q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

اللامبالاة والانحباس الدنيوي

اللامبالاة وباء العصر (4)

الناس المتعلقون بالمادة، وبالدنيا تعلقا شديدا تجدهم مصابين بضحالة التفكير، مثلهم مثل الأعمى الذي لا يرى شيئا، بل حتى الأعمى أفضل منهم لأن الأعمى الحقيقي هو من يفتقد للبصيرة، فالأعمى يرى بقلبه وعقله، على العكس من هؤلاء الذين يمتلكون عيوناً لكنهم لا يروْن بسبب الحجُب الكثيرة التي تراكمت عليهم...

(حب الدنيا أصل كل معصية وأول كل ذنب)
 رسول الله (ص)

اللامبالاة موضوع خطير متشعب ومعقد، وظاهرة سلوكية تدل على العبثية، وأصبحت منتشرة في المجتمعات كأنها أشبه بالوباء، اللامبالاة أو عدم الاهتمام كما ذكرنا سابقا، هي ظاهرة انسانية تدل على عجز الإنسان وخوفه ويأسه وجهله ونكرانه، وبالتالي يتنصل هذا الإنسان عن مسؤولياته والتزاماته العامة، ويتخلى عن الاهتمام بالشأن العام، وهذا العجز واليأس والانشغال بالشأن الخاص، نراه موجودا على مر التاريخ، فكان الأنبياء (ع) في مواجهة مع هذا المرض الموجود عند الإنسان وفي المجتمعات. كما في قوله تعالى: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا).

الاهتمام بالشأن الخاص على حساب الاهتمام بالشأن العام يؤدي إلى الانحراف، وإلى نتائج غير جيدة، فإن تأملنا ما حدث في قضية الإمام الحسين (ع)، وتلك الفئة الكبيرة من الناس التي كانت تتفرج على مقتل الامام الحسين (ع)، واتخاذها لجانب الحياد، فإنه يدل على وجود مرض اللامبالاة لدى الكثير من الناس على مر التاريخ.

لكن في العصر الراهن أصبحت اللامبالاة ظاهرة منتشرة بصورة هائلة، لأسباب كثيرة، لهذا يجب أن نسلط الضوء على معنى أن تكون اللامبالاة ظاهرة.

إنها تصبح ظاهرة عندما تكون مستفحلة ومنتشرة جدا، فالسلوكيات والتصرفات إذا كانت فردية أو تتم من عدد محدود من الأفراد فلا تسمى ظاهرة، وليس لها تأثير كبير، لكنها حين تصبح حالة عامة تشمل الأعم الأغلب فسوف تكون ظاهرة، وهذا يظهر في ان المجتمعات تعيش في حالة من التخلف، والتفكك والهشاشة تكون قابلة لاستيعاب السلوكيات السلبية. فإذا أردنا أن نرصد هذه الظاهرة، فإننا نضعها في عدة صور.

الدنيا بين الوسيلة والغاية

الصورة الأولى التي يمكن أن نراها، هي قضية تعامل الإنسان مع الدنيا، فهي في حقيقتها وسيلة وليست غاية، ولكن الدنيا تصبح خطيئة عندما تكون غاية وليست وسيلة، بينما الدنيا هي وسيلة وليست غاية، وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (فليتزود العبد من دنياه لآخرته، ومن حياته لموته، ومن شبابه لهرمه، فإن الدنيا خلقت لكم وأنتم خلقتم للآخرة)، فالإنسان الذي يهتم بالدنيا وزخارفها، و(اكسسواراتها) كما يقولون، وزينتها، ولذاتها، فتصبح الدنيا عند هذا الإنسان غاية يعيش من اجلها وبالنتيجة تتسرب اللامبالاة اليه تجاه المسؤوليات الاصلية.

