q
من الواضح ان الغرب يلعب مع روسيا لعبة غير نزيهة وخطيرة في اوكرانيا، هي لعبة حرب هجينة، وفي هذه الحرب الهجينة ضد روسيا. جاء تجميد احتياطيات النقد الأجنبي الروسي في حسابات البنوك المركزية الغربية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وغيرها من البلدان يؤشر على تطور من شأنه تسريع التفكيك الجاري...

الرئيس الفرنسي ماكرون جاء متأخرا في تحذيره الغرب من محاولة إذلال روسيا، فقد سبقه الى ذلك قبل أيام في منتدى دافوس السياسي المخضرم هنري كيسنجر وقبلهما بقرنين المستشار النمساوي اوتو فون بسمارك، الذي دعا الى التعقل في العلاقة مع روسيا حين قال: إذا سَنحت لك الفرصة لاستثمار ضعف روسيا فلا تتوقع أن تحصل منها على المزايا إلى الأبد، مع الروس، إما أن تلعب بنزاهة أو لا تلعب

من الواضح ان الغرب يلعب مع روسيا لعبة غير نزيهة وخطيرة في اوكرانيا، هي لعبة حرب هجينة، وفي هذه الحرب الهجينة ضد روسيا. جاء تجميد احتياطيات النقد الأجنبي الروسي في حسابات البنوك المركزية الغربية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وغيرها من البلدان يؤشر على تطور من شأنه تسريع التفكيك الجاري للنظام الاقتصادي العالمي القائم على هيمنة الدولار. ذلك واضح من شراسة الحرب، التي تشنها الولايات المتحدة للحفاظ على هيمنتها.

يذكرنا ذلك بماضي الامبراطورية البريطانية، التي لم تتمكن من الحفاظ على موقعها المركزي في العالم لعدة اسباب من بينها تقادم نظامها الاقتصادي الاستعماري، فتم تجاوز ذلك النظام الاقتصادي الاستعماري البريطاني المتداعي لتحل محله خاصة بعد الحرب العالمية الثانية أنظمة اقتصادية هيمن عليها معسكران، المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي لفترة من الزمن إلى أن تربع الدولار على عرشها تاركا لليورو الاوروبي والين الياباني مكانة محدودة في عالم يتحول بتباطؤ نحو نظام اقتصادي عالمي اكثر عدالة، يأخذ بالاعتبار التأثيرات الهائلة على التوازنات الدولية بعد صعود كل من الصين والهند خشبة المسرح في اقتصاد ما بعد ثورة العلوم والمعرفة والتكنولوجيا.

وجاءت العملية العسكرية الروسية الخاصة في الدونباس تفتح الابواب امام توقعات تتصل بمستقبل النظام الاقتصادي والمالي الدولي القائم وتطرح اسئلة مشروعة حول قدرته على الاستمرار في صورته الراهنة. كما جاءت تؤكد ان ما كانت روسيا تتحضر له قد اصبح في حكم المؤكد. ذلك ما أظهره السلوك الأوروبي والأميركي السريع على ازمة الدونباس، التي قدمت الى العلن ما كان مضمرا. فمنذ سنوات ومن أجل تحطيم الاقتصاد وبالتالي الدور الروسي الذي بدا أنه في الطريق الى التمرد على النظام العالمي، الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة جاء رد الفعل على العملية العسكرية الروسية في الدونباس سريعا، يشي بخطة شبه جاهزة لتطويق العملاق الصيني في الوقت المناسب.

وعلى اية حال فإن من يقرأ استراتيجيّة الأمن القومي الأميركي الصادرة في كانون الثاني/ديسمبر 2017 يستطيع أن يتأكَّد من حقيقة ان الولايات المتحدة الاميركية كانت تخطط وتتحين الفرص للدخول على خط الاشتباك مع روسيا في رسالة واضحة بأن الولايات المتحدة سوف تستخدم ما لديها من نفوذ وطاقات للحفاظ على النظام الاقتصادي والمالي الدولي القائم، غير العادل الذي تفرض عليه هيمنتها المطلقة.

