمين:

الأول: العبث من ناحية الفعل.

الثاني: العبث من ناحية الترك.

الأول يعني يفعل شيئا غير ذي فائدة، أو بلا جدوى، والثاني أن لا يفعل شيئا، فالعبث بالفعل هو العبث الوجودي، بمعنى أنه يفعل أشياء لكنها ترسّخ العبث في حياته ونفسه، والعبث الوجودي يجعل الإنسان يتفلسف، إذ يبحث عن معنى الوجود في داخله بحثا خياليا، أو بحث غير واقعي، فيشبه بذلك (الهيبيين) و (الوجوديين) فهو يبحث عن وجوده من خلال هذا العبث، فيبحث عن وجوده في عبثه، وهناك فلسفات حول هذا المعنى الأول.

ومنه العبث الذاتي: حيث يشعر بنفسه بأنه طاغية ومستبد، وتتضخم عنده الأنا، المحورية الأنانية، فتصبح غايته ونفسه، وتصبح لديه نرجسية زائدة، واستبداد وطغيان، وحب شديد لذاته، وهكذا يحدث لدية العبث الذاتي، وهي ليست غاية تؤدي به إلى أن يصل إلى طريق التكامل والسمو الإسلامي الإلهي، ثم يصل إلى الكمال الراقي العالي في الآخرة.

فحب الذات والنرجسية عبث لأنها غاية ذاتية ليس لها أي معنى، ولا أي فائدة ولا أي جدوى، لذلك فإن الاشخاص النرجسيين يُنظَر إليهم مصابين بالأمراض النفسية، لديهم انفصام عن الواقع، يعيشون في عالم خيالي، وبعضهم ينغمس في عالم رومانسي، وهكذا يصبح وجوده الوهمي هو الوجود الخاص الذي يجعله بالنتيجة عابثا في حياته بلا غاية.

العبث الفكري: يتجسد بأن هذا النوع من الأشخاص ينظر إلى نفسه بأنه مفكّر وفاهم، فيبدأ بعملية بناء الأفكار الخاصة به في الحياة، وهي غالبا ما تكون بعيدة عن الواقع، كونه يعيش في عالم الخيال.

عندما تصبح القيم هلامية سائلة

العبث الأخلاقي: حيث لا تكون عند الإنسان فضائل ولا أخلاق، وهو الذي يصنع أخلاقه بنفسه، ويؤمن بأن (الغاية تبرر الوسيلة) ومتى يرغب بالخيانة سيفعل ذلك، أو متى يريد أن يكذب سيكذب، ومتى يريد أن يظلم سوف يظلم، فكل القيم لديه تصبح هلامية، سائلة، فالعبث يجعل الإنسان يتلاعب بالأشياء الموجودة بالحياة.

مثال على ذلك أن أحدهم يريد أن يعمل حيوانا جديدا من جنسين أو من حيوانيْن متناقضين مثلا، ويبدأ بسلسلة من العمليات في المختبر، هذا يسمى عبث وتلاعب بالطبيعة، مثل الإنسان الذي يقوم بإجراء عمليات تجميل عجيبة غريبة في وجهه حتى تتغيّر هويته، هذا أيضا يسمى عبث لأنه تلاعب بالخلقة.

هذا النوع من الناس يجد لنفسه هوية خاصة، سواء كانت أخلاقية أو فكرية أو فلسفية، لكن هذا الأمر عبث يقوده إلى الانحراف والسقوط في المرض النفسي، والانحراف عن الطريق الصواب والمعاناة من البؤس والشقاء. فالعبث هو البؤس والشقاء بمعنى الكلمة.

التلاعب عبث وانحراف

العبث الاقتصادي: مثال على ذلك التلاعب بمقدرات الناس، والاحتكار، والغش في الاقتصاد، والربا، من أجل الحصول على أموال أكثر، ومن ثم يقوم بإفقار الناس من خلال تضخم أرباحه المرضي.

وهناك أيضا التلاعب السياسي، فبعض الطغاة والحكام السياسيين، بعضهم لا يريد أن يحكم فقط، وإنما يريد أن يتلاعب بالناس، فيأخذ دور الإله ويتقمص دور الخالق. فيقول (أنا ربكم الأعلى) وهكذا فإن التلاعب بالناس هو نوع من العبث، وبعضهم يقول (أنا أحيي وأُميت) وهذا هو التلاعب السياسي، حيث نجد أن أغلب السياسيين متلاعبون، لأنه بعضهم لا يشبع مهما حصل على أموال أو سلطة، بالنتيجة يبقى يتلاعب بمقدرات الناس، فيسجن هذا الشخص ويطلق سراح ذاك لكي يبيّن للآخرين بأنه مقتدر، وقادر، ومسيطر.

