q
كان العالم يتخوف من سياسات إدارة دونالد ترامب تجاه خصوم وأصدقاء أميركا، ومن التأزم مع الصين، ومن التصعيد الخطير ضد إيران، ومن تبني سياسة نتنياهو المتطرفة في كل منطقة الشرق الأوسط، لكن لم يشهد العالم في السابق هذه النسبة من التصعيد الأميركي ضد روسيا حتى في أوج الحرب الباردة...

أثار الرئيس الأميركي جو بايدن ضجة واسعة بقوله أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "لا يمكنه البقاء في السلطة"، حيث اوحى ذلك القول بأن بايدن يدعو إلى تغييرٍ جذريٍ في السياسة الأميركية تجاه روسيا وبأنه يُحرضّ على تغيير النظام فيها. وقد حاول بيدن لاحقاً التخفيف من أثر هذا التصريح الخطير، لكن هذا الأمر أظهر ما هو مُبطّن الآن من سياسة أميركية تريد فعلاً الإطاحة بالرئيس بوتين وتحقيق الإنهيار الثاني لروسيا الإتحادية بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي الذي كانت تقوده روسيا لحوالي نصف قرنٍ من الزمن.

هذه السياسة للإدارة الأميركية الحالية تدفع العالم كلّه نحو مخاطر أمنية وسياسية وإقتصادية لا تحمد عقباها. طبعاً، لا يبرر ذلك ما قامت به روسيا من غزو عسكري لدولة مجاورة لها، لكن ما كان لهذا الغزو أن يحدث لولا سعي الولايات المتحدة المتواصل لضم دول أوروبا الشرقية المجاورة لروسيا إلى "حلف الناتو" الذي هو بالأساس موجهاً ضد روسيا ولم ينتهِ وجوده ودوره مع إنهيار الإتحاد السوفياتي وزوال "حلف وارسو".

كان العالم يتخوف كثيراً من سياسات إدارة دونالد ترامب تجاه خصوم وأصدقاء أميركا، ومن التأزم في علاقات الإدارة السابقة مع الصين، ومن التصعيد الخطير ضد إيران، ومن تبني سياسة نتنياهو الإسرائيلية المتطرفة في كل منطقة الشرق الأوسط، لكن لم يشهد العالم في السابق هذه النسبة من التصعيد الأميركي ضد روسيا حتى في أوج "الحرب الباردة" بين المعسكرين الشرقي والغربي في القرن الماضي. فالعالم كلّه الآن يعيش هاجس حرب عالمية ثالثة واستخدام للسلاح النووي ممّا يهدد الكرة الأرضية بأسرها.

حتى في قضايا منطقة "الشرق الأوسط" لا نجد أي تغيير فعلي قد حدث حتى الآن على السياسة الأميركية التي كانت معتمدة في إدارة ترامب. فالقضية الفلسطينية مازالت تراوح مكانها وهي مُهمّشة أميركياَ الآن ولم تتراجع إدارة بيدن عن اعتراف ترامب بالقدس كعاصمة لإسرائيل ولا عن اعتبار الجولان كجزء من الأراضي الإسرائيلية، ولا تجرأت الإدارة الحالية حتى على فتح قنصلية أميركية في القدس الشرقية أو الضغط على إسرائيل لوقف الإستيطان في الأراضي المحتلة.

المتغير الوحيد كان في إعادة تمويل السلطة الفلسطينية ومؤسسات تهتم بشؤون اللاجئين الفلسطينيين، وكأن الأمر أشبه بشراء الصمت الرسمي الفلسطيني والعربي على ماهو قد حصل في ظل الإدارة السابقة من اعطاء إسرائيل ما لم تأخذه من أي إدارة أميركية سابقة من تكريس للاستيطان واحتلال لكامل المدينة المقدسة ولمرتفعات الجولان السورية، ومن فرض التطبيع العربي مع إسرائيل.