فما ان اعلنت روسيا البدء بعمليتها العسكرية الخاصة في اوكرانيا حتى سارعت الولايات المتحدة الاميركية الى تجييش حلفائها خلف المحيطات وليس فقط الاتحاد الاوروبي وحلف الناتو لمحاربة روسيا دون الدخول في صدام عسكري مباشر معها وذلك في مسارين، تمثل الأول بإمداد أوكرانيا بمختلف انواع الاسلحة وبالمعلومات الاستخبارية في الحرب لتكبيد الجيش الروسي خسائر مادية وبشرية فادحة وتمثل الثاني بسلسلة من العقوبات الاقتصادية التجارية والاقتصادية والاستثمارية المتدحرجة على دفعات، لتشمل كذلك الشخصيات القيادية في النظام والحكم والجيش في روسيا الاتحادية، فضلا عن قطاع المصارف، وخصوصاً شبكة ربط النظام النقدي والتحويلات المصرفية عن طريق نظام “سويفت” وبعقوبات أشمل وأوسع كمقاطعة التجارة الخارجية الروسية تصديراً واستيراداً من أجل خنق الاقتصاد الروسي ومقاطعة قطاع الطاقة (النفط والغاز) والبحث عن بدائل لهما من مصادر أخرى ووقف تدفّقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة من هذه وغيرها من الدول إلى روسيا، جنبا الى جنب مع الحصار الإعلامي ووقف بث القنوات الفضائية ووكالة الأنباء الحكومية الروسية وفرض الحصار الجوي المدني والتجاري وإغلاق الأجواء الأوروبية أمام الطائرات المدنية والتجارية الروسية.

واعتقدت الولايات المتحدة ومعها دول الغرب الرأسمالي تحديدا أنها بذلك ستكون قادرة على احتواء التمرد الروسي من خلال ضرب هدفين في وقت واحد، القوة العسكرية والقوة الاقتصادية لروسيا الاتحادية او استنزافهما في الوقت نفسه. يبدو ان الولايات المتحدة ومعها حلفاؤها في الغرب كما في الشمال والشرق قد أخطأت التقدير. فبالعودة الى وضع الاقتصاد الروسي قبل الحرب فإن روسيا كانت تستحوذ على احتياطي مقبول من الذهب والنقد الأجنبي وغير ذلك من أصول موجودة لدى المصرف المركزي الروسي.

فقد سجَّل احتياطي البنك المركزي الروسي عام 2022 حوالى 643.2 مليار دولار ما يعادل نحو 17 شهراً من عائدات الصادرات الروسية. كما عملت روسيا منذ سنوات على تقليص تأثير الدولار على الاقتصاد الروسي، ففي العام 2013، كانت روسيا تبادل 95% من صادراتها إلى البرازيل والهند وجنوب أفريقيا والصين بالدولار، أما في العام 2021، فقد انخفض ذلك الى 10% فقط، كما راكمت، رغم أخطاء وقع فيها البنك المركزي، كمّيات من الذهب تبلغ قيمتها 134.87 مليار دولار، أو 20% من إجمالي الاحتياطيات الروسية، بعد أن كان لديها مليارا دولار فقط من الذهب في العام 1995.

وإلى جانب ذلك بدأت روسيا في خفض حجم استثماراتها في سندات دين الدولة الأميركية من 96 مليار دولار لتصل في آذار 2020 إلى 3,85 مليار دولار. وبالنسبة للدين الخارجي لروسيا تبدو الصورة ايجابية لصالح الاقتصاد الروسي، حيث بلغ عام 2021 نحو 453.7 مليار دولار أميركي، أي أقل من 20% من الناتج المحلي الإجمالي وهي نسبة لا مثيل لها إطلاقا في جميع دول الغرب الرأسمالي. وكانت تلك ترتيبات تستند الى تقديرات بأن المواجهة الاوسع مع الولايات المتحدة والبلدان الغربية قادمة ومسألة وقت بعد تلك العقوبات، التي فرضت على روسيا في أعقاب أحداث جزيرة القرم عام 2014.