من العبث أيضا، غسيل المخ والتلاعب بالرأي العام، من خلال التضليل والتلبيس، فهذا النوع من الناس لا يبادر بإعطاء أفكار جيدة ومفيدة للناس، وإنما يريد أن يضللهم لأهداف معينة في ذهنه، وهو يعرف أن هذه الأفكار باطلة، ومع ذلك يتلاعب بالناس عبر التضليل أو غسيل المخ، ونشر الأخبار الكاذبة والمزيفة.

بعض الناس حين يدخل إلى شبكات التواصل الاجتماعي، ينشر خبرا كاذبا، ومع ذلك تجد الكثير من الناس يصدقون بهذا الخبر، ويقوم الناس بنشره وتداوله فيما بينهم، وهذه الأساليب (التضليل، نشر الأخبار الكاذبة، غسيل المخ) تدخل في خانة العبث، بسبب عدم وجود غاية تخدم الإنسان كقيمة سامية وإنما مجرّد تلاعب.

عندما يعبث الإنسان من دون أن يفكر بالعواقب، يصل إلى مرحلة خطيرة من عملية التدمير، تدمير الآخرين، وتدمير المجتمع، وتدمير نفسه، فالعابث يسعى للعبث بعقول الآخرين، هناك بعض الأشخاص يتلبَّسهم الشيطان، وهذا موجود على مرّ التاريخ.

فهناك من يصنع له عقيدة معينة مثل الفِرَق الضالة المنحرفة، فيصنع عقيدته الخاصة، لكي يكون لديه أتباع، وهذه غاية شيطانية وهو يعرف أن ما يقوم به عبث، وأنه كذاب ويعرف بأنه باطل، لكنه متشبث بالعبث، وهذه من أخطر الأشياء الشيطانية التي تتلبس الإنسان، فيبدأ بعملية تضليل الناس ودفعهم نحو الانحراف.

ما بعد الحداثة وتفكيك الماضي

هناك مثال حول قضية العبث الفكري والثقافي والفلسفي، لقد قامت نظرية ما بعد الحداثة على عملية تفكيك الماضي، أو تدميره في كل المجتمعات، وتفكيك كل القيم الإنسانية والأخلاقية والفطرية، وحتى الأعراف الاجتماعية وبناء عالم جديد يصنعون فيه أديانا جديدة، من خلال أفكار جديدة، ويتقمصون فيها دور الإله.

وحين يريد الإنسان أن يأخذ دور الإله فهذا يعني بأنه عابث، لنفترض أنه يمتلك القدرة للعبث بالمجتمعات وبالثقافة والأفكار وصناعة قيم وعقائد وأخلاقيات شاذة جديدة، ولكن لا يمكنه أن يعبث بالنظام الطبيعي فهذا العبث يحمل معه نتائج كارثية، مثل نظرية تحديد السكان لتقليل السكان، حتى تكفيهم موارد الأرض، لكنها نظرية اثبتت فشلها بشكل هائل، لأن المجتمعات التي تم فيها تحديد النسل أصبحت اليوم تعيش الشيخوخة ولا يوجد فيها شباب، ولا أجيال جديدة، فبعض البلاد تعاني من الانقراض والهرم السكاني، فهذه النظرية بمثابة شذوذ وعبث في عملية التفكير، فحين يحاولون ان يبتكروا حلّا لمشكلة معينة ينتج عنها مشكلة أكبر وأعظم، فبعض المجتمعات كاليابان والصين وألمانيا، وبعض الدول الأوربية تعيش هرم سكاني أو شيخوخة سكانية.

العبث الرأسمالي

بعض الدول فتحت الأبواب للمهاجرين لمعالجة هذه المشكلة، فيحاولون أن يجددوا الدماء في اقتصاداتهم، لاحظ عملية العبث في نظرية تحديد النسل، فهي عملية تؤدي إلى تدمير النمو السكاني المتوازن، فإذا أرادوا أن يحافظوا على الموارد عليهم أن يوقفوا العبث الرأسمالي في النظام الاقتصادي العالمي، فالرأسمالية هي التي تؤدي إلى عملية تدمير موارد الأرض، لأن الرأسمالية تفكر فقط بعملية الاستهلاك الضخم الواسع من أجل زيادة أرباح أصحاب الأسهم.