وها هو وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن يُصرّح في مؤتمر صحفي يوم الأحد الماضي مع نظيره الإسرائيلي بأنّ "التطبيع مع إسرائيل أصبح طبيعياً ونعمل على ضمّ المزيد من الدول لاتفاقات ابراهام"!. وللأسف، فإنّ القاهرة التي لم تكن تُشجّع في السابق على التطبيع مع إسرائيل ولم تستقبل رئيساً للحكومة الإسرائيلية لأكثر من 10 سنوات، أصبحت حكومتها تفعل ذلك مؤخراً، ربما فقط لنيل رضى "البيت الأبيض" والكونغرس بعد الانتقادات العديدة، التي رافقت مجيء إدارة بيدن، لسياسات الحكومة المصرية في مسائل حقوق الإنسان داخل مصر.

أيضاً، كانت إدارة دونالد ترامب تفاخر بأنّها منحت وزارة الدفاع (البنتاغون) أعلى ميزانية في تاريخ أميركا، وهاهي إدارة بيدن تزيد مليارات الدولارات على ما كان في ميزانية البنتاغون خلال الإدارة السابقة. كذلك، لم تختلف الإدارة الحالية كثيراً في سياستها تجاه المهاجرين لأميركا عموماً، وخاصة للقادمين إليها عبر حدودها الجنوبية مع المكسيك.

ما سبق ذكره، يؤكد حقيقة أنّ السياسات الأميركية لا يصنعها فقط من هم يصلون للرئاسة الأميركية، وبأنّ الولايات المتحدة هي فعلاً "دولة مؤسسات" لكن لا أقصد هنا المؤسسات الدستورية بل "المؤسسات" العسكرية والاستخبارية والمالية والإقتصادية، وما خلفها من مصانع وشركات ومصالح كبرى، وما يمثّلها من قوى ضغط (لوبي) تسيطر على الكثيرين من أعضاء الكونغرس وعلى القادة التقليديين للحزبين "الجمهوري" و"الديمقراطي".

ألم يكن المرشح النزيه بيرني ساندرز هو في مقدمة وطليعة المرشحين الديمقراطيين للرئاسة في العام 2020، ثمّ بقدرة قادر جرى اختيار جو بيدن كمرشح أول للحزب الديمقراطي!! مع تهميش كبير لدور ساندرز لأنه لا يوافق على دور "المؤسسات" في السياستين الداخلية والخارجية، ولأنه، وهو الأميركي اليهودي، ضد "اللوبي الإسرائيلي" وضد تعزيز الميزانية العسكرية لأميركا على حساب احتياجات المواطن الأميركي ولا يدعم حروب اميركا الخارجية.

بيرني ساندرز قال كلمة حق في جلسة لمجلس الشيوخ الأميركي حينما بدأت الحرب في أوكرانيا حيث أكّد على مخاطر سياسة "الناتو" ضد روسيا، لكن كلمته كانت صرخة في وادٍ عميق ولم تترك أي صدى عند صُنّاع القرار الأميركي، فتوقف هو أيضاً عن الصراخ!!

وكما يُقال في بعض الأوطان العربية: "الله يرحم أيامك" يا ترامب" فقد كنت حاكماً سيئاً لكن في أيامك توحد الفلسطينيون ضد سياستك، وأجمع معظم العرب والعالم على سوء إدارتك، واختلف معك أصدقاء أميركا وخصومها، وكنت فجاً غليظاً لكن صريحاً في موافقك، وانطبق عليك وعلى من جاء بعدك، ما قيل من رواية في التراث العربي عن الحاكم الظالم الذي وجد من يدعو له بطيلة العمر، فلما سأل: لماذا وانا اظلم الناس؟، فقيل له أنّ والدك كان حاكماً ظالماً لكنك أنت أشد ظلماً للناس منه ونخاف أن يأتي ولدك بعدك ويكون أكثر ظلماً منك.

كم هو أيضاً كذلك حال العديد ممن حكموا ويحكمون أوطاناً عربية!

* مدير مركز الحوار العربي في واشنطن

اضف تعليق