q
بدا الحاج محسن أشدّ أسفا من الجميع، حين راح يحكي لنا ما رآه بعينيْه من جرائم تقشعرّ لها الأبدان ويندى لها جبين الإنسانية، كانت لديه حكايات كثيرة وجرائم بشعة بدأت تلتهم الناس في مدينة (تلعفر) منذ عام 2004 صعودا، لكنه بدأ يبكي بحرقة حين أخذ يقصّ لنا حكاية المرأة الحامل...

بدا الحاج محسن أشدّ أسفا من الجميع، حين راح يحكي لنا ما رآه بعينيْه من جرائم تقشعرّ لها الأبدان ويندى لها جبين الإنسانية، كانت لديه حكايات كثيرة وجرائم بشعة بدأت تلتهم الناس في مدينة (تلعفر) منذ عام 2004 صعودا، لكنه بدأ يبكي بحرقة حين أخذ يقصّ لنا حكاية المرأة الحامل، والشاب الذي رافقها إلى الملاذ الخاطئ، وكان الشاب يظن أنه بعمله هذا إنما ينقذ المرأة وجنينها وينقذ نفسه، لكن الموت كان يتربص بهم في المكان الذي ظنهُ ملاذا آمناً لهم، يقول الحاج محسن، بدأت المرأة الحامل تصرخ بصوت مرعب، حين دهمتها نوبات الطلق فجأة، زوجها كان خارج البيت، لا أحد لها سوى شاب في مقتبل العمر، لم يكن قادرا على الذهاب بها إلى المستشفى الحكومي الواقع في القسم الشمالي من مدينتهم (تلعفر)، كان مجرمو القاعدة يصولون ويجولون في القسم الشمالي ويسيطرون عليه بشكل تام، يراقبون الأشخاص الذين يدخلون شمال تلعفر من جنوب المدينة، ولو عثروا على أي شخص من الجنوب (حيث يسكن الشيعة) ينحرونه دون تأخير أو تردد وحتى دون مساءلة، فما أن يكتشفوا أنه من سكان القسم الجنوبي لتلعفر، ويظنوا أنه من المذهب الشيعي، تُنحَر رقبته على الفور، ولهذا قرّر الشاب عدم الذهاب بالمرأة الحامل (زوجة أخيه)، إلى المستشفى الحكومي في شمال المدينة، ومما ضاعف من إصراره على عدم الذهاب باتجاه شمال (تلعفر) ما سمعه من الحاج (محسن)، فقد أخبره بأن الموت يتربص بهم إذا دخلوا القسم الشمالي، حيث يسيطر أفراد القاعدة عليه بالكامل ولديهم جواسيس يتعقبون حركة الشيعة، لذا قرر الشاب تغيير وجهته هو والمرأة الحامل نحو سنجار كي تتم عملية الولادة بسلام، كانت السيارة تسير ببطء فوق الشارع الممتلئ بالتعرجات والحفر الناتجة عن القصف، وكان صراخ المرأة الحامل يعلو تارة وينخفض تارة أخرى، لكن لهاثها السريع كان مسموعاً للجميع، وكانت عيناها محمرَّتان جاحظتان وجفونها ترمش بقلق، قدّم الشاب المرافق لها جرعة ماء، كي تعوضها عمّا فقدتْ من دماء، وما أن تناولت جرعة الماء حتى ضغط السائق على دوّاسة الفرامل (البريك) فجأة، فتوقفت السيارة بصورة مباغتة، كانت هناك مجموعة من الأشخاص المسلحين قطعوا الشارع ونصبوا سيطرة غادرة، كانت أشكالهم تثير الرعب في نفوس من يراهم، اقتربوا بسرعة من السائق، كلّموه بخشونة ونبرة تهديد قوية، وأخذوا منه أوراق سيارته، قرأوا الهويات الشخصية للركاب، ومن دون تردد أو تأخير، أنزلوا المرأة الحامل والشاب وطلبوا من السائق وركابهُ المغادرة فوراً.

فرّت السيارة هاربة وأثارت وراءها موجة من الغبار الكثيف، كانت المرأة الحامل تئنّ بشدة ثم تصرخ بقوة وتستنجد بالشاب الذي بدأ الدم يسيل من فمه وأنفه، لقد لكموه وركلوه بلا رحمة ودونما سبب، ربطوا ذراعية بحبل متين خلف ظهره، وأمام المرأة جعلوه يركع على ركبتيه، ثم سدّد له أحدهم سلاحهُ الرشاش نحو رأسه، حاولت المرأة الحامل تخليصهُ، رجتهم بالله وأقسمت عليهم بالقرآن أنْ يفكّوا وثاقه، لكنهم كانوا صمّاً بكْماً كما الأصنام البكماء، وفي لحظات غادرة، انطلقت رشقة رصاص هائلة هشمت رأس الشاب، وانفتحت نافورة دم قوية من رأسه، سقط جسده ليس بعيدا عن المرأة التي واصلت صراخها المستغيث دون جدوى، وفي لحظات بدأ أحد المجرمين بفتح غطاء قنينة ممتلئة بالبنزين، سكبه برعونة وتوحّش فوق رأس المرأة الحامل التي انطفأَ صوتُها وتحول إلى مواء مكبوت، كأنها فقدت القدرة على الكلام بالكامل، كانت عيناها تفوران بالدموع والدماء حين بدأ الشخص المرعب بسكب سائل البنزين على رأسها، ملأ البنزين حجابها، ونزل على عباءتها السوداء وثيابها، برز بطنها بشدة حين سقط عليه البنزين، حتى كاد الطفل يصرخ وهو في رحم أمه، تبلّل جسدها كله بالوقود سريع الاشتعال، في هذه اللحظة أوقد أحدهم عود ثقاب، وبلا أدنى ذرة من الإنسانية والرحمة، رماه على جسد المرأة، فتحوّل ذلك الجسد (الأم)، في لحظات إلى كتلة من نار هائجة تعالتْ منها ألسنة اللهب واختلطت بصراخ هائل مكبوت وساخط، كان جسد المرأة المقهور يتلوى ونوبات الطلق والصراخ تصل إلى عنان السماء، ثلاثة أرواح أزهقت في لحظات قلائل، الشاب الذي قُتل بالرصاص غدرا وغيلة، والمرأة التي أُحرِق جسدها البريء، والأبشع من هذا كله، الجنين الذي شوتهُ النيران قبل دقائق من رؤيته للحياة، لا أحد يعرف ما هو الذنب الذي ارتكبه الثلاثة، الشاب والأم وجنينها، سوى أنهم يعتقدون بالمذهب الشيعي، وهو حق كفله لهم شرع الله والقانون الوضعي البشري واللوائح الحقوقية في عموم العالم، همدت النيران كما يقول الحاج محسن، لكن نيران القلوب لم تخفت حتى هذه اللحظة، فالقصاص يجب أن يطال المجرمين القتلة ولو بعد حين.

• الحادثة وقعت قبل أكثر من عقد من السنوات رواها الحاج محسن

اضف تعليق