فيمكن تشجيع ثقافة تقليل الاستهلاك وعدم الإسراف، وإيقاف عملية التبذير وتدمير الموارد، فهذا هو الحل الصحيح، وليس وضع الحلول الفاشلة التي تولّد مشاكل أكبر وأعظم.

العابثون المنعزلون

الثاني، العبث من ناحية عدم الفعل أو الترك: وهذا يتجسد في الكثير من الناس المنعزلين، أولئك الذين لا علاقة لهم بأي شيء، سوى حياتهم الخاصة فقط، وهؤلاء فئة كبيرة في المجتمع، لا يحترمون الغايات والمبادئ، وليس له علاقة بأي شيء، فيعيش حياته الخاصة فقط، ويكون منعزلا، يأكل ويشرب ويذهب إلى عمله، وليس لديه أي مشروع للاشتراك الاجتماعي، أو المشاركة الاجتماعية، أو المشاركة في التنمية، والبناء الأخلاقي والتربية الاجتماعية، فليس لديه تفكير من هذا النوع.

هؤلاء متفرجون على ما يجري في العالم، إنهم العابثون بترك الغايات، (إن للإسلام غاية..) فغاية الإسلام هي غاية الواقع، وهي الغاية المنشودة في عملية بناء الواقع، وهو ما نحتاجه لحياة صحيحة وسليمة، فهؤلاء هم العابثون التاركون المنعزلون اللامبالون كما ناقشنا ذلك في موضوع اللامبالاة.

وهؤلاء لهم ملامح وصفات، وأول هذه الملامح التشاؤم، فتجدهم أناسا متشائمين سلبيين، لا يرون أفقا في الحياة، ويشعرون أن نوافذ الحياة مغلقة في وجوههم، ولا يرون حلولا في الإصلاح، ولا يشاركون فيه، ويقولون أن العالم فاسد ولا فائدة فيه، لذلك فإن هؤلاء يؤدون إلى إفساد العالم أكثر، فمن صفات هؤلاء الظلامية وهم السبب بانتشارها في العالم، حيث يرون العالم مظلما، وما بعد العالم مظلما أيضا.

الظلاميون والشعور بالضياع والتيه

فالذي لا توجد لديه غاية، فإنه يرى ما بعد العالم مظلما أيضا، وكل شخص ظلامي ينتمي إلى العالم يزيده ظلامية، ويسلب نور الحياة من هذا العالم، فمن صفات هؤلاء، التشاؤم، اليأس، فهم يائسون من أي تغيير في الحياة، فيسيطر عليهم والشعور بالضياع والتيه، لذلك يصبح هؤلاء الأشخاص مستلَبين ومغتربين، لأنهم لا يمتلكون ثقافة، كالمسلم الظاهري والشكلاني لا توجد لديه ثقافة، فثقافته هي ما يجده في شبكات التواصل الاجتماعي.

لذلك يشعر بالضياع والتيه، ولذلك يعيش هذا الشخص القلق الوجودي، فالإنسان الذي ليس له غاية في الحياة يشعر بهذا النوع من القلق، إن الشاب الذي يجب أن ينهض بحياته اليوم، إذا سألته: ما هي غايتك التي تجعلك تتحرك وتعمل وتبادر؟

فإذا أجابك بأنه لا غاية له ولا يعرف شيئا عن ذلك فسوف تجده يعيش حالة القلق الشديد، ويتساءل ما هو مستقبلي، وماذا أفعل في مستقبلي؟، هؤلاء هم العابثون في الحياة وهم يعيشون هذا القلق الوجودي، فتجدهم مكتئبين وقلقين ومتشائمين، وخائفين على مواردهم المالية وعلى حياتهم، وليس لديهم استقرار نفسي وروحي. فما هي الأسباب التي تؤدي ببعض الأفراد للعيش في حياة اللهو واللعب والعبث؟

التربية العقلانية الإقناعية

إذا تربّت الشخصية تربية مهزوزة، ولا يوجد هدف لهذه التربية، فهذا الشخص سوف يتربى على اللاشيء، نحن نؤكد دائما في بحوثنا، أن التربية يجب أن تبدأ منذ الصغر على المعاني والأهداف والفضائل، فيجب أن يُربّى الإنسان منذ الصغر تربية عقلانية إقناعية تثقيفية توعوية، على التفكير والتطبّع الإسلامي، والتركيز على عملية بناء الغاية في حياته.