ما لم تتحسب له روسيا كانت احتياطياتها في المصارف الغربية وأخطاء وقع فيها البنك المركزي الروسي، الذي أبدى ضعفا أمام سياسة صندوق النقد الدولي للتصحيح الاقتصادي في روسيا ذاتها. فمع بدء العملية العسكرية الروسية في الدونباس أطلقت الولايات المتحدة سلاح العقوبات ضد روسيا وجمدت ما قيمته 630 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي وقوضت بشدة قيمة الروبل، ما أعطاها نقطة انطلاق اعتقدت انها من خلالها سوف تكون قادرة على معاقبة روسيا دون إشراك القوات الأمريكية في الحرب.

وكان لتلك العقوبات أثر واضح في البداية على مكانة الروبل الروسي، وتسببت في هبوط حاد للروبل الروسي بنحو 30% في مقابل الدولار ليصل سعر صرفه بعد أيام قليلة من الحرب إلى 114,33 روبلا للدولار في التعاملات الدولية. ترددت القيادة السياسية الروسية في البداية في أمر احتواء تأثير هذه العقوبات لاعتبارات سياسية وتشابكات كانت قائمة بين البنك المركزي الروسي وصندوق النقد الدولي، ولكنها حسمت موقفها في النتيجة.

ففي محاولة لدعم الروبل، الذي تعرض لضغوط هائلة مقابل العملات الأخرى أعلنت روسيا بيع النفط والغاز الروسي بالعملة المحلية في محاولة للالتفاف على العقوبات المالية الغربية وإجبار دول الغرب على التعامل مع المصرف المركزي الروسي الذي فرضت عليه عقوبات. وكانت تلك الخطوة ضرورية ساعدت على تعزيز سعر صرف الروبل مقابل الدولار وتعويض الخسائر التي تعرض لها روسيا بفعل العقوبات الاقتصادية.

لا شك ان ارتدادات العقوبات الغربية كانت شديدة وقاسية على روسيا الاتحادية في البداية وذلك بفعل نطاقها الواسع وعدد الدول الرأسمالية الغنية المشاركة فيها، وبالتأكيد بفعل أخطاء وقعت فيها مراكز صنع السياسة الاقتصادية والمالية في روسيا الاتحادية.

فقد كانت السياسة النقدية للبنك المركزي الروسي، التي تم تنفيذها بما يتماشى مع سياسات صندوق النقد الدولي على امتداد سنوات في غير صالح الاقتصاد الروسي. فجاءت كوارث تجميد هذا الكم الهائل من احتياطيات النقد الأجنبي وأكثر من تريليون دولار تملكه الأوليغارشية الاقتصادية الروسية تلقي الضوء على أخطاء جسيمة وقعت فيها البلاد، فقد أخطأ صناع القرار في روسيا التقدير في اكثر من مجال في إدارة الشأن الاقتصادي والمالي بالتكيف مع توصيات صندوق النقد الدولي، حين توقف البنك المركزي الروسي مثلا عن شراء الذهب على امتداد أعوام، ما دفع عمال مناجم الذهب الى تصدير كميات من الإنتاج وصلت إلى 500 طن من الذهب. وأصبح الضرر الذي تسببت فيه هذه السياسة واضحا دفع البنك المركزي الروسي من جديد الى شراء الذهب والعودة الى تصحيح سياساته لصالح الاقتصاد الوطني الروسي.

سياسة فرض التعامل على دول الغرب بالروبل الروسي وتصحيح سياسات البنك المركزي الروسي حجما الخسائر الروسية، حتى بدا ان سياسة العقوبات الاقتصادية سياسة عقيمة، أخذت ترتد على الدول الغربية بارتدادات عكسية عبرت عن نفسها بارتفاع في الاسعار وارتفاع في معدلات التضخم. وعلى كل حال فإن سياسة العقوبات سياسة غير فعالة، فهي لم تنجح في اكثر من مكان بدءا من كوبا مرورا بفنزويلا وإيران وصولا الى روسيا الاتحادية، وهي في المجمل يمكنها ان تبطئ التحول في ميزان القوى العالمي ولكن من الشكوك فيه ان تساعد على إدامة الهيمنة الاقتصادية والسياسية الأميركية على القرار الدولي، لأن مثل هذه السياسة لا تقود إلا إلى مزيد من التمرد على القرارات الأميركية الأحادية والى كشف عجز القوة الأميركية ومأزق الإمبريالية الأميركية التي تحارب بشراسة من أجل الاحتفاظ بتربعها على عرش النظام الاقتصادي والمالي العالمي والتحكم بمصيره.

