q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

بؤس القطيعة وحسن التواصل

اللامبالاة وباء العصر (7)

فالتواصل الحسن في العلاقات الأسرية والاجتماعية فن له قواعده، ولا يستطيع الإنسان أن يتقنها إلا إذا حاسب نفسه أولا، وينتقد ذاته حتى يستطيع أن يعكس ما تدرّب عليه مع أسرته، وبالتالي مع مجتمعه، بحيث يستطيع أن يراكم اللبنات في العلاقة مع الناس التي تشبه عملية بناء التواصل الناجح...

 (إن أوصل الناس من وصل من قطعه)
 الإمام الحسين (ع)

بقدر تفشي هذه الظاهرة الاجتماعية، أصبح الاعتقاد السائد يميل إلى اعتبارها سمة من سمات الحياة الراهنة. فما هي العلاقة بين اللامبالاة وترك التواصل الواقعي، بعد أن أصبح التواصل إلكترونيا أو افتراضيا؟

إن الإنسان الذي يعيش في وسط اجتماعي لابد أنه يحتاج لهذا الوسط، ولكن هناك علاقات اجتماعية بين أفراد المجتمع تحتاج إلى ضوابط ترتب عملية الارتباط والعلاقات الاجتماعية، وهذه الضوابط عبارة عن أنظمة سلوكية تسمى الأخلاق، وهي تجعل المجتمع ناجحا متمكنا ومتماسكا، أما إذا لم تكن هناك قيم أخلاقية أساسية تضبط السلوك الاجتماعي، يصبح المجتمع منفرطا ومتفككا، وسوف تتحلل هذه السلوكيات والأخلاقيات نتيجة للمشوشات المادية، وتسلط التكنولوجيا وهيمنة التواصل الافتراضي على المجتمع.

لماذا يحدث فقدان التواصل؟

من النتائج التي تمخّضت عن اللامبالاة فقدان التواصل بين أفراد المجتمع، وهذا الفقدان يحدث عبر طريقتين: أما بطريقة الترك، أي ترك الآخرين والانعزال والعيش المنفرد، أو بطريقة التقاطع مع المجتمع بسبب نظرته الضيقة ومصالحه الخاصة، وكل هذا الجفاء الاجتماعي يؤدي إلى عملية موت الأخلاق وتفكك المجتمع، وهذه تعد من أسوأ النتائج التي يتعرض لها أي مجتمع كان، لاسيما المجتمعات التي تتطور ماديا فقط، وتنتكس معنويا.

هناك من يظن أن التواصل والتبادل الاجتماعي ينحصر في شكله المادي بل هو بشكل أكبر معنوي أيضا، فالتواصل الاجتماعي يأتي في مراتب، يبدأ من الحلقة الأصغر إلى الحلقة الأكبر، الحلقة الأصغر هي الأسرة والتواصل داخلها يعني الانسجام والتعايش والتوافق، والتفاهم الجيد بين الزوج والزوجة، وبين الأبوين وأبنائهما، هذا النوع من التواصل يجعل الأسرة متماسكة في بناء لبيت سعيد، بعد ذلك ينتقل التواصل إلى دائرة أكبر من الاقارب والعشيرة ثم إلى الجماعات والمجتمع.

فالعلاقات الاجتماعية الفاعلة قائمة على حسن التواصل، من تواصل الدوائر الصغيرة، كالأسرة والعشيرة ثم الى الدوائر الأكبر في الأحياء والمدن، فكلما يزداد التواصل العام يزداد تماسك هذه الدوائر ويزداد المجتمع قوة، ومع فقدان المجتمع القدرة على التواصل، سوف تنفرط الدوائر ويتفكك المجتمع.

هناك جانبان تركّز عليهما الأحاديث الشريفة بخصوص أهمية صلة الرحم، الجانب الأول: أنها تزيد الأعمار. أما الجانب الثاني فإنها تزيد الأرزاق وتعمّر الديار، لأن صلة الأرحام تؤدي إلى التواصل وإلى التماسك وقوة المجتمع وإعماره، وزيادة صحة الإنسان وتحسّن نفسيته وصحته العقلية والذهنية والجسدية، لأن المجتمع الذي ليس فيه تواصل، هذا يعني خلوِّه من الضوابط لكيفية التعامل المتبادَل، وهذا يؤدي بدوره إلى صراعات مستمرة، فيكون المجتمع متصادما مستنزَفا، وهذا الاستنزاف يؤدي بالنتيجة إلى تدمير الإنسان داخليا معنويا نفسيا وجسديا أيضا، بل حتى بل حتى الأعمال والأموال تقلّ وتتناقص بغياب التفاهم والتعايش والثقة.

فعن الإمام محمد الباقر (عليه السلام): (صلة الأرحام تزكي الأعمال وتنمي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسر الحساب وتنسئ في الأجل).

المبادرة بالتواصل

نلاحظ أن بعض البلدان التي تمتلك أكبر الثروات والموارد والأراضي، انها تعيش تحت خط الفقر والموت والجوع!!، والسبب القطيعة والتقاطع الدائم الذي يتسبب بكثرة الحروب والصدامات داخل هذه البلدان واستنزافها لكل مقدرات معيشتها، على العكس من ذلك، يؤدي التواصل والصلة إلى إعمار ونمو البلاد وبالنتيجة ترتقي وتتطور.

وكما ذكرنا جاء في الحديث الشريف رسول الله (صلى الله عليه وآله): (عليكم بمكارم الأخلاق، فإن الله بعثني بها، وإن من مكارم الأخلاق أن يعفو الرجل عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، وأن يعود من لا يعوده). بمعنى على الإنسان أن يكون هو المبادر والسبّاق دائما، فإذا أصبح كل فرد في المجتمع مبادرا مهتما مباليا ملتزما ومسؤولا، فكل هذا سوف يؤدي إلى التواصل الجيد فيما بين الأفراد والمجتمع.

وعن الإمام الحسين (عليه السلام): (إن أوصل الناس من وصل من قطعه)، الوصول في اللغة هو بلوغ الشيء، أي الوصول إليه، لذلك فإن التواصل هو البلوغ والوصول المتبادَل بين الأفراد، وهذا يعني أن أوصل الناس هو أكثرهم نجاحا في تحقيق أهدافه، فالإنسان الذي يصل من قطعه هو إنسان ناجح، وهو الذي يرتقي الى القمة.

القائد واحتواء الصراعات

من أهم عناصر القيادة الناجحة، أن يكون القائد قادرا على احتواء الأفراد جميعا دون استثناء، فيسعى هكذا قائد إلى احتواء الصراعات والصدامات دائما ويحقق التعاون والمحبة والتآلف فيما بين الأفراد، ويكون المثال الأعلى والنموذج الصالح لهم، فالقائد الصالح هو الذي تكون لديه قدرة على التواصل الفعال مع الأفراد، والتواصل يعني أن يتحمّل ويصبر ويحاول أن يجمع شمل الافراد دون استثناء.

فالنجاح يعتمد على حسن التواصل مع الآخرين، مع من لم يقطعك، لكن الاختبار الأكبر والأشد للإنسان أن يكون قادرا على التواصل مع من قطعه.

ضياع الاعمار

عن الإمام الصادق (عليه السلام): (صلة الرحم وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الاعمار)، فالصراعات العائلية الشديدة مثلا تنتج دائما من عوامل متعددة، كالخلاف والصراع على المال والإرث، فهذا الأمر يؤدي إلى القطيعة نتيجة للجهل والإيمان والورع، فيؤدي ذلك إلى خلافات شديدة، وتتعرض العائلات إلى التدمير بسبب الحروب العائلية طويلة الأمد حتى بين الأجيال اللاحقة، فيستنزف الإنسان حياته في مثل هذه الصرعات ولا يتنبّه إلى عمرهِ القصير.

لكن العاقل الفاهم الحكيم هو الذي يستثمر كل لحظة من لحظات حياته استثمارا قيّما كبيرا، يتناسب مع قيمة العمر، فهذا الإنسان الذي يضيّع عمره في القطيعة والحروب والصدامات، هو إنسان غير حكيم ولا أريد أن أصفه بصفة أخرى، والسؤال هنا، كيف يمكن لك ان تضيّع هذه اللحظات الجميلة من حياتك.

لاتحاسب الآخرين على التفاصيل الصغيرة

عن الإمام علي (عليه السلام): (إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة، فلا تبيعوها إلا بها)، فكيف يخسر الإنسان حياته في الصراعات والقطيعة والصدامات والغضب على كل شيء، والخوض في التفاصيل الصغيرة ومحاسبة الآخرين عليها.

أحيانا من أسباب انقطاع التواصل، هو محاسبة الإنسان للآخرين على التفاصيل الصغيرة، دون ان يسلك الطريق الآمن وهو العفو والغفران. فالتواصل الحسن في العلاقات الأسرية والاجتماعية فن له قواعده، ولا يستطيع الإنسان أن يتقنها إلا إذا حاسب نفسه أولا، وينتقد ذاته حتى يستطيع أن يعكس ما تدرّب عليه مع أسرته، وبالتالي مع مجتمعه، بحيث يستطيع أن يراكم اللبنات في العلاقة مع الناس التي تشبه عملية بناء التواصل الناجح، كالاحترام والتقدير والمحبة، وعندما تكون هذه اللبنات منسقة ومرتّبة وجميلة، فإنها تنتج علاقات جيدة مع الآخرين، ربما هناك كلمات بسيطة يتفوّه بها الشخص يكون لها أثر ووقع كبير على المقابل، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الكلمة الطيبة صدقة عنه)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (صدقة يحبها الله: إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا).

ولكن ماذا لو انزوى الإنسان بعيدا عن المجتمع وعن أصدقائه وعلاقاته واختار طريق القطيعة او التقاطع، أو تعامل مع العلاقات السطحية فقط؟ حينئذ يمكن أن نسمي هذا السلوك بالتدمير الذاتي، فالإنسان يتصور أنه بانعزاله هذا وعدم تواصله مع الآخرين يستطيع أن ينجو بنفسه، ولكن لا يحصل ذلك، بل هو يقوم بعملية تدمير ذاتي لنفسه، وسنبحث هذا في النتائج النفسية.

برمجة الذات على التواصل

هناك نقطة أساسية وهي كيف يستطيع الإنسان أن يبني حالة التواصل مع الآخرين في نفسه؟

هذه النقطة مهمة جدا وتسمى الآن في المصطلحات الثقافية الرائجة (برمجة الذات)، وفي الأحاديث الشريفة بمعنى ترويض النفس كما قال الإمام علي (عليه السلام): (إنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق)، فكل فكرة موجودة في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، إذا أخذها الإنسان وبرمجها في نفسه وفي فكره وزرعها في داخله، وعمل بها، فإنه ينجو، فليحاول أن يبرمج أفكار أهل البيت (ع) ويضعها في ذهنه وفكره ويصمّم على العمل بها لتكون برنامجا لبناء شخصيته بشكل سليم.

عندها سنلاحظ تطور هذا الإنسان تطورا مذهلا ينعكس على أسرته أولا، وعلى مجتمعه ويكون نموذجا صالحا في الحياة، وهذه ليست مهمة صعبة، فالإصلاح لا يعني اقتلاع كل شيء، وإنما هو برمجة ذاتية للنفس من أجل تغيير الجينات الثقافية التي تشكل طريقة تفكيرنا وسلوكياتنا، فكما لدينا جينات وراثية تحدد لون العين أو البشرة أو لون الشعر أو طول الإنسان، كذلك توجد أيضا جينات ثقافية ومعرفية، لكن الفرق بين النوعين من الجينات، أن الجينات المعرفية قابلة للتغيير، أي يستطيع الإنسان أن يغيّرها.

فمثلا يمكنه أن يعلّم نفسه السيطرة على الغضب ويكون هادئا، وبدلا من أن يكون مقاطعا يستطيع أن يغيّر ذلك إلى برمجة اكتسابية جيدة وهي التواصل، ويمكن ذلك من خلال التدريب الذاتي المستمر، كما يربي الإنسان عضلات جسمه، فكلما تنمو القيم الجيدة في داخل الإنسان وتنمو البرمجة الثقافية المعرفية في داخله، فسوف يتطور بشكل مستمر، لذلك نلاحظ أن الإمام علي (ع) يقول كما ذكرنا سابقا (أن يعفو الرجل عمن ظلمه، ويعطي من حرمه)، بمعني يبرمج نفسه على التواصل المستمر.

في بعض الأحيان يبرر أحدهم عزلته وعدم تواصله بادّعاء أن الآخر هو الذي قاطعه، فكيف أسلّم عليه أو أحيّيه، لكن لنتصور الموقف حين يبادر الإنسان ويذهب إلى مَنْ قاطعه ويسلّم عليه ويقبّلهُ، ماذا سيحصل لمشاعر الشخص المقابل، سوف تنهار جميع السلبيات وتسقط كل المساوئ بسبب تلك المبادرة وذلك الموقف، ويسمو ويعلو الإنسان بنفسه، لأنه بادر للقيام بهذا الموقف، فارتقى إلى درجة أعلى، والشخص المقابل أيضا سوف يتعلم درسا كبيرا بعد أن انتقلت المعرفة إليه بحسن التواصل، وسوف يتعلم تطبيق التواصل مع من قاطعهم، فالبرمجة الذاتية الواعية للسلوك التواصلي تؤدي الى بناء حالة المسؤولية والالتزام والانضباط، أما الانعزال واللامبالاة فليس لها القدرة على حلّ المشاكل، بل تتسبب بها، وبالأمراض الاجتماعية المعقدة، لذلك تؤدي القطيعة تدريجيا إلى حروب وصدامات ومشاكل متزايدة لا حصر لها.

لذلك فالإنسان الذي لا يبرمج نفسه على القيم الأخلاقية الصالحة، فإنه بالنتيجة سوف يمتلئ بالإسقاطات والتداعيات السيئة، ولو أننا نلاحظ اليوم وجود نوع من حالة التوحش وعدم احترام الآخر وحقوقه، وعدم احترام النظام والقوانين، وقلة الانضباط وعدم مراعاة الجار وقطيعة الأرحام، كل هذه الأمور إذا لم يبرمج الإنسان نفسه عليها، سوف تتراكم السيئات في داخله، تماما كالإنسان الذي لا يصرف أمواله في الحلال، فإنه سوف يصرفها في الحرام.

امتلاء النفس بالسيئات

الإنسان الذي لا يحاسب نفسه، تصبح نفسه سيئة إذا لم يملأها بالأعمال الخيرة، لذلك فإن نسيان الناس للعادات والسلوكيات الجيدة تؤدي الى امتلاء النفس بالانطباعات السيئة عن الآخرين، والتصورات النمطية عنهم، فينظر إلى الآخر كأنه جحيم بالنسبة له، كل هذا سوف يؤدي تراكم السيئات في داخل الإنسان.

وجاء عنه (صلى الله عليه وآله): (صلوا أرحامكم ولو بالسلام)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (صل رحمك ولو بشربة من ماء وأفضل ما يوصل به الرحم كف الأذى عنها)، فتراكم الخير في الانسان يبدأ بخطوات وإن كان مقدار هذا التواصل قليلا، لكن لابد للإنسان أن يسعى إلى تنمية التواصل، إلى حد أن يصل إلى التعاون، فمن الجيد وجود مجاملات اجتماعية كالذهاب إلى الفواتح والأعراس والاحتفالات وتقديم التهاني وإرسال الرسائل، لكن لابد من تنمية التواصل تنمية متطورة متواصلة إلى حد أن يصل إلى التعاون.

الاعتصام بحبل الله تعالى

كذلك التعاون في بناء المنظومة الأخلاقية لأبنائنا، والتعاون في إعمار بلادنا، وفي حماية حقوق الإنسان، وحماية المكاسب الاجتماعية والتجارة والأرزاق وحماية الأعمار: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) المائدة: آية 2. لأن الإنسان الذي لا يتعاون على البِّر والتقوى سوف يتعاون على الإثم والعدوان، وهذه نتيجة طبيعية لهذا النوع من التضادّ، فأما يفعل هذا الشيء أو يفعل نقيضه، والدخول في النفق المظلم للآثام سوف يؤدي إلى تدمير الإنسان.

لذلك لابد أن يتطور التواصل ويتحول إلى تعاون، والأخير هو الذي يعالج جميع المشكلات الاجتماعية، والصدامات والصراعات، علما أن التواصل في حدّه الأدنى يخفف من الصدامات والنزاعات لكنه يحتاج إلى تطوير مستمر لبلوغ درجة التعاون، وفقا للآية الكريمة (واعتصموا بحبل الله جميعا)، فالتعاون يؤدي إلى الاعتصام بحبل الله سبحانه وتعالى، والاعتصام يعني قوة للمجتمع. ومع الأسف فان العالم اليوم يعيش مشاكل كبيرة تؤدي إلى كوارث هائلة بسبب عدم التعاون والالتصاق بالمصالح الخاصة.

العيش في عالم الأوهام

هناك مشكلة موجودة لدى بعض الناس بسبب عيشهم في عالم الأوهام، حيث تتشكل في أذهانهم صور ذهنية خاطئة تجاه الآخرين، فعدم التحقق وسوء الظن يؤدي إلى تكوين بعض الصور الذهنية السيئة عن الآخر، وفجأة يكتشف أنه كان على خطأ بانعزاله عن الآخرين ومقاطعتهم، لذا يجب عدم التعجّل في الحكم على الآخرين، فالأحكام المسبقة على الآخرين هي نتيجة لاستخدام حواسه كالسمع والبصر وهذه لا تكفي لفهم الأعمال والمواقف وتفسيرها بالشكل الصحيح، لذا لابد للإنسان أن يكون فاهما متبصرا في حكمه على الآخرين، ولا يذهب باتجاه سوء الظن بهم. وعن (عليه السلام) قال: (ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا). وعن الإمام علي (عليه السلام): (من ساء ظنه ساء وهمه)، وعنه (عليه السلام): (من غلب عليه سوء الظن لم يترك بينه وبين خليل صلحا).

قضية عدم الاستعجال في الحكم على الآخرين يجب أن تدخل ضمن البرمجة الذاتية للإنسان، ولا يتمسك بالصورة النمطية التي تؤدي في كثير من المجتمعات إلى الكراهية والقطيعة، فهناك أناس مرضى يعيشون على النميمة ونقل الأخبار غير الصحيحة، وهذا يؤدي بالنتيجة إلى فساد المجتمع وتدميره، لذلك لابد أن يكون لدى الإنسان نمط حكيم في الحياة عبر التواصل مع الآخرين وأن يكون قادرا على فهمهم باستمرار.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إياك والنميمة، فإنها تزرع الشحناء في قلوب الرجال).

حين يحكم الإنسان على الآخر حكما سيئا سوف يحصل بينهما جفاء، وهذا يؤدي إلى مزيد من الترك والابتعاد الاجتماعي، وهو سبب كبير في صناعة الحروب والصدامات، لذلك نلاحظ أن تصرفات وسلوكيات بعض الناس ومنهم له مركزه المهم في السياسة أو في السوق أو غير ذلك، نلاحظ أن سلوكياته قائمة على فهم غير صحيح أو أوهام موجودة في ذهنه تؤدي به إلى فعل هذا الشيء، وحين تسأله لماذا تفعل هذا الشيء، فيجيب، لأنني قرأته في مواقع التواصل الاجتماعي، أو سمعته من شخص آخر.

السؤال لماذا تحكم حكما سيّئا على الآخرين وتمارس عملية تسقيطهم، وتسيء إليهم على الرغم أن هذا من أشد المحرمات، والتسقيط والإساءة عملية سهلة عند بعض الناس، دون أن يحاول التحقق من الأمر، ومن يقف وراءه، وهناك جيوش إلكترونية في مواقع التواصل الاجتماعي مهمتها تسقيط الآخرين وصناعة المحتوى الكاذب في المنصات الإلكترونية التي أصبحت موطنا للأخبار الكاذبة وتسقيط الناس.

عن الامام محمد الباقر (عليه السلام): (ما من إنسان يطعن في عين مؤمن إلا مات بشر ميتة وكان قمنا أن لا يرجع إلى خير). وعن الامام جعفر الصادق (عليه السلام) قال: (إذا اتهم المؤمن أخاه انماث الايمان من قلبه كما ينماث الملح في الماء).

لذا لابد للإنسان أن يكون متأكدا قبل أن يطلق حكمه على الآخر، وعدم العيش في عالم الأوهام الذي قد يؤدي به أما للانعزال وترك المجتمع أو للصدام والتصادم مع الآخرين.

نقاط أساسية في حسن التواصل

كيف نفهم المقابل وما الذي يريده، وكيف نبادر باحترام الآخر كما نرغب بأن نحترم، والتواصل مع الناس بحسب ما يريدونه هم وليس بحسب ما تريده أنت، وقد وردت جملة (صلْ من قطعك)، لأنك لا تعرف ما هي الأمور التي قاطعك بسببها، فإذا تواصلت معه سوف تفهم تلك الأسباب.. هناك نقاط عديدة في إطار حسن التواصل منها:

1- يجب أن نفهم الناس حسبما يفكرون هم، حتى نستطيع أن نصل إليهم، وإلى أفكارهم وما يريدون، وهذا هو الذي يحقق حسن التواصل فيما بين الناس.

2- يجب احترام أفكار الآخرين، فحين نكون في جلسة، ربما ينطلق أحدهم ويسهب في كلامه ولا يعطي مجالا للآخرين كي يتحدثوا، السبب ربما ينظر إلى نفسه أكثر فهما وعلْما منهم، لكن لابد أن يكون هنالك توازن في فرص الكلام والنقاش والحوار، حتى يحدث تواصل حقيقي، لأنه من خلال تبادل الأفكار كل الأطراف يفهمون بماذا يفكر الآخرون، فإذا كانت المحاضرة تفاعلية، تصبح ذات فائدة بسبب طرح الأفكار المتبادلة، وتبادل الأفكار يحدث تواصل جيدا.

3- حسن الاستماع إلى الآخر، يقول الله تعالى: (لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية)، وعن الإمام علي (عليه السلام): (إذا لم تكن عالما ناطقا فكن مستمعا واعيا)، بمعنى لابد أن تكون ناطقا حكيما، وتكون مستمعا واعيا أيضا، فهناك تكامل بين الاثنين لأن الاستماع يجعلك تفهم الآخر ويجعلك قادرا على التواصل الفعال، فالوعي يوصل للعلم والعلم يعتمد على حسن الاستماع.

4- احترام الآخرين وعدم تهميشهم فالتهميش يؤدي الى القطيعة الاجتماعية، وعدم التواصل يؤدي الى تهميش الآخرين، لابد أن تكون هناك لدى الإنسان مبادرة وتواصل مع الآخرين وعدم تهميشهم، ولا يصح أن يفكر بأنه الأفضل والأقوى فيحتكر الاطار العام، والاستبداد يؤدي إلى توتير وتفكيك العلاقات الاجتماعية وهيمنة الأحادية الانعزالية المغرورة والمتكبرة وانتفاء الشراكات الإنسانية المطلوبة، وعن الامام علي (عليه السلام): (من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها)، هذه المشاركة لا تحدث في بيئة الاستبداد، لكن المشاركة هي التي تحقق التواصل الناجح والتقدم الاجتماعي.

5- العنف: يقف عائقا أمام التواصل فالإنسان الذي يتربى على العنف اللفظي والجسدي والمعنوي يكون على قطيعة مع الآخرين. وفي المقابل فان التواصل الذي يحقق كل الأهداف الاجتماعية الخيرة يعتمد على ممارسة اللاعنف بكل اشكاله، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه ولا نزع من شيء الا شانه)، وعن الامام جعفر الصادق (عليه السلام) قال: (من كان رفيقا في امره نال ما يريد من الناس).

* سلسلة حوارات تبث على قناة المرجعية تحت عنوان (جواهر الأفكار)

اضف تعليق