فتكون تربيته على الصدق والأمانة والصلاح والوفاء بالعهود، وعدم الغش، ويتربّى على الأفكار الصالحة في الحياة، وعلى التعاون والتشارك الاجتماعي، فأثناء تربيته تتربّى مع الغاية في الحياة، فيصبح هذا الإنسان مستقرّ النفس، سليم الحركة، مدركا لحركيته في الحياة، فلا يتحرك العبث في داخله، بل يحدث هذا في من يوجد فراغ بداخلهم، هذا الفراغ لم يعبَّأ بالقيم الصالحة، وقلبه لم يعبَّأ وإنما تُرِك خاليا، فعبِّئ بالسلبيات.

مثلا هناك طفل يعيش حياته منذ الصغر في المشكلات والأزمات العائلية التي تحدث بين الأب والأم، أو يعيش في المشكلات الاجتماعية، أو مشكلات أخرى، فهذا الإنسان يعيش في أزمة دائما، لأنه تربى على الأزمة، وعلى الفراغ والاختلال، بالطبع هو يستطيع أن يصلح نفسه، وأهم نقطة في هذا الجانب هي أن كل إنسان حتى لو أنه عاش هذه المشكلات، فإنه إذا كان واعيا ومدركا لنفسه وغايته وفهمه وثقافته، يستطيع أن يغيّر نفسه ويصل إلى الغاية التي يريد الوصول إليها.

التخلّص من العبث التشاؤمي

كيف يمكن للإنسان أن يتخلص من العبث التشاؤمي الذي يُسمى بالعدمية، أو العدمية اليائسة التي تتكون عند الإنسان؟، إنّ أهم نقطة هي عليه أن يربي في داخله الحالة الإيجابية، حالة التفاؤل بالحياة، إن المشكلة التي يصنعها العبث في الإنسان أنه يسلب النور من نفسه، ويسلب فاعليته ومبادرته في الحياة.

لذلك يصبح هذا الإنسان جامدا، واقفا، راكزا، ساكنا، غير متحرك بسبب العبث، فإذا تربى الإنسان على العكس من ذلك، أي على التفاؤل، والتوكل على الله سبحانه وتعالى وعلى الحركة، ورؤية الحياة بآفاقها الطيبة، فتصبح لديه غاية في الحياة، هذه الحالة يمكن للإنسان أن يصنعها لنفسه، وعليه أن لا يقول بأن الأبواب كلها مغلقة أمامه، بل الأبواب مفتوحة وأنتَ من تغلقها، فالفرص موجودة ويمكنك أن تستثمرها.

لكن لابد على الإنسان أن يتحرك ويُشعل في داخله جذوة الإيجابية والتوكل على الله سبحانه وتعالى، لأنه سبحانه دائما يعطي النعم للإنسان، ويُنزِل عليه النِعَم لو كان سائرا في طريق الغايات التي وضعها الله سبحانه وتعالى للإنسان.

غاية الإنسان أكبر من نفسه

إن الأفكار العبثية الموجودة عند الإنسان، يتوارثها من خلال المجتمع، ومن العائلة، فالأفكار العبثية التي تخلو من المقاصد والغايات، وتنحفر في الشخصية الخاصة باللهو والمتعة والتمحور على الذات، والعيش المادي، فهذه كلها تؤدي إلى نمو حالة العبثية عند الإنسان، حتى حينما يريد أن يدرس ويعمل ويصل إلى الجامعة، يعمل من أجل ذاته ونفسه، وهذا جيد ولا بأس به، ولكن هذه ليست غايته، لأن غاية الإنسان أكبر من نفسه.

فإذا حبس غايته في نفسه، يصبح ضيقا محدودا، لأن الغاية غاية كونية مشتركة، فلابد للإنسان أن يشارك في هذه الغاية العامة، حتى يستطيع أن يخرج من حالة العبث، كيف يمكن للإنسان أن يدور حول نفسه فقط، كأنه هو الكون؟، لذلك نتمنى على العائلة أن تفهم هذه الأمور وتساعد أفرادها على التخلص من الحالة العبثية اليائسة.

وللبحث تتمة...

* سلسلة حوارات تبث على قناة المرجعية تحت عنوان (جواهر الأفكار)

اضف تعليق


التعليقات

منى كريم حياوي
العراق
موضوع رائع وهادف2023-07-07