خطر التراكم المادي

الحياة أصبحت مشوشة بسبب التراكمات المادية، في الماضي كانت الحياة بسيطة وليس فيها تعقيد كبير كما هو الحال اليوم، حيث أصبحت المدن كبيرة متضخمة سكانيا، في السابق كان أغلب الناس يعملون في مهنة الزراعة، وكانوا يأكلون مما يزرعون، فكانت حياتهم بسيطة، لم تكن هناك أهداف مادية كبيرة لديهم. فعن الإمام علي (عليه السلام): (أصل الزهد اليقين، وثمرته السعادة)، فالبساطة تجعل من الدنيا مجرد وسيلة وليست غاية، لذلك لم تكن هناك مشكلات كثيرة، لكننا اليوم نعيش تراكم المشكلات، وباتت المظاهر المادية شائعة، كالسيارات الحديثة والمنازل الفخمة، وأجهزة الاتصال المتطورة، وكل الأشياء التي يمكن أن نسميها بـ (المشوشات المادية).

حيث يغرق الإنسان في الحاجات المادية التي تأخذه من حالة البساطة إلى حالة التعقيد وعدم اليقين والخوف من المستقبل الذي ينتج عنه آثار خطيرة جدا، أحد أكبر الأسباب التي تقف وراء هذه النتائج حين يكون الإنسان لامباليا، ويعيش حالة الاستغراق في التشويش المادي. فعن الإمام علي (عليه السلام): (يسير الدنيا خير من كثيرها، وبلغتها أجدر من هلكتها).

بين الفقر المادي والفقر الإنساني

يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همه جعل الله تعالى الفقر بين عينيه وشتت أمره ولم ينل من الدنيا إلا ما قسم له، ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همه جعل الله تعالى الغنى في قلبه وجمع له أمره).

والفقر هنا ليس المعني به الفقر المادي، وإنما الفقر الإنساني، لأن حب الدنيا والالتصاق بها يجعل الإنسان فقير نفسيا وعقليا وقلبيا، بالنتيجة الرزق موجود، والإنسان الذي يطمع بأكثر من رزقه، تصبح الدنيا همّهُ، وتسيطر عليه، فالإنسان حين يتكالب على الدنيا يصبح فقيرا، أما من يتعامل مع الدنيا كأنها وسيلة فسوف يصبح غنيا نفسيا وفكريا وعلميا.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (حب الدنيا يعمي ويهم ويبكم ويذل الرقاب).

المادية غالبا ما تجعل الإنسان محجوبا عن الحالة المعنوية، وعن النمو والتراكم الفكري والثقافي والعقلي، والمشوشات تجعله محجوبا عن النمو الإنساني، وغير قابل للتكامل، لأن الماديات لا تنمّي الإنسان، لأنها مجرد وسيلة، وهذا يعطينا رؤية عن كيفية تعامل الإنسان مع الدنيا.

يقول الإمام علي (عليه السلام): (إنكم إن رغبتم في الدنيا أفنيتم أعماركم فيما لا تبقون له ولا يبقى لكم)، في مفهوم الاستدامة بالاقتصاد والبيئة والمجتمع، وفي الثروات والموارد، الاستدامة متوقفة على كيفية استثمار الإنسان للموارد والثروات بحيث تبقى، على العكس من الاستهلاك المفرط الذي يحدث اليوم في العالم، حيث يتم استنزاف الثروات والموارد ولا يبقى أي شيء.

فالدنيا يجب أن تكون وسيلة، وعلى الانسان أن يكون عاقلا وفاهما للهدف الذي يعيش من أجله، وهذا النوع من الناس تجدهم دائما سعداء في حياتهم، لأن الدنيا بالنسبة لهم مجرد ممر لا أكثر، ووسيلة لكي يعيش الإنسان من أجل أهداف أكبر وأعظم.

يقول الله تعالى في كتابه الحكيم: (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار).

ويقول الإمام علي (عليه السلام): (أيها الناس إنما الدنيا دار مجاز والآخرة دار قرار، فخذوا من ممركم لمقركم).

السطحية بين البصر والبصيرة

أما الظاهرة الأخرى التي نلاحظها اليوم فهي ظاهرة السطحية، وهي تتعلق بالإنسان الذي ليست له بصيرة مدركا بعمقه، بل يعيش بحواسه، بمعنى أنه يعيش ببصرهِ، والبصر هو مجرد أداة حسيّة، وليس رؤية حدسية، أما الحالة الدنيوية وحب الدنيا والتكالب عليها، فانها تجعله سطحيا، لانه يتذوقها بحواسه ويرى الأمور من منظار مصالحه الخاصة فقط، ولا يبصرها بعمقه الداخلي.

هذه من المشكلات الكبيرة التي تجعل الناس لديهم أحكام خاطئة في الحياة، فيتربّى وينمو على هذه الأحكام التي يراها ببصره، كما نلاحظ اليوم أن هناك أناساً لديهم أحكامهم المصنوعة مما أبصروه بأعينهم، ولم يروها بفكرهم وتحليلهم وتعقّلهم ووعيهم، ولكن لابد للإنسان أن يرى الأمور من خلال بصيرته، حتى يستطيع أن يصنع أحكامه وآرائه بصورة صحيحة.

الدنيا تصيب الإنسان بالعمى، وتجعله يعيش في كوخه الخاص، وحياته الخاصة، وهذا ما يُسمى بالعمى الدنيوي، فهناك أناس بسطاء لديهم بصائر أفضل من بعض المتعلمين والمثقفين.

البصيرة المحجوبة

البصيرة تنشأ من طبيعة علاقة الإنسان مع الدنيا، فكلما كانت علاقة الإنسان مع الدنيا بعيدة عن المادية تكون بصيرته أقوى، وكلما كان الإنسان ملتصقا بالدنيا وقريبا منها تكون بصيرته محجوبة، لأن المشوشات المادية تحجب الرؤية الصحيحة عن الإنسان، وتجعله سطحيا.

فاللامبالاة هي نتيجة السطحية في رؤية الأمور، على سبيل المثال البعض ينطلي عليهم التضليل الموجود في الأخبار والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، والسبب هو عدم وجود التفكير بالأسباب والمسببات، فيصدقون كل ما يسمعونه أو يرونه وهذا خطأ، لأن الإنسان لديه عقل وفكر وبصيرة، ولابد له أن يتأمل الأمور ويتعمّق بها. يقول الله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).

يقول الإمام علي (عليه السلام) حول الدنيا: (من أبصر بها بصرته، ومن أبصر إليها أعمته)، بمعنى من ينظر إلى الدنيا كعبرة، أي يعيش أحداث الماضي والحاضر ويربط فيما بينها ويأخذ منها عبرة للمستقبل، أي يُبصِر بها، أما الإنسان الذي يكون هدفه الدنيا، لا يكون بصيراً، لأن الدنيا أعمته بمغرياتها.

لذا فإن الناس المتعلقون بالمادة، وبالدنيا تعلقا شديدا تجدهم مصابين بضحالة التفكير، مثلهم مثل الأعمى الذي لا يرى شيئا، بل حتى الأعمى أفضل منهم لأن الأعمى الحقيقي هو من يفتقد للبصيرة، فالأعمى يرى بقلبه وعقله، على العكس من هؤلاء الذين يمتلكون عيوناً لكنهم لا يروْن بسبب الحجُب الكثيرة التي تراكمت عليهم.

يقول الله تعالى: (وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً).

اللامبالاة والاستهانة بالذنوب والمعاصي

من الظواهر التي تنتج عن اللامبالاة ظاهرة الاستهانة بالذنوب والمعاصي، فإذا أردت أن تكتشف الإنسان غير المبالي فيمكن ذلك من ملاحظة استهانته بالذنوب، ويمكن أن نلاحظ ذلك في ترك الأهم والعمل بغير المهم، فهو نوع من الأخطاء التي يرتكبها البعض.

لكن الخطر الكبير يكمن في الاستهانة بالذنوب والمعاصي، فنلاحظ أنه يرتكب الذنب دون أي تردد أو اهتمام، ولا يحسب أي حساب لهذا الذنب وكم سيؤثر على حياته ويدمرها، وهذا التراكم من الذنوب والمعاصي، يؤدي إلى بناء جبال كبيرة من الأخطاء والانحرافات الشديدة التي تؤدي إلى تدمير الإنسان نفسه والمجتمع.

ولكن هل يستطيع أن يرى ذنوبه ويحاسب نفسه؟، نعم إنه يراها، فكل إنسان على نفسه بصير، نعم هو يرى لكنه يستهين بهذه الذنوب والمعاصي ويعتبرها من الأشياء التي تمرّ دون حساب، أو يظن بأن الله يغفر له، أو أنه لا يعبأ أصلا بهذه القضية، وهذه من المشاكل الخطيرة التي نواجهها اليوم في مجتمعنا.

رأس كل خطيئة حب الدنيا

وقد يكون الإنسان طيب وصادق، لكن المشكلة تكمن في الاستهانة الموجودة لديه، مثلا توجد لديه استهانة بعدم الصلاة، وبعدم إعطاء الحقوق الشرعية، لأن نفسه شديدة التمسك بالمال، أو قد يستهين بالصوم أو بقضية قطع الأرحام.

هذه الذنوب تؤدي بالإنسان إلى زيادة اللامبالاة التي تخلق بدورها حالة الاستهانة بالذنوب والمعاصي، فإذا أردت أن تعرف بأن الإنسان لا يبالي، فيمكنك ذلك من خلال ملاحظة استهانته بالذنوب.

يقول الإمام الصادق (ع): (رأس كل خطيئة حب الدنيا)، فالإنسان هنا يريد أن يتملك، ويسعى للوصول إلى السلطة بأي طريقة كانت، ويريد أن يستمتع بالدنيا بأي طريقة، ولكن (لا يطاع الله من حيث يعصى)، فلا يجوز التبرير والغاية لا تبرر الوسيلة، لا يصح أن يبرر الإنسان لنفسه ارتكاب الذنب من أجل هدف سامي، هذا ليس صحيحا وغير مقبول.

يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (حب الدنيا أصل كل معصية وأول كل ذنب)، فحب الدنيا يؤدي إلى ارتكاب المعاصي، وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن أول ما عصي الله به ست: حب الدنيا، وحب الرئاسة، وحب الطعام، وحب النساء، وحب النوم، وحب الراحة).

كل الأمور المذكورة في الحديث أعلاه تؤدي بالإنسان إلى ارتكاب المعاصي، لذا يجب على الإنسان أن ينظر بعين التروّي إلى أعماله وأن يتجنب اللامبالاة لأنها تقوده لاقتراف الذنوب، والاستهانة والتبرير، وهذه عواقبها شديدة جدا.

الشرارة الصغيرة تنتهي بحرائق كبيرة

من ضمن تحليل وتفسير وتفكيك ظاهرة اللامبالاة، هي عدم رؤية العواقب، ففي بعض الأحيان، عندما يكون الإنسان لامباليا، لايفكر بنتائج وعواقب النزاعات والصراعات والحروب التي يخوضها، لكن عاقبتها سيئة جدا، ينطبق هذا على الفرد، الجماعة، الدولة، الأمة، أو حتى العالم بأكمله، إنهم لا يفكرون بالعواقب.

الشعار المرفوع اليوم (أنا أولا)!!، ومن بعدي الطوفان، دعني أعيش أولا، وليأتِ الطوفان بعد ذلك!!، فالصراعات تعبر عن حالة اللامبالاة التي يعيشها الإنسان، فهو لا يهتم بالعواقب، بمعنى يدخل في حرب وليُقتَل فيها مائة مليون، أو مئة ألف وليتم تدمير البلد بأكمله، المهم هو أن أبقى أنا، ثم ماذا، إنه لا يحصل على شيء.

لقد تابعتُ وراقبتُ بشكل شخصي بأن الذين يدخلون في الصراعات والمشكلات، لا يحصلون على شيء، وهم أول الخاسرين، لأن الصراع والحرب خسارة، وليس فيها منتصر، المثل المعروف (لا منتصر في الحرب)، فالمشكلة الأساسية تكمن في أن اللامبالي والمستعد للمجازفة والمراهنة والمقامرة على الدخول في صراع أو حرب، من أجل تحقيق هدف فإنه يخسر رهانه ولايصل إلى أمانيه.

ان العالم يعيش حالة من الاستنزاف الشديد بسبب غياب التعاون الإقليمي أو العالمي بين الدول، أو الجماعات، أو المجتمعات، من أجل حل المشكلات، فكل من هؤلاء يفكر بنفسه ولا يبالي بالمستقبل، ولا بالنتائج الطيبة التي يمكن أن تحصل في حال تحمل المسؤولية وتحقيق التعاون، لكن لا شيء مهم لديه وليحترق العالم كله.

كيف تنشأ الفتن والصراعات؟

يقول الإمام علي (ع): (حب الدنيا رأس الفتن وأصل المحن)، فهناك من يعيش في إطار الدنيا الضيقة، كلها فتن وصراعات على السلطة والمال والموارد والكراسي، ثم ماذا؟، تشبّ فتن ومحن كبيرة، بالفتن تنتج الخسائر الإنسانية الكبيرة.

هناك نوعان من الناس، الأول هو الإنسان الذي يحب الدنيا من أجل أن يعيش ويعيش غيره، بمعنى لا يتملكه حب الدنيا، أي ينظر إلى الدنيا كوسيلة، ليس المعني بالنظر إلى الدنيا كوسيلة أن لا يعيش الإنسان مرفّها، بالعكس من ذلك فليكن مرفّها لا مانع من ذلك، لكنه يجب أن يكون إنسانا صالحا.

الإنسان الذي يعيش لنفسه ويقول أنا أولا، فهو لا يحترم الآخرين ولا يقدرهم بل قد يتجاوز ويعتدي عليهم، هذه هي المشكلة الخطيرة، أما الإنسان الصالح فهو الذي يريد أن يعمّر الدنيا من أجل الآخرة، فالنتيجة الطيبة في الدنيا تقود الإنسان في الآخرة إلى نتيجة طيبة، والإنسان الذي يتعامل مع الدنيا تعاملا صحيحا تكون نتيجته في الدنيا صحيحة، ونتيجة رحلته إلى الآخرة سليمة.

أما الإنسان الذي يعيش الصراعات والطمع والوله بالدنيا، والوله يعني العيش الأعمى فلا يعمر ولا يخدم ولا يُصلح ولا يقضي حوائج الناس، ولا يبني مدينته ولا يساعد الناس الفقراء، أما إذا حصل هذا فهو حب جيد للدنيا، لكن العشق الأعمى للدنيا يجر الإنسان إلى الوله المطلق بها.

الوله بالدنيا

يقول الإمام علي (ع): (رأس الآفات الولَه بالدنيا)، ويعني بالآفات هي الأزمات والامراض التي تفتك بالمجتمعات، وحين نرجع إلى أسبابها وجذورها فسوف نكتشف أنه الوله بالدنيا، وحب التملك كالأراضي والبيوت بأية طريقة كانت، ولديه وله كبير بالمال، سواء عبر الفساد أو القمار أو بالغش، أو عبر الفساد المالي والإدارة و (الرشوة)، لذلك فإن كل الأزمات التي نعيشها سببها الوله بالدنيا والبحث عن الرفاه.

وإذا أردنا أن نتطرق إلى الرفاه، فإننا سوف نسأل أولا ما هو معنى الرفاه، يبدو أن الناس يريدوا العيش بطريقة مادية، ولا يفكروا بالمعاني الكبيرة الموجودة في الحياة، فالرفاه الحقيقي هو أن يعيش الإنسان عيشاً إنسانيا متكاملا بين المادة والمعنى، وليس العيش من أجل أن يأكل ويشرب، ويسكن القصور الفخمة فقط.

هؤلاء الذين يغرقون في الجانب المادي للحياة، تجد لديهم شراهة فيدخلون المطاعم ليلتهموا الطعام، لكنهم بالمقابل غالبا ما يمرضون بسبب إقبالهم على الطعام بما يفوق حاجة أجسادهم، يأكلون أكثر مما يحتاجون، فيُصابون بشتى الأمراض، كارتفاع ضغط الدم بسبب انسداد الأوعية الدموية، فتناول الطعام أكثر من المطلوب مضرّ بالإنسان.

فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من قل طعمه، صح بدنه وصفا قلبه، ومن كثر طعمه، سقم بدنه وقسا قلبه).

هذه هي حياة الترف، حيث جاء في الآية الكريمة (وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَٰهَا تَدْمِيرًا)، فالرفاه المادي المطلق ينتهي إلى تدمير البلاد، وتدمير الأبدان والنفوس.

ما هو معنى الرفاه الحقيقي؟

الرفاه له معنيان، الأول المعنى الإيجابي: وفيه يعيش الناس منعَّمين، أي توجد لديهم كرامة من خلال العيش في إطار السلم الاجتماعي والتعايش الآمن، ولا يتعرض لهم أحد، وهذا هو الرفاه الحقيقي يشمل الجميع، من خلال توازن الحقوق والواجبات وعدم وجود التفاوت الطبقي، فمن حق كل إنسان أن يعيش حياة كريمة.

الثاني هو المعنى السلبي: حيث يسعى فيه الإنسان إلى تملّك كل ما لا يحتاجه، ويحاول الحصول على المال بأي طريقة أكثر مما يحتاج، وهو لا يمتلك هدفاً في الحياة، وهذا هو معنى الترف، فأصبحت هذه المشكلة كبيرة في عالم اليوم وتسمى (الاستهلاك) الذي يعدّ أحد أكبر أسباب الأزمة الإنسانية والاقتصادية والبيئية والمناخية التي يعيشها العالم.

كلما ازداد الاستهلاك البشري يزداد الاحتباس الحراري والغازات الملوثة للبيئة، وكلما كان هناك طلبا على السلع بسبب الاستهلاك الكبير فالمصانع تعمل وتنتج مما يزيد من الاحتباس الحراري وتلويث الجو.

خلاصة القول الاستهلاك اليوم يعمل على تدمير البشرية، لأن أقل إنسان يستهلك اكثر مما يحتاج بعشرة أضعاف، فما بالك بالإنسان المتمكن ماديا؟

خطر التبذير

اليوم العائلة الواحدة لا تكتفي بسيارة واحدة فتجد لديها خمس سيارات!!، أو ثلاث أو اثنتين على الأقل، أو مثلا تقوم العائلة بتشغيل أجهزة التكييف في جميع الغرف دون الحاجة إلى ذلك او استبدال اثاثهم وملابسهم.

وهذا نوع من التبذير، (إن المبذرين كانوا أخوان الشياطين)، والتبذير يؤدي إلى هدر الموارد وتدمير البيئة، وهذه مشكلة خطيرة تقود إلى استنزاف العالم عن طريق تزايد الاستهلاك، وحين تدخل الآن في الأسواق فكم هي الحاجات الأساسية المعروضة وكم نسبة ما يحتاجه الإنسان منها، فالحاجات الكمالية اليوم هي صفة الاستهلاك البشري بلا معنى وبلا هدف.

يدل ذلك على اللامبالاة في أساليب العيش اليوم، وقد لاحظنا أن التقدم المادي هو الذي سهل الأمر من ناحية تطور الصناعة، لذا أدى الاستهلاك إلى إزالة الغابات وأدى إلى زيادة الزراعة واستنزاف المياه والموارد الأخرى.

لذلك تزداد حرارة الجو، وهذا يدل على أن البشر مصابون باللامبالاة تجاه حاضرهم ومستقبلهم ومستقبل الأجيال المقبلة، لذلك علينا أن نعي هذه المشكلة الكبيرة والخطيرة ونبحث في أسبابها، ويكون البشر يدا واحدة لإعمار الأرض والعيش باعتدال.

* سلسلة حوارات تبث على قناة المرجعية تحت عنوان (جواهر الأفكار)

اضف تعليق