q
لو ان العراقيين تعلموا الدروس من السنوات الماضية، لما خفيت عليهم الخبايا وبنيت علاقات إيجابية مع الجهات الحاكمة، ولم نضطر الى انفجار الاحداث كما حصلت في الأشهر المنصرمة، ونستعيض عن ذلك بعلاقات متبادلة قائمة على التكامل بين المواطن والسلطة، لبناء دولة المؤسسات المبنية على تقديم الخدمات للمواطنين بمختلف اعراقهم...

لم ينس العراقيون مشهد دخول قوات التحالف الى العراق في نيسان من عام 2003، اذ لا تزال أصوات سرف الدبابات عالقة في اذهان الكثير منهم، الذين ترقبوا بصمت ماذا سيحدث والى اين سينتهي المطاف، فالجميع لا يعرف مصيره، الفوضى قادمة، والوضع السياسي ربما هو الوضع الأكثر تأرجحا لم يشهده البلد منذ أكثر من ثلاثة عقود.

كنا نجلس انا واصدقائي نشاهد ألسنة النار تتصاعد الى السماء جراء الانفجارات التي تحصد الأرواح في أماكن عدة، بينما الامريكان جلبوا الحاكم المدني بول بريمر ليحكم العراق وفي عهده اُرتكبت العديد من الأخطاء، من أبرزها حل الجيش العراقي السابق وموظفي وزارة الإعلام وغيرها من الدوائر الأمنية الأخرى مخلفة بذلك الإجراء جيوش من العاطلين عن العمل.

بقيت هذ المشكلة تتفاقم مع تنامي الوعي السياسي فبدأت الجماهير تتعاطى مع الأوضاع المستجدة، وتتبادل أطراف الحديث عن الأوضاع المضطربة السائدة، وما سيحدث بعدها من تغيرات على المستوى المحلي والإقليمي للعراق، اذ سمحت له الاحداث الانفتاح على مختلف الصُعد، واخذ دوره المغيب منذ عقود، وبالفعل حدثت التغيرات المتوقعة وتنفس الافراد الصعداء.

مرت الأيام والسنين ولم يتغير في الأوضاع المعيشية والخدمية الشيء الكبير الذي يستحق الإشادة مقارنة بما هُدر من الأموال من قبل الأحزاب المشتركة بالعملية السياسية منذ تغير النظام ولغاية الآن، ولا نزال ندفع الثمن باهظا بفقدان فرص العمل والبحث عن لقمة العيش التي تمثل الهم الاكبر والحلم الضائع لدى الكثير من العراقيين الذين لا ينتمون او ينتسبون لدائرة او طائفة سياسية ما.

قرابة العقدين من الزمن ستنتهي على دخول قوات التحالف الى العراق، ولا تزال الهموم تتجدد والاسرة التي كانت تعاني من عدم توفر فرصة عمل لاحد افرادها، تضاعفت معاناتها وأصبح لديها شخصين او أكثر يفكرون بكيفية العيش ولم يجدوا من يخفف همومهم ويحمل عنهم جزء من أعباء الحياة المتراكمة.

ولم تكتفي الأوضاع بهذا الحد من التراجع، حتى شملت مختلف مفاصل الحياة، فتعقد المشهد عندما أصبح هم السياسيين الوحيد هو الحصول على أكبر قدر من المكتسبات والمال السياسي الذي يعتبر داينمو التأثير على المواطنين لحصد أصواتهم في العمليات الانتخابية التي تعكس النظام الديمقراطي الشكلي الذي اصطبغ فيه البلد.

واكتفى السياسيون بالاهتمام بالمناطق التي توفر لهم مزيدا من الحظوظ وتقربهم من كرسي البرلمان، بينما انقطع ارتباطهم او علاقتهم بالمناطق الفقيرة المعدومة، فبقيت تلك المناطق ترزخ تحت وطئة الإرادة الحزبية الضيقة التي لم تتسع دائرة اهتماماتها أكثر من المصالح المتعلقة بهم، تاركة المواطنين يسبحون في بحر الهموم والاوهام بل والوعود الكاذبة التي يطلقونها بصورة يومية.

اتسعت الفجوة بين الطبقتين الحاكمة والمحكومة وتضخمت المعاناة وتفجرت على شكل مظاهرات غاضبة، تعبر عن رفض الأوضاع السائدة التي اتسمت بنوع من الخيال في التفنن بسرقة قوت الشعب، وممارسة أبشع الأساليب للتحايل على المواطنين واللعب بمقدراتهم، أضف الى ذلك طريقة التعامل مع الجموع التي خرجت مطالبة بالحقوق، فقد اعتبروا التظاهر سلوك خارج عن القانون بشكل تام وتم اخماد الثورة عبر الاعتقال والترهيب تارة، والقتل تارة أخرى.

ورغم كل ما حصل فان الشعب العراقي لم يتعلم الدرس من السنوات الماضية، وعادت نفس القوى التي حكمته وضيعت حقوقه، لممارسة أساليب الخداع والاستفادة من حاجة المواطنين المتواصلة لضروريات الحياة اليومية والخدمات كتعبيد الطرق ومد انابيب المياه للمناطق الأكثر بعدا عن مركز المدينة، فضلا عن تقوية شبكات الكهرباء او استبدالها بأخرى أكثر قدرة على تشغيل الأجهزة المنزلية.

يحكي أحد سكنة قرية نائية في احدى المحافظات الجنوبية عن تجربة أهالي المنطقة مع المرشحين الجدد، ففي الانتخابات السابقة وجزء من الوعود الانتخابية هو نصب محولات كهربائية، نتيجة ما يعانيه الأهالي من ضعف حاد في التيار الكهربائي، وبالفعل تم نصب المحولات، ولا تصيبك الصدمة عندما تعلم ان هذه المحولات لم تحظى بالتشغيل طيلة السنوات الثلاث السابقة، ومع اقتراب موعد الانتخابات المقبلة هذه عادت نفس الجهات التي نصبتها سابقا لإكمال العمل الخيري!

وفق هذه المعطيات فان القوى السياسية لا يمكن ان تبني علاقة أفضل مع المجتمع الذي فقد الثقة بها، وتبقى نقاط الالتقاء بين المواطن والمسؤول هي المصلحة الشخصية او الفئوية، وتنتهي بزوال الحاجة منها، وبالتالي تكون الارتباطات غير وثيقة وتنقشع بأول عاصفة تهب في سماءها.

لو ان العراقيين تعلموا الدروس من السنوات الماضية، لما خفيت عليهم الخبايا وبنيت علاقات إيجابية مع الجهات الحاكمة، ولم نضطر الى انفجار الاحداث كما حصلت في الأشهر المنصرمة، ونستعيض عن ذلك بعلاقات متبادلة قائمة على التكامل بين المواطن والسلطة، لبناء دولة المؤسسات المبنية على تقديم الخدمات للمواطنين بمختلف اعراقهم.

اضف تعليق