الآن، والعالم يتجه كما هو واضح نحو نظام اقتصادي في طور التشكل يجمع بين فوائد كل من التخطيط المركزي واقتصاد السوق وسيطرة الدولة على البنية التحتية النقدية والمادية كما هو الحال في الصين الشعبية مثلا والى حد ما في الهند وفي روسيا، من المتوقع لهذا النظام الاقتصادي ان يعمل بكفاءة أعلى من النظام المالي العالمي الحالي المرتكز على الدولار.

فبعد تجميد احتياطيات روسيا بالدولار واليورو والجنيه والين، فليس من المنطقي أن تستمر دول ذات سيادة في تكديس احتياطياتها من هذه العملات بل ان من شأن ذلك ان يدفعها الى استبدالها بالعملات الوطنية والذهب. ففي النهاية والمحصلة وفي سياق عملية التحوّل إلى نظام اقتصادي مالي عالمي جديد ستجد الدول حاجة الى إنشاءَ عملة دفع رقمية جديدة من خلال اتفاقية دولية يمكن إصدارها من خلال مجموعة من احتياطيات العملات الخاصة، وفتح المجال لجميع البلدان المهتمة الانضمام إليها. بحيث يكون وزن كل عملة فيها متناسباً مع الناتج المحلي الإجمالي لكل بلد وحصتها في التجارة الدولية وعدد السكان والمساحة الإقليمية لأسواق البلدان المشاركة فيها. ويمكن أن تحتوي سلة العملات على مؤشر أسعار السلع الأساسية المتداولة في البورصة كالذهب والمعادن النفيسة الأخرى، والمعادن الصناعية الرئيسية، والمحروقات، والحبوب، والسكر، والموارد الطبيعية الأخرى.

دول كثيرة يمكن أن تكون شريكا في النظام الجديد الذي يفتح الابواب أمام امتناع عديد الدول عن الوفاء بالتزاماتها بالدولار واليورو والجنيه والين كرد منطقي على قيام الدول الدائنة بنهب احتياطيات النقد الأجنبي لدول كثيرة كلعراق وإيران وفنزويلا وأفغانستان وروسيا والبالغة تريليونات الدولارات. وتبدو الصين الشعبية مؤهلة اكثر من غيرها لقيادة هذا التحول. فالصين لم تكن متعجلة في الدفع نحو هذا التحول فقد كانت تنتظر أن تسقط تفاحة ارخميدس في حديقتها، غير أن الحرب في اوكرانيا، التي تقودها روسيا الاتحادية في مواجهة الحرب الهجينة، التي يشنها الغرب عليها، فتحت لها الطريق أمام ذلك. فالصين في ظل التحديثات الاربعة التي أقرها حزبها الشيوعي الحاكم عام 1978 واستراتيجية الصعود السلمي عام 2003 اخذت تتقدم بمعدلات نمو قياسية تثير مخاوف الولايات المتحدة الاميركية.

يكفي للتدليل على ذلك القاء الضوء على بعض المؤشرات المرعبة بالنسبة للولايات المتحدة الاميركية ومنها نمو الناتج القومي الاجمالي الصيني من 1.66 تريليون عام 2003 الى 14.72 تريليون دولار عام 2020 ونمو الانفاق العسكري من 33 مليارد عام 2003 الى 252 مليارد دولار عام 2020 وزيادة براءات الاختراع من 32 الف عام 2007 الى 361 الفا عام 2019 متجاوزة بكثير مثيلاتها في الولايات المتحدة الاميركية فضلا عن ميزان تجاري عالمي ينمو بسرعة كبيرة لصالح الاقتصاد.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق