q
ان السماح بعودة الطغيان والديكتاتورية وانتشار مقبولية المستبد العادل لا يمكن ان يضمن تحقيق التنمية والتطور واشـباع الحاجات المادية، فلطالما حُكمت شعوب العالم بالطغاة والمستبدين الذين زادوا الناس عبوديةً وأشبعوهم فقراً. وهنا مكمن الخطورة في مدخل المستبد العادل، لأن الاستبداد نقيض العدالة فكيف لمستبدٍ ان يكون عادلاً الا في توزيع الظلم على الناس...

انتهينا في الحلقة السابقة الى أثبات أن هناك انقلاب حصل، وما زال يحصل، في توجهات العراقيين نحو الديموقراطية والأيمان بها. لعل ذلك يبدو طبيعياً جداً في ظل فشل النخبة السياسية في العراق في تطوير أنموذج للديموقراطية يضمن القيم الاساسية التي يحتاجها أي مجتمع والمتمثلة بما يعرف بقيم البقاء survival values أو القيم المادية materialistic التي تقع في مقدمة سلم الحاجات للإنسان كالأمن الجسدي والاقتصادي والنفسي.

لقد عانى المجتمع العراقي لفترات طويلة من القلق الأمني سواء بسبب كثرة الحروب، أو فشل الدولة في احتكار العنف، أو الفساد والتقلبات الاقتصادية الخطيرة التي عانى منها العراق وأدت لتدهور الخدمات الأساسية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة بشكل كبير.

هذا الفشل في اشباع حاجات البقاء (الحاجات المادية) لدى الانسان العراقي جعل من الحاجات الاكثر تطوراً والتي يسميها علماء الاجتماع بقيم تحقيق الذات self-expression مثل الحرية والديموقراطية، حاجات ثانوية او مؤجلة بالنسبة للعراقيين. والحق فأن العراقيين ليسوا بدعاً من البشر، فقد أشارت كل الدراسات ان المجتمعات التي تقع في أسفل سلم التنمية وتتميز بقيم تقليدية محافظة غالباً ما تؤجل حاجات تحقيق الذات وتركز على اشباع حاجات البقاء أو القيم المادية.

في عام 2020 سألنا العراقيين عن ايهما أكثر أهميةً لهم، الحرية أم المساواة فأجاب 38% منهم تقريباً بأن الحرية أهم في حين أجاب حوالي 61% بأن المساواة أهم من الحرية.

توزيع عادل

والمساواة هنا تعبر عن التوزيع العادل للثروة والموارد والخدمات وعدم استئثار القلة بها. ثم سألناهم سؤالاً عن الأمن مقارنة بالحرية فأجاب 10% فقط أنهم يفضلون الحرية على الأمن، في حين فضل 89% منهم الامن على الحرية.

أذا قارنا هذه الاجابات بدولة متقدمة مثل أميركا فنجد النتائج معكوسة أذ يفضل 80% من الأميركان الحرية على المساواة في حين يفضل 70% منهم الحرية على الامن. ان الامن والمساواة متحققَين هناك الى درجة تجعل الناس يفكرون باشباع حاجات تبدو لهم أهم وهي الحرية والديموقراطية.

والواقع ان شعوب معظم الدول النامية مثل العراق يريدون اولا تحقيق الامن ثم يفكروا بالحرية او الديموقراطية، في حين ان مواطني الدول المتقدمة أقل قلقاً بخصوص أمنهم الجسدي أو الاقتصادي أو النفسي لذا فان من المهم لهم تحقيق الذات من خلال أعلاء قيم الحرية.

هذه الحقائق تفسر لنا سبب رواج مفهوم المستبد العادل في دولنا التي لم يتم فيها اشباع حاجات البقاء أو الحاجات المادية، على الرغم من ان الافتراض ان الحرية أو الديموقراطية لا تحقق الامن المادي هو افتراض غير صحيح دوماً. أن التبشير والترحيب بالحاكم المستبد (العادل) واضح في اتجاهات العراقيين التي تم قياسها في مشروع مسح القيم العالمي.

فعلى الرغم من المعاناة الطويلة للعراقيين من القائد القوي المستبد فأن الارقام تشير الى تنامي مقلق في تفضيل العراقيين للقوة على أية صفة قيادية أخرى.

ففي عام 2004 كان 17% فقط من العراقيين يقولون ان وجود قائد قوي هو أمر جيد في حين ان أكثر من 70% لا يرحبون بقائد قوي. أما في عام 2014 فقد ارتفعت نسبة من يريدون قائد قوي الى 35% ثم قفزت بعد 5 سنين ليصبح ثلثا العراقيين يريدون قائد قوي في مقابل أقل من الثلث (أغلبيتهم في كردستان) يعتقدون ان وجود قائد قوي هو أمر سيء.

من جانب آخر ففي الوقت الذي لم تزد فيه نسبة العراقيين الذين يريدون حكم العسكر عن 14% في عام 2004 قفزت الى 23% في عام 2014 ثم وصلت الى نصف العراقيين في عام 2019 مقابل اقل من النصف بقليل ممن لا يريدون حكم العسكر.

واضح أذاً أن فشل الانموذج (الديموقراطي) الذي بشر الاحتلال به العراقيين عام 2003 أدى الى نكوص شديد في تأييد قيم الحرية والديموقراطية، وحنين شديد لعودة الدكتاتورية أو أشكال الحكم التي تتناقض مع الديموقراطية.

أكرر مرة أخرى أن ايماني المطلق بكون الديموقراطية هي الشكل الامثل للحكم لا ينفي تفهمي للأسباب التي ادت الى هذا التراجع الكبير في قيم الحرية. ومع أني أؤمن بقول الفيلسوف الفرنسي (ليس هناك مكان في العالم أئمن من السجن) لكني أؤمن ايضاً ان الجوع أشد كفراً من العبودية. لذا وكحال معظم الدول النامية لا يمكن للعراق ان يصل للديموقراطية والحرية التي ننشدها جميعاً الا عبر طريق طويل من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تشبع الحاجات المادية للإنسان وتجعله آمن على ماله وعياله، وحينها سيفكر بالحرية والديموقراطية كقيم تتفوق في أهميتها على الاخريات.

مع ذلك ينبغي التنبيه ان السماح بعودة الطغيان والديكتاتورية وانتشار مقبولية المستبد العادل لا يمكن ان يضمن تحقيق التنمية والتطور واشـباع الحاجات المادية، فلطالما حُكمت شعوب العالم بالطغاة والمستبدين الذين زادوا الناس عبوديةً وأشبعوهم فقراً. وهنا مكمن الخطورة في مدخل المستبد العادل، لأن الاستبداد نقيض العدالة فكيف لمستبدٍ ان يكون عادلاً الا في توزيع الظلم على الناس.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق